الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شتاء جهنم ..... قصة قصيرة

كاظم الشويلي

2009 / 11 / 29
الادب والفن




اشتد البرد في زنزانتي التي لا يضيئها سوى مصباح معلق في السقف كأنه فانوس يلفظ أنفاسه ألا خيرة ، ناديت ســـجاني الذي يقف على كرسي طويل في زاوية الغرفة وبفمه سيجارة:
- أريد مدفأة تقيني برد الليل الشتوي اللامتناهي .
كان قصير القامة جدا ، زم شفتيه بلا مبالاة ، وظننت أن توسلاتي سوف تصيب المرمى واكسب الجولة دون الخوض في سياسة العصا الغليظة.... قلت له بعطف ورقة :
- وإذا لم تـكن هناك مدفاة فتكفيني بطانية واحدة لفراشي وغطائي وسوف أتوسد حذائي .... نعم لا بآس ببطانية.... واحدة ....

الشي الوحيد الذي لم أجد له تفسيرا هو : هل كنت أهذي بسبب البرد القارس أم إن سيدي السجان لا يفقه ما أقوله . قطب حاجبيه ، ربما أدهشه طلبي .. استدركت طلبي و أنا ألمح حلقات دخان سيجارته المحلقة في فضاء الزنزانة و كأنها حبال مشانق ، قلت :
- لا أريد بطانية ، اذ شق الأمر عليك ، أعطني لباسا شتائيا يتناسب مع طقس هذه الزنزانة الرهيبة...
أغمض السجان عينيه و سبح بعالم آخر ، تمتم بكلمات غامضة مثل كاهن فرعوني ، سحب الدخان عميقا ثم أخرجه مرة أخرى على شكل حلقات ، آه تقتلني هذه الحلقات ، تذكرني بالحبال الملفوفة على رقاب الضحايا. توسلت به كما يتوسل الغريق بقشة ، آه من سجان كتمثال روماني لا يتـحرك، نقرت على قمة رأسي بأناملي الخشنة و الذي تمخض بفكرة رائعة سارعت بعرضها أمام سجاني ذو الوجه الصخري :
- البرد سوف يهلكني أسعفني بشاي ساخن يقويني على تحمل البرد ، أسناني تصطك ...
نفث دخان سيجارته بصمت قاتل ، ثم فرك انفه المستطيل و كأنه يستعد لخوض معركة ومضى يحدق في قسمات وجهي البائس ، تلاقت أناملي فوق رأسي و تلمست أذني ثم رجوت هذا الرجل الذي وقف كالوتد وهتــــفت :
ـ أ يها السجان المقدس ! ادع لي الطبيب فقد اشتد ألمي ، أن أنسانا سوف يموت قبالتك وإذا لم تستطيع فاجلب لي أقراص جميع الآلام ، فإذا لم تستطيع فأعطني قدحا من ماء نقي اروي به ضمأي ، و ذلك اضعف الأيمان ...
ظننت أنني في زنزانة قانونية كالتي قرأت عنها في صحف النظام ، لكن ما بال هذا الشرطي يقتلني بنظرات ميتة و كأن أساطيله غرقت في المحيط . كدت أبكي عندما ذكرت أمي وقد سهرت الليالي تذرف الدمع على أبي حينما أودع السجن قبل سنين مازالت كلماتها ترن في آذني مثل ناقوس كنيسة يقرع في واد ، كانت تـنشف دمعـاتها بمند يل عتيق ، و تلمــس كتفي برفق وتقــــــــــول :
- السجن للرجا ل يا ولدي ....
يا أماه هذا في عصركم ، أما في عصـــرنا فمن يطيق نظـــرة السجان وســوط الجـلاد ولسعة الكرسي الكهـربائي و حـوض التيزاب و ا لمروحة التي تدور ملـــــــيون مرة في الثانية .... وأشياء لا اعرفها أنا ولا تعرفينها أنت و..... و.... و.... سألت هذا الد ب المنفوخ جهلا وغباءا :
- كيف يطــــــيب لك الوقت في سـجن نــــــــزلاوه أحرار وجـــــــلادوه عبيد ؟
أماه هذا المغفل البليد لا يجيب مرر أصابعه فوق شاربه الكثيف ورمقـــني بنظــرة حمــقاء سألته مرة أخرى :
- ألا تحب الحرية أيها السيد ؟ اعلم أنك مشغوف بها ، و أنا كذلك يا سيدي اعشقها وأود أن أعود لبيتي و أمي التي تنتظرني و قد أرهقتها سنوات الانتظار ، فهذا السجن كابوس مرعب ....
طقطقت أناملي ، ثم رفعت قدمي اليسرى من المستـنقع الذي يغطي أرضـية الزنزانة حتى ركبـتي و توسـلت بسجاني الذي مازال يـنفث الدخان ، قلت:
- رحماك أيها السيد ! لا أريد شيئا سوى الجلوس ، فأنا لا أستطيع في هذه الغرفة المغطاة بالوحل و الماء الآسن وفضلات رفاق غادرونا أن اجلس مثل باقي البشر ، هذا المستـنقع سوف يشل قدمي ....
رمى بعقب السيجارة إلى الماء الذي يملا الزنزانة تأهب فوق كرسيه الطويل الذي يغوص نصفه في ماء الغرفة لضربي ، أمسك سوطه بإحكام ، رفعه إلى الأعلى ولسع به كتفي .... لقد انتهت استراحته بعد انتهاء سيجارته ، وهاأنذا استقبل سياطا جديدة من العذاب اللامتناهي ....


كتبت عام 1996









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب