الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث البلاغة والبُلغة

صلاح الجوهري

2009 / 12 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


منذ ما يقرب من سنة حوكم الصحفي العراقي "منتظر الزيدي" بثلاث سنوات سجن لأنه رشق الرئيس الأمريكي بحذائه أثناء مؤتمر صحفي عقد بالعراق .. وقد صادف موضوع المؤتمر الصحفي الذي عقده بوش الحديث عن الديمقراطية التي أرستها الولايات المتحدة في العراق. وجاء حذاء "الزبيدي" ليعلن للعالم انتصار الديمقراطية في العراق، والتي ينتقدها منتظر الزبيدي نفسه. ... وكان هذا الحذاء هو آخر انتصارات بوش معلنا للعالم وجود قضاء حر ونزيه سيحاكم به هذا الشخص.
فقد حوكم الصحفي الحافي بثلاث سنوات سجن لإهانته رئيس دولة ونفذ الحكم وخرج بعد الكثير من الإستئنافات والإلتماسات تحت مظلة "الديمقراطية" ومظلة "حقوق الإنسان". وبعد سنة واحدة أخلى سبيله مراعاة لظروفة ولقبول الإلتماسات المقدمة منه إلى هيئة المحكمة.

عاين الصحفي "منتظر الزبيدي" بأم عينيه نجاح الديمقراطية، فها هو يتجول بين العراق والدول العربية وأوروبا بعد أن قضي عاما بالسجن تنفيذا لعقوبته. عاين بأم عينه كيف نجح بوش في إرساء الديمقراطية التي غابت عنه سنوات هي عمره.

ألم يكن يعلم أن إلقاء الحذاء في وجه مجرد "خادم لصدام" كان كفيلا بأن يجعله هذا لا يرى غدا. ألم يكن يعرف أن مجرد التفكير في أمر كهذا في زمن صدام كان كفيلا بأن لا يرى أحد من أسرته الشمس !! وربما يطال من كان يجلس بجواره أثناء رشقة الحذاء!!

كان يعلم، ولم يكن يجرؤ على فعل مثل هذا أمام صدام حسين.

ولكن من أهداف الديمقراطية التي أرستها أمريكا بالعراق أن تنتقد الحاكم كيفما شئت فأهدى "منتظر الزيدي" بوش أحسن انتصاراته وأخرها.
ولكن العرب للأسف مغيبون، لا يرون أبعد من أنوفهم، لا يرون كيف حقق بوش بنتيجة عملية أمام الجميع أعلى انتصاراته في العراق في حين يراها العرب خزي وعار. – مفاهيم مقلوبة -

قديما قالوا إن صدمك ثور هائج في الطريق فلماذا تحزن ؟؟ أنك إنسان وهو مجرد حيوان لا يقيم لللباقة وزن. فلماذا تغضب منه؟ ولماذا تقتله؟ هكذا فهل بوش عندما نطحه ثور عراقي يعمل بالصحافة.

ولكن العجيب أن صحفي عراقي يملك مقومات وأدوات اللغة والبلاغة ولديه محطة فضائية. قد رأي أن أبغ البلاغة هي البلغه التي هي في قدمه لا البلاغة التي في عقله. فأستبدل البلاغة بالبُلغة. والبُلغة في التراث المصري هي الحذاء.

وأني أرى مفارقة عجيبة بين اللغة العربية وحذاء الزيدي، فكلاهما تحت قدم الصحفي. ولكنه أعلى شأن الحذاء أكثر من لغته العربية لغة القرآن. أيضا مفارقة عجيبة بين لغة القرآن وحذاء الزيدي أن كلاهما ليس عربيا أصليا كما أن لغة القرآن لغة بها من لكنات العرب والعجم ولغات الفرس والسريان. كذلك حذاء "الزيدي" لم يكن صناعة محلية عراقي أصلية بل كان الحذاء صناعة تركية . كحال وضع الصناعة في مختلف بلادنا العربية.
يا للمفارقة أن يتحول الحذاء من مفردات البلاغة العصرية في الدول العربية. فتهافت العرب على شراء حذاء "منتظر الزيدي" هو خير دليل على ما أقول.
ولكن تدور الأيام ويُرشق منتظر الزيدي بحذاء صحفي آخر عراقي الأصل ومهاجر إلى أمريكا عاين بعينية الديمقراطية الأمريكية وها اليوم جائت اللحظة الذي يرد بها على منتظر الزيدي بنفس طريقته في الإهانة.

هذا الصحفي يدعى سيف الخياط واعتبر الخياط أن ما فعله إنما يمثل "رد اعتبار للصحفيين العراقيين، ومن أصبح بطلاً بالحذاء يسقط بالحذاء". وأضاف الخياط أن ما فعله الزيدي "الحق العار بالصحفيين العراقيين والعرب"، وأن "فعل الزيدي لا يمت للصحافة بصلة ولا لرسالتها المهمة" وتساءل الخياط بوجه الزيدي أثناء الحادث "هل بمثل هكذا مهزلة أصبحت بطلاً وتلقي علينا محاضرات، هل بمثل هكذا تكون صحفياً، هل كان يتوجب عليك أن تكسر قلمك وترفع حذائك."
التراشق بالنعال أصبح سمة من سمات الحوار العربي، فقد فرغت جعبة البلاد العربية والإسلامية من البلاغة ومن الصوت المؤثر فأثروا الحديث بالنعال. تماما كحوارات الحيوانات. بعض معلمين المدارس أخذوا موقف الصحفي راشق بوش بالحذاء على أنه عمل بطولي وفضيله ينبغي أن يتحلوا بها فأنقلبت الآية وأصبح الفعل السفيه بطولة. فتحولت بعض المدارس إلى ساحات للتراشق بالأحذية بين الطلاب. ومن يصيب فله أجران ومن يخيب فله أجر واحد.
النائب "علي لبن" الإخواني في مجلس الشعب المصري يرفع حذائه على منصة الخطابة بمجلس الشعب مستهينا بأحد أفراد الحزب الوطني. ولما لا ومرشد الأخوان يقر أن من يعارض وصول الأخوان لمصر سوف يقذف بالجزمة.

أيضا أتذكر حادثة ضرب الوزير المحترم "أحمد ماهر" بالأحذية في رام الله بعد خروجه من أحد المساجد. محاولا إيجاد تفاهما بين الفصائل في فلسطين. فلم يصبه الشكر بل أحذية الغوغاء. وأنا من هذا المنبر الحر أحي الوزير المحترم "أحمد ماهر" على جهوده التي لم يستحقها من فعل به هكذا.
أيضا حذاء النائب الكويتي "وليد الطبطبائي" الذي رفعه للرئيس الفلسطيني محمود عباس وسط تصفيق الحضور الغوغائي الذي أعتبر هذا الفعل إهانة لعباس وليس للنائب الحافي.

والغريب أن الغرب إلى وقت قريب لم يفهم معنى رفع الحذاء على أحد؟؟ ولماذا هو موقف مهين؟؟
فلم يعلموا أن، الحذاء في البلاد العربية يحمل الكثير من القذارة والتي تمتلئ بها معظم البلدان العربية الإسلامية. فالشارع العربي سهل جدا أن ترى روث الحيوانات في الشارع أو أن ترى مخلفات وقمامة تسد الشوارع ويضطر الإنسان أحيانا إلى أن يعبر فوق هذه القذارة. أيضا في الثقافة العربية أن الحذاء ترف وخلعه يدل على الذل والاحتقار. والأديان الشرقية جميعا ترى في خلع الحذاء تذللا لله وخضوعا وخشوعا.طبعا أشك أن منتظر الزيدي قد خلع حذائه خشوعا أمام بوش بل خلعه لأن لا يملك من بلاغة اللسان واللفظ ما يقوله أمام بوش.

لذا ضرب الحذاء في وجه أحد معناه أن ينقل تلك القذارة التي وطئها بقدمه إلى وجه المعارض له. ولكن مدى قذارة الحذاء تدل على مدى فقر صاحبه، فالتنقل بين الشوارع مرتجلا أمر لعامة الفقراء وليس للأغنياء الذين يركبون البغال أو يحملون في تختروان. لذا لا يلجأ الأغنياء وعلية القوم بقذف الناس بالنعال، لأنه في هذه الحالة سيكرمون من يقذفونه بفردتي نعال لم يطأ الأرض ولا ألتصق بهما قذارة الشوارع. كما أن الأغنياء ليسوا في حاجة إلى خلع نعالهم كلما دخلوا بيوتهم، ل، نعالهم دائما نظيفة.
فرفع النعال وقذفها هي للفقراء فقط وليس كل الفقراء بل الغوغاء منهم من لا يملك حجة الكلام وفصاحة اللسان. ومن يملك فردتي حذاء أكل الدهر عليهما وشرب.

كان الملوك قديما يخشون لسان السفهاء من الشعراء لا نعالهم. أما اليوم فانقلبت الآية أصبح الحديث بالنعال مفخرة وفضيلة يتسابق النواب غير المحترمين على اقتنائها.
طبعا في الأحذية الجديدة الفاخرة يصعب أن تلتصق القذارة بالحذاء خاصة وقد علمنا الغرب أن نضع أمام عتبات بيوتنا ما ينفض تلك القذارة قبل الدخول إلى المكان بحذائك.

ولكن في الشرق كان خلع الحذاء أمام عتبات المنزل أمرا هاما يلتزم به معظم الدول الشرقية. حتى أن اليابان تبالغ في موضوع نظافة القدم فيترك اليابانيون الحذاء خارج السكن في مكان منفصل ويغسلون قدمهم قبل أن يلبسوا جوربا نظيفا يستخدمونه في المنزل إلى أن ينزلوا لعملهم ثاني يوم. في البلاد العربية الآن وفي منازل العرب يجبرون الضيوف على خلع أحذيتهم ويعتبرون من ترك حذائه ودخل به شخص لا أخلاقي ولا يتمتع بالذوق والأدب.

يرى بعض المحللين أن هذا السلوك يعبر عن إحباط ويأس، وفي ظل الظروف الحالية لا يعتبر إهانة حقيقية لأنها موروث شعبي أكثر منه لغة إنسانية يعرفها الجميع
نشاهد اليوم أسوء ما في تاريخ العرب من انحدار ثقافي وفكري وأخلاقي وقلب للموازين والأعراف الدولية العالمية. هم الأن على هامش العالم وقريبا سيكونون على هامش التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال