الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمنون المحب

طارق الطوزي

2009 / 12 / 4
الادب والفن


شعور بالحضور أنهك خصالي المتزنة، تألق في جسدي اشتياق مدهش، خفّة أزليّة تنشقّ عن فسادي في حركة مضطربة. ضاق حالي بقتامة الغرفة فنهضت إلى سطح الزاوية، مقامي المعهود فوق. فضائي العلوي الساذج هنا يشتتني في الغياب، الرؤيا النديّة في مدى البرودة الرطبة تنتفي صاغرة في اللاشيء المعتاد، و ظلمة المحيط الباهت تتسع لامتدادي. سأبحث كما أبحث دائما عن اللاشيء أو الكلّ، و سألجم رغبتي المتحرّقة إلى ما سوى كمالي، فغايتي المثابرة تنتقص عجزي بحنق. أشعر ببدايتي؛ بانطلاقة غامضة، بتلاش في حال جديد. صوت البحر يسكنني بضجر، الحيرة تموج من حولي، تنهكني، ولكنّها لن تكون مقامي الأخير...
صفات مختبلة في زمن ضائع، تطوف بمتاهة نفسي باحثة عن قرار. هياج يستصرخ سرّي فيوحدني في غيابي؛ حلقة الوصل الخفيف إلى الروح. على مساحة من الهشاشة و العمق تشرق بنور ضئيل رغبة مبهمة في الكيان، تناديني : كنّي، كنّي... هي حال النفور في دائرة التيه الأولى. الخواص تذاب على نار حامية، و تمتزج في سخرية حتّى تكونني بلا كيف. هذا الطريق يبتدئ و لكنّي أجهله، المسار هادئ كئيب و لا يحمل دليلا على ثبات. داخل مسافتي أبدو غريبا وحيدا، أتطلّع في خوف إلى نفسي، أترك لها تصويب الأشياء، لكنّ رهبة البدء ألجمها عن الرؤيا. أبكي؛ لأنّي لاشيء البتّة؛ لأنّي بلا إرادة أو غاية؛ لأنّي أرحل فأشعر بنقصان رهيب في ذاتي.
أستغرق في تشظّي كلماتي العابرة، استعر في عنف بروز عبارتي الشاردة؛ فلا أقوى على احتواء اتساعي. بداية اليقين عذاب أليم؛ فستحين الغاية بفناء السؤال إطلاقا. غريب بعثرتي في وقت المسعى، غريب الخوف الذي يشمل طباعي المتمردة. إنسيّتي الوقحة تنقشع إلى نور ما. الرؤيا الكفيفة التي كنتها لم تورثني غير التيبس في الصمت، أختنق، أعبث مع كدري، أماجن تخيلاتي الحالمة؛ الصورة و الفراغ لحياة اعتادت رعب المكان. الانتقال أو التوبة إلى حلقة الكلّ، الرضا بالانحلال في المدى العلوي، الانكفاء إلى العمق القصيّ أو هو الصعود إلى اللاقصيّ. في النهاية هل أدرك ما أنا عليه؟ ربما، لكن لا أحتاج إلى معرفة أو علم فميزة كوني الآن أنّي الجاهل الكبير.
تطفو أشيائي القديمة الساذجة بسخف لتتقاطع و حالي العذب، أرفضها في هدوء حتّى لا أخرج عن دائرتي المقدسة، أقرن نفسي بالخلاء التام، و امتدّ في اللاشيء بسرعة لأطفو على جميع الأشياء...
يطويني البحر، فأتعلّق بساحله، أخشى رجفتي الخانقة، أستغيث الموت. تتنافر الحروف الهزيلة، و تنفجر ضياء وهّاجا تحاول قتلي، تمسك بخنجر المكر و تمزق جثتي.
قال الشيوخ : حاذر يا سمنون؛ فالأسبان على أبوا ب هذا البحر.
الزاوية تطلّ على امتداد هائل؛ سواد بحري يقطعه خيطا قمريا مائعا. كان عليّ أن أرى الظاهر مرّة أخرى، فالصدى الخائف من لعنة الكافرين تحاصرني، و لكنّي في غمرة الإشفاق ينتابني شعور بالصفاء القلق؛ يحفزني الانطلاق. لست أدري ماهية ما أنا عليه، فقط أنتبه إلى أنّي أنجح الحين في ما فشلت فيه العمر كلّه: إنّي ألج غمار الذهاب بوضوح الرؤيا المتأكدة من الاتجاه. آه، هل تحقق اختياري؟ إنّي أُجذب إلى ملكوت التحوّل الخفي، إنّي أتحلّل في مدى الذهاب الكلّي... آه، يا لطيف، هل اختارني ملكوتك إلى بداية المعراج الفعلي؟ أنتفي، أنتفي داخل انتفائي إلى لحظة من حضور ضئيل. إنّي في ضياع عن السوى.

