الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبل أن تضع حرب البسوس 2009 أوزارها

محمد علي ثابت

2009 / 12 / 3
عالم الرياضة


بداية، لابد أن نعترف بأن الجرم الذي ارتكبته الجزائر أو الذي ارتكبه جزائريون في حق مصر ليس هيناً بأي حال. هو جرم كبير بالتأكيد وليس من مصلحة أي مصري، حتى ولو كان قومياً عروبياً، أن يسعى لتبريره أو أن يخفف من حدته. فما حدث عقب مباراة الخرطوم لم يكن مجرد عنف همجي من مجموعة من متعصبي الكرة الجزائريين وإنما كان في الوقت نفسه نتاج ما يمكننا القول باطمئنان إنه تورط رسمي أو شبه رسمي مارسته الدولة الجزائرية، تورط امتدت حلقاته من الجزائر العاصمة (حيث مكتب متابعة المطبوعات الذي لم يحرك ساكناً بينما كانت الصحافة الجزائرية قبل وبعد المباراة تمارس أبشع أشكال الكذب والمبالغة والتحريض والسقوط المهني في حق مصر)، مروراً بالقاهرة (حيث السفارة الجزائرية التي تأخرت كثيراً في تكذيب خبر مقتل مشجعين جزائريين عقب مباراة القاهرة وساهمت بذلك في تأجيج مشاعر الجماهير الجزائرية وشحنها ضد كل ما هو مصري)، وصولاً إلى السودان (إذ قامت الدولة الجزائرية الرسمية بـ "شحن" الجماهير إلى السودان في طائرات عسكرية وتخيرت لتلك الإرسالية أو الشحنة – على ما اتضح ظاهرياً في حينه وعلى ما يرجح أن يتأكد لاحقاً في إطار تحقيقات الفيفا في فحاوى الملفين المصري والجزائري – مجموعة من أكثر المشجعين وربما المجندين الجزائريين شراسة وخطورة). ولأن ما تعرض له المصريون في السودان على أيدي مشجعين جزائريين موتورين أو مأجورين لم يكن هيناً أبداً ولا بالأمر القابل للتسامح سريعاً فيه، ولأن ما تعرض له اسم مصر ودورها ورموزها من تسفيه وإهانات على صفحات بعض المطبوعات الجزائرية الخاصة وشبه الرسمية قد تجاوز كل مدى مقبول للنقد والتعبير ولا يمكن لدولة بحجم وقيمة مصر أن تتسامح فيه بسهولة،، لهذا كله فإنه لابد من وقفة حازمة وقوية تعيد بها مصر الأمور إلى نصابها الصحيح، وربما كان لابد أيضاً من عملية إعادة تقييم جزئي أو شامل لكثير من اعتبارات علاقة مصر بجيرانها.. هذا كله هو بالتأكيد حق مصر بل وواجب مسؤوليها وإعلامييها أيضاً. ولكن..

ولكن دعونا نحاول أن ننظر إلى الأزمة برمتها، الآن بعد أن هدأت العاصفة قليلاً أو كادت تهدأ، من منظور أكثر شمولية وتعقلاً. فإذا كان سبباً من أهم أسباب تلك الغضبة الشعبية والرسمية المصرية المشروعة للغاية هو أن مقام مصر العالي لا يمكن التعدي عليه – وبالذات عربياً – بهذا الشكل الهمجي السافل الذي لا يعرف كيف يجب احترام الكبار، فإنه علينا ألا ننسى أيضاً أن الكبار حين يغضبون فإن غضبهم يجب ألا يكون غضباً خالياً تماماً من التعقل والتروي وإلا فإنهم سيتشبهون في أوقات غضبهم بالصغار وسيستحقون كثيراً مما يستحقه الصغار. ونحن لا نقول هذا الكلام من باب أن مصر هي الأخ الأكبر للدول العربية وأنه مطلوب منها بالتالي أن تتحمل تجاوزاتهم وأن تصفح عنهم بعدها، فهذا كلام نظري مملول تجاوزه الزمن ولم يعد له مكان على المسرح السياسي الدولي ولا حتى العربي اليوم. إننا نقول كلامنا هذا من باب آخر تماماً هو باب حتمية تحلي الكبار حقاً بالذكاء الانفعالي، ومن باب أن الغضب اللحظي المنفلت غالباً ما تتضرر المصالح بسببه على المدى البعيد تضرراً جذرياً.

وحقيقة فإن هناك جانباً معيناً من جوانب تلك الأزمة السياسية-الرياضية-الإعلامية هو أهم جانب أود تناوله بهذا المنطق المتعقل الذي قدمت له أعلاه. هذا الجانب هو ما اندلع بعد أحداث الخرطوم مباشرة من هجوم حاد ومنظم في صحافتنا وعلى مواقعنا على فكرة القومية العربية وعلى انتماء مصر العروبي ومن سخرية لاذعة من دور ثورة يوليو في دعم الدول العربية – وعلى رأسها الجزائر – وحركات تحررها. وفي رأيي أن تلك الدعوات الرامية إلى سلخ مصر من محيطها القومي والجغرافي العربي وردم كل مخزون تأثيراتها الفاعلة في ذلك المحيط بالتراب هي دعوات تنطوي على قدر غير قليل من التسرع والسطحية من ناحية، والنوايا السيئة المتربصة من ناحية أخرى. فالتسرع والسطحية يبدوان بوضوح حين ننظر إلى الأمور من سطح أعلى من مستوى سطح الأحداث الراهنة وتفاصيلها الصغرى فنجد أن من سارعوا في الأسبوعين الأخيرين بالهجوم الضاري على فكرة القومية العربية وطالبوا – من جديد، أو لأول مرة – بأن تنسلخ مصر من محيطها الجغرافي والسياسي والثقافي والتاريخي العربي قد فعلوا ذلك لأول مرة أو جددوه عقب مباراة في كرة القدم مع الجزائر وليس عقب تفجر أزمة دبلوماسية أو عسكرية او اقتصادية من العيار الثقيل بين مصر والجزائر. صحيح أنها كانت مباراة في غاية الأهمية، وصحيح أن ملابساتها وتداعياتها كلها كانت مشحونة بالتوتر والتجاوزات المسيئة، لكنها تظل برغم كل شيء مجرد مباراة كرة قدم، وعالم الكرة في كل مكان يكاد لا يخلو أبداً من التجاوزات والتجاذبات الجماهيرية والإعلامية وأحياناً الإدارية، ورغم ذلك فنادراً ما تتطور الأمور إلى ما هو أبعد من ردود الفعل الرياضية أو الشعبية المحدودة. ففي أوروبا مثلاً نجد حروباً جماهيرية وإعلامية طاحنة تندلع قبل وأثناء وفي أعقاب مباريات هامة بين منتخبات أوروبية كبرى (مثل مباريات ألمانيا وفرنسا أو هولندا وألمانيا أو إنجلترا وتركيا)، بل ونجدها أيضاً تحدث داخل الدولة الواحدة بين جماهير يحملون نفس الجنسية (كما في المباريات بين برشلونة وريال مدريد في إسبانيا أو بين روما ولاتسيو في إيطاليا)، ولكن الأمور تظل دائماً محتواة داخل الإطار الرياضي ولا يتم تصعيدها سياسياً ولا يتم تحميلها بشعارات ودعاوى سياسية تتجاوز حدود المباريات. فلم نسمع مثلاً أن فرنسا قد استدعت سفيرها لدى إنجلترا لأن جماهير الأخيرة قتلوا واحداً أو أكثر من مشجعيها أو لأنهم حطموا منشآت فرنسية، ولم يحدث أن قامت أوروبا بقطع العلاقات كافة – وليس فقط الكروية – مع إنجلترا عقب مأساة ستاد هيسل التي تسبب فيها مشجعو ليفربول عام 1985.

ثم إن في الأمر تسرعاً إضافياً يمر عبر باب التعميم الزائد. فليس من المعقول تصوير ما جرى على أنه كراهية جزائرية رسمية وشعبية تامة لكل ما هو مصري. فجمهور الكرة الذي يواظب على حضور المباريات في الاستاد والذي يسافر وراء فريقه داخل وخارج الدولة بانتظام هو الأكثر ولاء لفريقه وبالتالي لديه بطبيعته ميل للانفعال المتسرع، وعليه فإن تصرفاته لا تصلح أبداً لأن تكون مقياساً معبراً عن شعور دولة بأكملها تجاه دولة أخرى أو جماعة تجاه جماعة أخرى بوجه عام. وإذا أردنا القياس على مثال مصري مقارب فعندنا حالة التجاذب والشد والجذب المتبادلة بين جماهير ناديي الأهلي والإسماعيلي. فالعلاقات بين جمهور الفريقين تصل في بعض الأحيان المتكررة إلى درجة التوتر الحاد أو الغليان. لكن هل هذا معناه أن كل مواطني القاهرة يكرهون كل مواطني الإسماعيلية، والعكس بالعكس؟! .. كيف يمكن التعميم على هذا النحو المخل؟ وهل تصلح المباريات الرياضية ومشاعر وتصرفات جماهير الكرة أصلاً كمعيار لقياس أو تعميم كهذا؟

ومن السطحية في تلك الدعاوى والحملات أيضاً أن أغلب أصحابها لم يلتفتوا كثيراً إلى أننا أيضاً نتحمل قدراً من المسؤولية عما حدث وأننا ساهمنا في حدوثه بأشكال مختلفة، وأذكر من تلك الأشكال – على سبيل المثال لا الحصر – تساهلنا مع واقعة تسمم بعض إداريينا ولاعبينا بوجبة الكسكسي الفاسدة في مباراة الذهاب بالجزائر وعدم مطالبتنا بالتحقيق رسمياً فيها، واستباق بعض إعلاميينا الرياضيين مثل مصطفى عبده على قناة دريم الأولى مباراة القاهرة بحملات سخرية وإهانة واستفزاز موجهة ضد الجزائر، وعدم تدخل الأمن المصري بشكل رادع لمنع حادث الهجوم على حافلة الفريق الجزائري في القاهرة (ذلك الحادث الذي منح الجزائريين سبباً مثالياً لتصعيد الأمور ومنح الصحافة الجزائرية مادة خام ممتازة للمبالغة والتهويل)، وسوء اختيارنا للدولة المضيفة للمباراة الفاصلة وإصرارنا على دولة لا تتوافر لديها قدرات أمنية وإدارية عالية لمجرد أنها قريبة جغرافياً من مصر وكأن العالم مازال يتكلم بلغة المسافات الجغرافية في عصر العولمة والحدود المفتوحة، وعدم قيامنا بإرسال فريق أمني مدرب لحماية بعثتنا في السودان رغم أن كل المؤشرات التمهيدية كانت تدل على أن عنفاً جماهيرياً جزائرياً ما سيصاحب المباراة بدرجة أو بأخرى. وهذه فقط عينة من أخطائنا التي لم يحل لأغلبنا الاعترافب بها إلا متأخراً جداً، إن تم هذا الاعتراف أصلاً.

هذا عن السطحية والتسرع في تلك الحملة المنظمة التي أعقبت المباراة.. وإذا انتقلنا إلى الشق الثاني في رؤيتي لتلك الحملة، أو جانب النية السيئة المتربصة فيها، فبوسعنا أن نحدث ولا حرج. فتلك الحملة ضد العروبة والقومية العربية ودور مصر في محيطها الإقليمي وضد ثورة يوليو وضد عبد الناصر اندلعت سريعاً جداً في أعقاب أحداث الخرطوم وبشكل عالي التنظيم، لن أقول إنه مدبر لأنني لا أحب تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، ولكنني أكتفي بأن أقول إنه متربص. وهو ليس متربصاً في سرعته فقط وإنما هو كذلك أيضاً في ميله إلى التعميم وإلى النظر إلى الأشياء نظرة مطلقة لا تعرف القياس ولا الموازنة. فعنف جمهور الجزائر ضد الجمهور المصري في الخرطوم هو مؤشر على كراهية كل العرب لمصر ولكل المصريين. وحملات الإعلام الجزائري الساقطة ضد مصر هي دليل على أن كل العرب نكارون للجميل الذي أسداه إليهم عبد الناصر وأسدته إليهم مصر في عصره. نعم، هكذا! وكأن جمهور الكرة الجزائري والمنتسبين إلى الإعلام الرياضي الجزائري هم ممثلون مثاليون لكل الجزائريين ولكل العرب ومعبرون مثاليون عن كل انتماءات الشعوب العربية ومواقفها المكنونة!

ثم إن الحديث المتكرر عن فضل مصر التاريخي على الجزائر وعلى العرب وعن دور عبد الناصر وثورة يوليو في دعم حركات التحرر العربية،، هذا الحديث وخصوصاً الآن، عقب مجرد مباراة كرة، هو أيضاً من الأمور التي لا تخلو من تسطيح ذي دهاء. فكما أن السياسة هي فن الممكن الواقعي فإنها أيضاً لغة المصالح التي لا تعرف الحب والكره بقدر ما تعرف المنافع المشتركة، وبالتأكيد فإن مصر الثورة لم تدعم الدول العربية دعماً مجانياً تماماً بغير أدنى مقابل وإنما هي استفادت كثيراً وبأشكال متفاوتة من تقديمها ذلك الدعم وحصلت في مقابله على مردودات مهمة تصب كلها في قالب الوزن والدور والتأثير المصري إقليمياً ودولياً. فمصر كان من مصلحتها دعم تحرر الجزائر وغيرها من الدول العربية ليس فقط لأن تحرر الجيران الواحد تلو الآخر كان وقتها كفيلاً بالقضاء نهائياً على أطماع بريطانيا وفرنسا في دول المنطقة – وبينها مصر – ولكن أيضاً لأن مصر بتقديمها ذلك الدعم المكلف عسكرياً وسياسياً ومادياً فإنها كانت تستثمر في مكانتها ودورها استثماراً لحظياً ومستقبلياً. ولعله من قبيل المراهقة السياسية القول إن دور مصر القيادي في المنطقة في عصر ما بعد الاستقلال كان من الممكن أن يتحقق له كل ذلك الوجود الفعال الملحوظ – وخصوصاً في عصر يوليو – لو لم تكن مصر قد قدمت من أجله تلك الاستثمارات "الناعمة" و"الصلبة" التي تمثلت خير تمثل في دعمها لاستقلال وثورات الدول العربية. إن مصر بدون ثقلها العربي، المتآكل بوضوح الآن على أية حال، تظل دولة مهمة كبيرة ولكن محدودة التأثير بشكل صادم حتى بالنسبة لدعاة الانسلاخ من الجلد العربي. فمصر الراهنة التي تعاني الفقر والبطالة والأمية والمرض والديكتاتورية وشيخوخة الجهاز الإداري تتمتع على المسرح السياسي الدولي بوزن وثقل أكبر من اللذين تتمتع بهما دول مثل نيجيريا وإندونيسيا وباكستان رغم أنها دول لا تقل عنا سكاناً وليست أوضاعها المجتمعية بأسوأ بكثير من أوضاعنا، ولكن الميزة التي لمصر على تلك الدول هو أن مصر لها دوراً قيادياً في منطقتها قوامه القوة الناعمة والتأثير التاريخي الطويل، والكل تقريباً في المنطقة وخارجها يهمه سماع رأيها ووزنه بميزان حساس قبل اتخاذ القرارات في أي قضية مصيرية تخص الإقليم، من حرب الخليج الأولى مروراً بحرب الخليج الثانية ووصولاً إلى – وليس انتهاء عند – ملف تسليم الجندي الأسير جدعات شاليط إلى إسرائيل، وهكذا يتضح جانب هام من جوانب المنفعة التي عادت ومازالت تعود على مصر من استثماراتها العروبية في عصر يوليو. باختصار، فإن الدعوة لأن تنسلخ مصر من محيطها الجغرافي العربي وأن تفك ارتباطها بكل ما هو عربي هي عموماً، وربما الآن بالذات، دعوة مراهقة إلى إلانتحار أو على الأقل إلى التعري والانكشاف. فالعرب الآن ليسوا بالعبء الكبير علينا كما كانوا في عصر يوليو، وتضحياتنا من أجلهم اليوم – سواء المادية الصلبة أو المعنوية الناعمة – تكاد تكون منعدمة أو شديدة المحدودية والتقطع، فضلاً عن أنها ليست أبداً تضحيات مجانية (وإن كان مردودها اليوم يقاس بلغة المصالح الاقتصادية أكثر منه بلغة الوزن الدبلوماسي)، والأكيد أن نظرة نظام مبارك منذ 1981 وحتى اليوم إلى فكرة العروبة في مجملها هي نظرة أقل عاطفية وأكثر براجماتية بكثير من نظرة نظام يوليو لها، ومن ثم فإنه بوسعنا القول إننا الآن نجني من فكرة العروبة ومن ثقلنا الإقليمي الذي رسخناه عبر تضحياتنا من أجلها في عصر سابق وزناً وأهمية يفوقان ما نبذله من أجلها اليوم بمراحل، وبرغم ذلك الثقل فإن أوضاعنا الإجمالية اليوم وخصوصاً في الداخل تكاد تكون في الحضيض على كافة الصعد، فما بالنا إذا تحررنا أيضاً من تلك الميزة الأخيرة أو ورقة التوت الوحيدة الباقية التي نتمتع بها بشكل شبه مجاني لا يكلفنا أكثر من بعض الشعارات وبعض التلميحات والاستضافات والبروتوكولات والإبراز المستمر لمحطات الماضي التليد؟!

ووسط الأزمة خرج علينا بعض منظري تيار الليبرالية المصرية العنصري ضد كل ما هو عربي ليقول إن انكشاف وجه الجزائر الحقيقي إنما هو تأكيد إضافي – في رأيه – على أن العرب هم العدو الحقيقي لمصر وليس إسرائيل، مدعياً أن سنوات السلام المصري-الإسرائيلي لم تشهد قيام إسرائيل بإيذاء مصر أو بإلحاق الضرر بها بأي شكل من الأشكال.. والحقيقة أن ادعاء كهذا هو ادعاء هزلي مضحك ومنطو في الوقت ذاته على قدرة على خلط الأمور بعضها ببعض تفوق تصور الرجل العادي غير الخبير بأساليب "الأكروبات السياسي" المختلفة. فأي منطق معوج هذا الذي يتم به خلط الأمور على هذا النحو وتضخيم الفعل الجزائري الانفعالي والنفخ فيه إلى هذا الحد الذي يجعل جرائم إسرائيل الظاهرة والمستترة في حق مصر والمصريين – حتى من بعد توقيع كامب دافيد – تبدو هينة بل ومنعدمة مقارنة به؟! ومع اعترافنا بوحشية وهمجية فعل الجزائريين المتعصبين الذين طاردوا المصريين في السودان وألحقوا الإصابات بهم، ومع تأكيدنا من جديد على ضرورة معاقبتهم على ذلك، فإننا نتساءل: هل هذه الاعتداءات هي فعل متكرر وشبه مستمر كحوادث قتل جنود إسرائيليين لمواطنين ومجندين مصريين على الحدود في سيناء؟ وهل السباب الرخيص الذي وجهته بعض الصحف الجزائرية الرياضية والسياسية لمصر ولرموزها هو أقسى وأخطر من مواقف أفيجدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل الحالي الذي سبق له أن أهان مصر ورئيسها إهانات مكشوفة وصريحة وسبق له أن هددها بالويل والثبور أكثر من مرة؟ أو هل هذا السباب هو أكبر من إفصاح آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بعد سنوات طوال من توقيع المعاهدة، أن الانسحاب من سيناء كان أكبر خطأ ارتكبته إسرائيل في تاريخها القصير؟ ثم إذا حاولنا إعمال نفس منطق حرق خطوات التفكير التحليلي والقفز فوقها وليّ أعناق الأخير كما يحلو لبعض ليبراليينا أن يفعلوا كيّ يصلوا إلى نتائجهم المرغوبة سلفاً، أفلا يحق لنا إذن التساؤل عما إذا كان صحيحاً أن إسرائيل سبق لها تدريب خبراء زراعيين مصريين على استخدام مبيدات مسرطنة على المحاصيل المصرية، وعما إذا كان صحيحاً أن لإسرائيل يداً في إسقاط الطائرة المصرية المتجهة من أمريكا إلى القاهرة وعلى متنها عدد من الطيارين الحربيين المصريين الحاصلين على تدريب راق، وعما إذا كان لإسرائيل يداً في اغتيال علماء ذرة مصريين مثل سميرة موسى ومصطفى المشد، وعما إذا كان صحيحاً أن إسرائيل هي من دأب على زرع أسباب الوقيعة بين مصر ودول حوض النيل في الفترة الأخيرة وأنها تمول بناء سدود في تلك الدول الهدف النهائي منها إذلال مصر وتعريض أمنها القومي للخطر عبر بوابة المياه؟ ثم ماذا عن تسربات الإشعاعات النووية من مفاعل ديمونة القريب من حدودنا؟ وماذا عن خرئط الألغام في سيناء التي لن تقبل إسرائيل بتسليمها إلى مصر رغم حالة السلم؟ وماذا عن ملف قتل الأسرى المصريين في حرب يونيو وإجبار بعضهم على حفر قبوره بنفسه، ألن يتغير موقف إسرائيل تجاه مصر إذا ما تحركت مصر الرسمية للمطالبة بحقوقها في هذا الملف؟.. إذا حق لنا التساؤل عن ذلك كله، وغيره كثير، أفلا يبدو حديث بعض المنظرين الليبراليين المصريين عن أن السلام بين مصر وإسرائيل هو سلام مثالي وأن التقدم في طريق التطبيع معها هو الخيار الأمثل التالي وأن العدو الحقيقي لمصر هو العرب – ألا يبدو حديث كهذا هزلياً جداً ومفتقداً لكل آليات التفكير السليم ومنطوياً في الوقت ذاته على قدر هائل من الخبث السياسي ؟!

ومن أوجه التربص سيئ النية في تلك الحملات أيضاً أنها صدرت بالأساس عن ليبراليين ذوي نزعة براجماتية واضحة يفترض في أصحابها ألا يعرفوا سوى لغة المصالح وألا يتكلموا بسواها، وبالتالي فمن الغريب والمتناقض أن نجدهم يبنون تلك الحملة الأخيرة على مفردات لغة المحبة والكراهية التي لا اعتراف رسمياً بها في دهاليز السياسة والتنظير وخصوصاً ممن هم مثلهم. فحتى لو سلمنا بأن الجزائر كلها، شعباً وحكومة، تكره مصر والمصريين كلهم، وحتى لو سلمنا بأن مشاعر الجزائر والجزائريين تجاه مصر لا تختلف كثيراً عن مشاعر بقية الدول العربية والمواطنين العرب تجاه مصر (رغم أن هذه فكرة غير منطقية وغير صحيحة لأننا نعرف أن شعبية مصر في بعض دول الخليج العربي – كالبحرين وعمان مثلاً – لا تنازعها شعبية، كما أننا حين نتساءل "لماذا يكرهوننا؟" عقب مباراة كرة قدم فإننا نبدو شبيهين جداً بالإعلام الأمريكي وبالإدارة الأمريكية حين شرعا في طرح نفس التساؤل في أعقاب هجمات سبتمبر فكانت نتيجته في التحليل الأخير تصاعد المشاعر الأمريكية والغربية الرافضة للآخر العربي المسلم وتبرير الحرب المستمرة ضد بلاده في أفغانستان والعراق)،، حتى لو سلمنا بذلك كله، فهل يمكن اعتبار مشاعر الكراهية تلك سبباً كافياً لوأد فكرة الوحدة العربية وإطلاق رصاصة الرحمة نهائياً عليها؟ أليس الاتحاد الأوروبي قائماً ومتماسكاً وقوياً وآخذاً في النمو والتوسع رغم التوتر التاريخي المستمر بين إنجلترا وفرنسا، ورغم القسوة العنصرية الدموية البشعة التي مارستها ألمانيا ضد جيرانها من دول الاتحاد الحالي إبان الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الاستطلاعات والاستفتاءات كثيراً ما تظهر أن الشعور الشعبي العام في بعض دول الاتحاد مثل البرتغال وأيرلندا وحتى بريطانيا هو شعور غير شديد الترحاب بفكرة الوحدة الأوروبية ولكنه يقبلها على مضض من باب المنفعة؟ .. إن المقصود بفكرة الوحدة العربية اليوم هو نموذج مختلف تماماً عن النموذج ذي النزعة الشعبوية العاطفية المندفعة الذي كان سائداً في الخمسينيات والستينيات والذي يخشاه ويكرهه بشدة منظري تلك الحملة الأخيرة التي اختلطت فيها الكرة بالسياسة اختلاطاً شديد الغرابة والتهافت. المقصود الآن هو نموذج الوحدة الاقتصادية-السياسية التي لا تفني الهويات الوطنية تماماً ولا يشترط لقيامها الإجماع أو القبول العاطفي العام. فالعالم اليوم آخذ في الاتجاه أكثر وأكثر نحو نظام العولمة المحلية، أو العولمات الإقليمية المتعددة، ولا مكان ولا قوة تفاوضية اليوم لمن يقف وحيداً في جولات تحرير التجارة العالمية ومحادثات تخصيب اليورانيوم وفي التفاوض على بنود اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية أو مفاوضات الدرع الصاروخية الأمريكية. عالمنا اليوم هو عالم التكتلات بامتياز، وإذا كانت فكرة الهوية المصرية الخالصة غائمة اليوم تماماً وبحاجة إلى سنوات وسنوات من البحث والاستخلاص، فإن وحدة اللغة ووحدة التاريخ وتقارب الثقافات المحلية هي كلها من الأمور التي أستغرب بشدة أن يرفض من يزعم أنه براجماتي الاعتراف بأنها – رغم كرهه لها – أسس يمكن البناء عليها بدلاً من البدء من الصفر في عالم متسارع التطورات متلاحقها لا ينتظر أحداً أبداً.

عموماً، أحببت أن أدلي هنا بدلوي في هذه الأزمة بشكل تفصيلي هادئ ومترفع بعض الشيء عن التفاصيل الصغيرة، وتعمدت أن أفعل ذلك في وقت متوسط، بعد أن هدأت عاصفة حرب البسوس 2009 قليلاً، وقبل أن تذهب في طيّ النسيان مباشرة. لكني ربما أعود إليها من جديد قريباً، لكن من منظور آخر،، من منظور يبدأ من حيث انتهى هذا المقال: الهوية المصرية – ما هي بالضبط؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الأبطال | مفاجآت حصرية مع بكي ووليد في مهرجان دبي للألع


.. أبناء مارادونا يطلبون من المحكمة نقل جثمان والدهم




.. الاتحاد الأوروبي يرفع عدد لاعبي المنتخبات المشاركة في بطولة


.. أبناء مارادونا يطالبون بنقل رفاته إلى ضريح -أكثر أمانا-




.. أول سعودية تفوز بمنافسات كأس العلا.. قصة -شغف- ريما الحربي ب