الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كبيرة التعذيب

لؤي حسين - سوريا

2004 / 6 / 13
حقوق الانسان


ليس التعذيب من كبائرنا، ولم يكن كذلك يوما، نحن أبناء الشرق أو أبناء العرب أو أبناء الإسلام أو أهل التخلف. بل كثيرا ما نحلله إن وقع على غيرنا ولو كان ذلك بأيدينا. ولا نستهجنه إلا إن وقع علينا بأيدي غيرنا كما حصل في أبو غريب. فاستنكارنا لواقعة التعذيب الأميركي للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، جاء بهدف النيل من الأميركيين وليس دفاعا عن المعتقلين، أو غيرة على الكرامة الإنسانية أو صونا لحقوقنا.
ربما لا نمجد التعذيب ولا ندعو له علانية، لكن بكل تأكيد لا ننبذه ولا نعتبره فعلا حراما، ويمكننا أن نجد في خطابنا الشفهي عند كل الجهات وعلى كل المستويات عبارات وكلمات تبارك التعذيب والإساءة الجسدية للخصوم، ويسهل علينا اتهام الغير بالخصومة. وغالبا لا نهتم لأمر التعذيب كونه يقع على الأفراد وليس على الأمة، التي نرى تحققها مستقلا بشكل نهائي عن تحقق الفرد، الذي يقتصر دوره في ثقافتنا على أنه مكلف بحمل رسالة الأمة. ودوما ما نشفع لجلادنا إن كان ابن جلدتنا إن هو شتم إسرائيل ومن في خندقها، بل حتى نحلل له تعذيب أفراد منا بحجة انشقاقهم عن مسيرة التحرير. فكل ثقافة حركة التحرر العربي بكل ألوانها لم تنبذ التعذيب، وغالبا ما مارسته قواها وفصائلها باعتزاز ومباهاة. وكان ذلك وفيرا خلال الحرب > اللبنانية، خاصة في المراحل التي كانت جهات غير لبنانية أطرافا فاعلة بشكل مباشر فيها، مثل السوريين والفلسطينيين، إضافة الى البنانيين وغيرهم.
ليس هذا للمقارنة بين الانتهاكات الأميركية في سجن أبو غريب وبين انتهاكات أغلب الأنظمة والسلطات العربية إن لم يكن جميعها. فمقارنة كهذه لا معنى لها، وستكون تمييعا للموضوع وتخفيفا من بشاعته. ففعل التعذيب يجب دوما إدانته والتصدي له والتشهير به وتجريمه، بغض النظر عن ظروف الواقعة وعن الجهة الفاعلة أو من يقع عليهم الأذى، ولا يخفف من جرميته إن كانت جهات أخرى تقوم بأبشع منه أو أفظع.
وإن كان هناك شيء في هذا الموضوع تجوز فيه المقارنة وتصح، فليس واقعة التعذيب بل ردود الأفعال عليها والمواقف التي اتخذت منها، بدءا بقرار الصحف الغربية بنشر الصور. فالمقارنة يجب أن تقوم بين تعاطي المثقفين والإعلاميين والسياسيين الغربيين مع الموضوع وتعاطي أمثالهم من العرب وجيرانهم الإيرانيين. فإذ نرى أن الغربيين تناولوا الموضوع مستنكرين ممارسة الإدارة الأميركية لسجن أبو غريب، غيرة منهم على قيم الحضارة الغربية التي نسميها القيم الإنسانية، ودفاعا عن حقوق المعتقلين العراقيين، بالإضافة إلى غيرتهم على العناصر المرتكبين فعل التعذيب مما سيصيبهم من أذى وتشوه جراء ممارستهم تلك الأفعال. أما أغلب المثقفين والإعلاميين والسياسيين العرب فلم يهتموا أبدا بضحايا التعذيب، إذ نلاحظ أن كل صراخهم وكل قولهم هو محاولة للنيل من الولايات المتحدة، بل بدا على بعضهم السعادة من حدوث الواقعة لشعوره أنه ضبط الأميركيين بفعل شائن يدحض ادعاءهم بنشر الحرية وقيم الديموقراطية. هؤلاء > كاذبون بادعائهم الغيرة على حقوق الإنسان، وكاذبون بادعائهم الدفاع عن القضايا العربية ومناصرتهم شعب العراق، بل وكاذبون أيضا بمعاداتهم للإدارة الأميركية. وهؤلاء <<البعض>> حاولوا قاصدين تلميع صورة أنظمة الاستبداد العربي وإغماض عيوننا عن ارتكاباتها بحقوقنا، حين برروا تركيزهم على فضيحة أبو غريب وإهمالهم ارتكابات الأنظمة العربية، بأن الولايات المتحدة تدّعي نشر الحرية والديموقراطية، أما الأنظمة العربية لم تدّعِ ذلك. وهذا غير صحيح، لأن هذه الأنظمة ادعت دوما أنها حاملة رسالة خالدة لإقامة الحرية والعدالة الاجتماعية.
إن مجرد نقل الموضوع من مجاله الحقوقي والإنساني إلى البورصة السياسية والاكتفاء بمحاولة تحقيق نقطة كسب على الولايات المتحدة هو انتقاص وإضعاف من حجم الإهانة التي وقعت على المعتقلين العراقيين. فليس مهمّاً من ناحية المعتدى على جسده أو كرامته (أستند بهذا على تجربتي الشخصية) إن كان المعتدي ابن جلدته أو محتله أو غازيه، بل ربما يكون الوقع النفسي عليه أكبر إن عذبه ابن جلدته.
ليس التعذيب تحصيل حاصل لوجود الاحتلال، كما أنه ليس تحصيل حاصل لوجود أنظمة استبدادية أو غير ديموقراطية. هذا تسخيف لبشاعة التعذيب أو لأي انتهاك لحق من حقوقنا. فكما أن انتهاك حقوقنا ليس تحصيل حاصل لأنظمتنا الاستبدادية، فكذلك ليس إقرارها أو الدفاع عنها جزءا من سلة أو <<بقجة>> أمور تتحقق آليا بتغيير هذه السلطات. فثقافة لا تعتبر التعذيب الجسدي للأفراد وإهانتهم من الكبائر، وترى أن مقابر صدام الجماعية تحصيل حاصل لاستبداده وللدعم الأميركي له في فترة ما، ثقافة كهذه لا يمكنها إنتاج أنظمة ديموقراطية ولا حمايتها في حال تحققت في غفلة تاريخية.
وليس التعذيب والاعتقال السياسي ومنع الحريات تحصيل حاصل لتخلفنا، ولا هو قدرنا أو أحد مكونات هويتنا. بل ربما قبولنا بهذا الأمر وتواطؤنا معه يمكن أن يكون، بوجه ما، سببا لتخلفنا. وقد يكون المفصل الأساسي للانعطاف عن نفق التخلف، أو العتبة الأولى لدخول باحات الحضارة، البدء بإكبار حقوقنا الفردية وتحريم قطعي لانتهاكها من أي جهة ولأي سبب، وتجريم تعذيب أفراد منا، والامتناع عن تقديم شفاعة للجلادين لا إن واجهوا أميركا ولا إن جابهوا إسرائيل. ولا نهوّن من انتهاكات الأميركي، أو غيره، لحقوقنا بحجة أن سلطاتنا تقوم بأفظع مما يقوم هو به.
أشك بأن الصور التي رأيناها عن سوء معاملة المعتقلين في سجن أبو غريب هي كل ما قام به السجانون الأميركيون، فلا بد أنهم قاموا بأفعال أشنع وأفظع لم تطلها الكاميرات الغربية، ولم يلحظها أو يهتم بها غالبية الإعلاميين والمثقفين والسياسيين العرب، المشغولين بإثبات أن الوجود العسكري الأميركي في العراق هو احتلال وليس إرسالية تبشيرية، ويروجون أن ضرر هذا الاحتلال يقع على التراب وليس على المعتقلين أو الجوعانين أو البشر العراقيين. لهذا نجد أن قوافل إمداداتهم ومعوناتهم توقفت بعد سقوط صدام، لأن زيادة عدد المرضى والجوعى والمعتقلين الآن يمكن أن يعمق المأزق الأميركي.
أميل الى الاعتقاد بأن ممارسة السجانين الأميركيين سببها نظرتهم المتعالية للإنسان العراقي، واعتبار حقوقه مستباحة للغريب كونها مستباحة أصلا ودوما للقريب. ولا أرى أن واقعة سوء معاملة المعتقلين وتعذيبهم في سجن أبو غريب هي أصيلة لدى الأميركيين، وإلا لما كان الذي أثار الموضوع واعتبره فضيحة كبرى هم الإعلاميون والمثقفون الأميركيون، رغم أن دافع بعضهم لم يكن غيرتهم على العراقيين بل على وطنهم الولايات المتحدة، حين اعتبروا أن تلك الارتكابات التي قام بها مواطنون أميركيون تشكل مساسا وخرقا للقيم التي يجتمع عليها الأميركيون، ولقد عبروا صراحة أنهم ضد التعذيب إن وقع عليهم أو أوقعوه هم على غيرهم، معتبرين كلا الأمرين يسيء لقيمهم واجتماعهم.
ولم يخل هذا الأمر من مهزلة حين أصبح لعدة معتقلين غير معروفين هذا الشأن المهم وهذه الحفاوة الإعلامية (التي أثارت غيرتي) لمجرد أنهم تعرضوا للتعذيب على أيدي جنود أميركيين، في مقابل عشرات الألوف من المعتقلين العرب تعرضوا للتعذيب على أيد <<وطنية>>، فلم ينل هؤلاء اهتماما من أحد، رغم أن بينهم الكثير من الأسماء المعروفة والمشهورة. ولم يعتذر منهم أحد، لا رئيس ولا وزير ولا برلمان ولا مجرد جندي. ولم يتعهد أمامهم أحد بعدم تكرار مثل هذه الأفعال، بل على العكس تماما، فمن سبق وانتهكت حقوقه مرة عندنا على غير يد الأميركيين تستباح كل حقوقه، ويفقد أي ضمانات، ويبقى عرضة للاعتقال المتكرر وإساءة المعاملة على أبسط الأمور. قد يكون هذا الجانب هو أكثر ما يستدعي المقارنة بين الإجراءات والمواقف التي اتخذتها الإدارة الأميركية ومؤسساتها الرسمية، كالاعتذارات والتعهد بمحاكمة كل المتورطين بهذه الفضيحة، وبين ما تقوم به الآن العديد من السلطات العربية من مثابرتها على انتهاك حقوق مواطنيها. فالسلطة السورية، كمثال، زامنت اعتقال طلاب وناشطين في حقوق الإنسان، وأساءت معاملتهم (بحسب بيانات هيئات حقوق الإنسان السورية)، مع فضيحة سجن أبو غريب. والأنكى من هذا قيام الإعلام السوري وبعض المسؤولين فيه بحملة على الولايات المتحدة مستهجنين فيها ما حصل في سجن أبو غريب.
أتمنى أن نستفيد مما حصل في سجن أبو غريب ورد الفعل الأميركي بتجاوبه وخضوعه للإعلام، فنجعل منه درسا، عسانا نحاول أن نكرس استنادا له أن تعذيب أي إنسان، عربيا أو أعجميا، هو كبيرة لا تتساوى معها أفعال أخرى، ولا تبررها أو تخفف منها أي ادعاءات سياسية. وأن التعذيب جرم مستقل عن الاعتقال وعن الأحكام الجائرة وعن الاغتيال أو الإعدام أو القبور الجماعية. وأن وقف الانتهاكات الأميركية في المعتقلات العراقية يمكن أن يتم قبل تحرير العراق، وأن السجناء العراقيين بحاجة للحماية من التعذيب وهم في ظل الاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتهامات للاتحاد الأوروبي بتمويل اعتقال المهاجرين وتركهم وسط


.. مدعي الجنائية الدولية يتعرض لتهديدات بعد مذكرة الاعتقال بحق




.. مأساة نازح فقد فكه في الحرب.. ولاجئون يبرعون في الكوميديا بأ


.. صلاحيات ودور المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة مرتكبي جرائم ا




.. كلمة أخيرة - أمل كلوني دعمت قرار الجنائية الدولية باعتقال نت