كانت حينها عذرائي ترفل في الإشراق، تأملتني بإغراء و هي تنزع عنها رداءها -البيان يشدني إلى نهاية ما- قالت بصوت يحمل ثقل الدلال:
- ها أنا و حيدة معك في غياهب أزقة المدينة المتشعبة، هل تودّ قول شيء ؟
- مقامي ينحلّ في اللاصلة.
- لم أفهم
- الطيف النوراني يشتاق المغادرة.
- لم أفهم
- البداية نهاية المشهد الحادث.
- سمنون، يبدو أنّك تثقل على نفسك خوفا من البوح بالذهاب، كان عليك أن تقول إنّي أغادرك إلى غير رجعة فقط.
لم يفاجئها رحيلي، كنت أختار التخفّي خلف غموضي حتّى لا أثير عاطفة سيدتي الفاضلة، فأبهتني عدم اهتمامها...
- حاذر يا سمنون فتنة المكر.

يا دربي، يتولد العارف الأسمى فيّ؛ العشق يغمرني فلا أجدني، و لكن مع هذا يتميّز فيّ سؤال مرهق. تبطل دهشتي المنكرة، أزفّ إلى المدى الفسيح اللانهائي، أكون شهيد عفاف محبتي ... فأين العلويّ؟
- ها قد بدأ كفر السؤال
النداء الضال تيه الوصول، فتنحى يا رعبي عن عذلي؛ فالرحلة هياج العذر الأزليّ. لغتي الممسوسة ترقص في سفور، بلا انتظام، تلمع في تقطع رهيب. زمني يمّحي إيقاعه. تركن حركتي إلى صفاء السكون. أنفصل... يسكنني شعور ممتع بالانفصال عن المجهول؛ تغصبني هيبتي نهاية السؤال.
أتحرّق في قسوة اللؤم، الغيرة تبعثر صفائي المتهالك؛ الموقف في خلاء من المعتاد قد أيقظ فيّ تحفظا عنيدا؛ فقامتي الهزيلة لا تشتاق الفعل الأكمل، لا تتيقن دربا إلى الحضرة الإلهيّة؛ فهذا كفر. اشتياقي لا يصدّق براءتي، و شعوري المتهكم من عجزي يغار على قدسيّة الصفاء أن يخالط مقامه بؤس الفساد.
سمنون، يا هامة النكران، يا حيّز العبث، أتعتقد حقّا أنك قادر على الغاية؛ أشفق من حيرتك الشقيّة فهي تغريك بالثبات في القاع، لا توطن مآلك في جحيم الانتقام بين قطع الأطراف و الصلب و الحرق وذرّ الرماد في البحار...
- سمنون، يا ميت، لا تنطق فتتلف الوعد.
أنقبض في عنف إليّ، أردد برتابة الهذيان : أنا، أنا، أنا...
لا أجدني، لم أكن حاضرا حتّى و لو استشعرت وجودي هبائيّا، احتبست في فراغي. لست أنا...
نبرة ضاحكة تختال في وقار العرج. أختصم إلى مرحي؛ أنتقص الساعة ضياعي.

*****

موقف العشق

عنفوان الشوق المتصابي يمتدّ ليشملني. تتململ الحركة في ابتذال الدلال/ في لمحة خاطفة يتحوّل الشعور إلى امتلاك.../ انطلق كلّي من عقال العمر، تخمّر عقلي في التذاذ شبقي، موسيقى عشواء على تربة مهملة/ رمضاء الغربة الأزليّة اختفت في احتشام، صارت صغيرة كثقب الإبرة، وتلاشت. الطيف يحتوي الوجود بلا استثناء و هو يداعب شحمة الأذن/ شجن اللقاء المترح بالنسيان الأبدي، لا شيء كائن لا شيء.../ السكر و الشطح في طرقات الفراغ الأبدي/ أنا من هو أنا، بلا حجب الموت، و لا حجب العهر، و لا حجب العورة.../ أنا من هو أنا، أحملق في عربدتي فأخجل من جبروتي/ أنا من هو أنا.../ تكتمل صفاتي في ذاتي، تشرق أطواري عن عبث بالأقدار، أترنح في عظمتي لأنّي بتّ موجودا.../ البكاء الخائف من مغبّة الرؤيا. الشعور النافر من الكمال يمزقه، ترتعد حركته حتّى تضمحل في السكون بعنف الرفض. يتصل بالخفّة/ نزق البعثرة اللئيمة، إيقونة الأشلاء المبهمة، هدم الإيقاع المسترخي في ضياء البلاهة/ كن .../ اللمسة البربريّة تنازع نحو التمرد. لا ثقة الانتظام تخون وضوحي، النقر الطبليّ يوتر حاجتي للخنوع على عرشي. كن صمتا/ تتلى الكلمات الرخيمة على أعتاب الولدان المخلدين، صفات خنثويّة آذنت الثبات.../ الندب المستصرخ يتمرغ في طين المسك الفاخر، كان يجب أن أقبع في رعاثي الصدئ/ عار الخيبة العلويّة؛ فهي الوقار المغترّ بالإطلاق. لا تتمثل الجريح المئنّ و أنت ترى كماله/ يسوق البعير الضائعة بين الجبال المتخفيّة لعلّها تكون عبيدا طائعة. قهقهة الامتلاء الصاخب توقظ كرهي/ سذاجة القُصر المقدس، أم هو الملل الذي يجنح بي إلى قسوة اللؤم/ أنا أتألم؛ أمتلك الكلّ، أمرح في تملكي، أسيّر ملكي، لكنّي لا أكون كمالا/ يا ذرّة الانعدام الحقير، في ركنك البعيد ترتوي عطشا، تعدم ثورتك النزقة، تغنّي فرارا.../ الهودج المقدس كان يحدثك ساخرا، فهل صدقته ؟/ غباء أن تكون الكلّ حتّى تحضا بمعنى الطليق؛ باهت التلف في ثبات اللذّة النورانيّة؛ أمرح في يأس متفردا مع إرادتي المتهوّرة، أعابث بصبيانيّة تافهة النقص في تربة الآدميين القلقة.../ أشتاق الضآلة، لا خطيئة، لا صرخة شهوانيّة متمردة، لا كفكفة الدمع التائه في لجّة الكره، لا وهم الاشتياق أن أكون الإله.../ العزّة تستعر في قنوطي الربانيّ/ أكتوي في غوار السماء/ لا شرقيّ../ لا غربيّ../ البعد السنيّ يبخسني قدرتي على النقصان الأزلي، إنّي أتهافت كعدم نوراني، أفتر في غيابي ساذجا كئيبا.../ لا تولّي عنّي نظرك فإنّي وحيدا...

*****

تلهّفت الكلمات في انطلاقة الهبوب تنادي: النفير يا أصحاب الخيل و الرجال، النفير حملكم اللّه إلى باب الجهاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس