الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحداثة في رواية المقهى والجدل

حمودي عبد محسن

2009 / 12 / 4
الادب والفن



من أرض أور ذات الأسوار العظيمة ومن حبة القمح الذهبية تحت أشعة الشمس اللاهبة في الصيف ، من أرض سومر حيث ترتفع الزقورة للآن ، من أرض النبي إبراهيم ودعوته الإنسانية ، مـن أرض الحضارة الأولى للبشرية حيث بدأ من هنا تاريخ المجتمع البشير ، من الاهوار وأكواخ القصب والبردي قرب بساتين النخيل التي تزهو بعذوق الرطب ، من هذه البقعة المدقعة بالفقر ، قوتهم سمك ولبن أبقار وقشطة جاموس وحبات تمر ورغيف تنور، وأغذية مطبوخة بقدور فوق الأثافي ، هنا ، ليس بعيدا عنهم ، يرى أهلها نيران النفط المحترق ، يتصاعد في السماء مثل نار جحيم ينبعث من طينة ورمل أرضهم ، من هنا تأخذنا الرواية لملحمة شعب جهلنا عنه الكثير ، وتلقينا بينه لنتعرف على عاداته وتقاليده ووقائعه اليومية والأحداث التاريخية التي عصفت بأرضه ، لنذرف الدموع على امرأة عمياء تلتهمها نيران احتراق الأكواخ ، فالريح لا ترحم لتشمل بيوت العهد القديم والجديد ، ولتصرخ أم مفجوعة من شدة النيران : أبني ، نسيت أبني ، النار تلتهم مولودا جديدا يطل على هذا العالم ، والأم ترفس الأرض ، وتمزق ثيابها ، وتلطم صدرها ، وتخرمش خدها ، وتمزق شعرها ، والنسوة يلتفن حولها باكيات ناحبات ، هذا هو الاحتراق ، والاحتراق الآخر لا يختلف عنه سوى الزمن والاتهام لشخصية الزرار حسين ( أبو علي ) البريء الدخيل الآتي من إيران إلى المدينة القصية ذو الجسم القوي الذي حمل على كتفه وظهره بضائع السكر والشاي ، احتضنته المدينة لأنها عربية ، والعربي يؤوى الدخيل مهما كانت النتائج ، رحبت به ، وآوته في كوخ فيه حصير قصب ، فيه فراش نوم ، وفي واجهته الأثافي ، في كل صباح يوم العاشر من عاشوراء ، يخرج بسيفه ، ويغطي جسده كفن أبيض ، ويصيح بألم في ساحة المدينة ، تهرع الناس إليه ، والدموع تسيل من عيونها وكلها تردد ( واحسيناه ، وا أبا عبد الله ) ، يهتز السيف في الفضاء ، ثم يضرب الرأس الحليق ، وتسيل الدماء على الوجه ، ثم تنزلق على الكفن ، بقع دم حمراء ترسم وجودها في مهرجان الموت ، مهرجان مئات الأعوام يستذكر أبو علي منه يوم عاشوراء ، يوم الطف ، يوم ثورة الأمام الحسين ضد دولة الاستبداد ، دولة الظلم الاجتماعي ، وغالبا ما يستذكره الفقراء ، أما أبو صوفة فبيته زورق ، يتمدد فيه ، يرى السماء مزركشة بالنجوم اللامعة ، والقمر وضاء أبيض ينير المياه ، يحب الأهوار ، ويحب مياهها ، وقصبها ، وطيورها التي تغرد ليل نهار ، يعرف أسماءها ، ويفرق بين أصواتها إلا أن الغبطة تملئ نفسه عندما تهب أنسام المساء ، ويهتز سعف النخيل ، ويطلق صوته الرخيم الشجي لنفسه ، فهو رجل آخر ظهر في المدينة القصية ، لم يعلن السبب ظهوره صمت هو مثل صمت أبوعلي ، فقد حملت المدينة القصية أسرار الغرباء ، غرباء مثل حسن الآتي من مدينة العلم والمعرفة النجف حيث فيها مرقد الأمام علي ووادي السلام ، لا أحد يعرف لماذا ؟ كان يأكل الفاكهة وهو يمشي ، وينام أحيانا على كراسي المقاهي آو على حصير يفرشه في ظل الدكاكين ، ينام بعد أن يغلبه النعاس ، وتطارحه أزقة النجف ، وسراديب بيوتها ، وسجع الحمائم في صحن الأمام علي ، والعزاء ، وسبيل الماء البارد ، وماء الورد ، إلا أنه أشتهر في المدينة القصية بفن اصطياد الثعالب الماكرة حتى لقبوه بصياد الثعالب ، وكما للرجل قصة في الأرض القصية أيضا هناك قصص للمرأة الجريئة ، ودور في دخول عالم الاعتماد على النفس في العيش ، فهذه مكية أم ركبة وقسمة أرملة شهيد قتله البعثيون في انقلاب شباط الأسود عام 1963 وأم كاظم يفترشن بضاعتهن على الأرض بتمويل من حجي عبد الرحمن تاجر الجملة ، وغالبا ما تكون بضاعتهن من الحناء ، البخور ، الورود المجففة ، الهيل ، العطور، القرنفل ، وكذلك دخلن العديد من النساء ومنهن صالحة أم طاهر ميدان بيع السمك الذي يطلق عليه صفاة السمك ، فها هو مشتري يعاملها ويساومها على البيع كما ورد في الرواية في ص30( - بكم هذه السمكة ؟

- بمئة فلس – يا حاج - ؟

- بكم قلت ؟

- بمئة فلس !

- بسبعين فلس !

قلت لك - يا حاج – بمئة فلس ، خذها بتسعين .

- بستين فلسا )



وهنا في الرواية تطوف بنا بحب عذري جميل للفتى محسن الخجول الحزين العينين مع الفتاة حبيبة التي تحلم بقنينة عطور صغيرة لتسعد أنفاسها بعطرها ، وتتضوع ملابسها بها ، لكن من أين تشتريها وهي لا تملك المبلغ الزهيد ، أنها تحلم أن يقدم لها محسن هذا العطر كي تملكها السعادة في ليلة مقمرة ، وكما هي تحلم ، كانت الليالي لا تفارق عيني محسن ، يراها طيفا مقدسا ترقد بجانبه ، دائما كان يسترجع صورتها وهي آتية من الهور تحمل جرتها على رأسها ، سأذهب إلى هور الحمار ، وسأبقى عاما حتى استطيع الصيد الذي سيوفر لي المال لأتزوج حبيبة ، هذا ما كان يدور في مخيلته إلا أن الكاتب وصف ذلك بتوفيق ونجاح محذرا في ص89 ( عاما ستقاتل يا محسن ! عاما سيمضي ثقيلا ، ستنزل الماء في حدة البرد ، وقسوة الشتاء ، ستصعد البلهارزيا من بين أظافرك ، أو مثانتك ، قبل أن تبني أنت كوخ حبيبة ، عاما ستنهض فيه قبل أن ينهض الفجر ، وتعود فيه بعد أن يلقي الغروب شمسه في مياه الأهوار ، فماذا ستبقى لحبيبة التي لبست ثوبا جميلا ، وفرشت لك فراشا جديدا ؟ ) .



أما سالم وهو الشخصية الرئيسة في الرواية مأخوذة من واقع الحياة ، فيها ملامح العمق والتكوين ، فقد تحولت شيئا فشيئا إلى توحيد جذري ، وإلى تميز واع ، وانعزال فكري مدرك عن الشخصيات الأخرى ، فهو باهر ، وذكي ، وهادئ ، فيبدو هو شخصية مزدوجة أو مركبة من عدة شخصيات ليمزجها الكاتب سهر العامري في شخصية واحدة منفردة ، ويكون من المنطقي والمعقول أن تتمتع بمواصفات الأصالة في الشجاعة ، والصدق ، وحب الوطن ، وطموحة ، واستعداد على التضحية بالنفس من أجل قضايا نبيلة ، ولذلك ناهض سالم ، وناوأ انقلاب شباط الأسود عام 1963 ، وقد ردد حينئذ مع نفسه ص95 ( ما مات ميت إلا وترك وراءه حيا ، ما سقط لك بطل أيها الشعب إلا ونهض آخر ، حين غمدت سيوف الحسين انتضت سيوف الزنج ، وحين هوت نبالهم فوقت نبال القرامطة ) . ثم أسس جماعة الوعي الديمقراطي التي أخذت على عاتقها إلصاق المنشورات على البيوت ومركز الشرطة ، وهذا ما أرعب العهد الأسود الجديد .



أن رواية المقهى والجدل لسهر العامري صدرت عن دار ميشون عام 2003 في السويد في 168 صفحة ، وهي رواية واقعية بين مدينتين الأولى صغيرة والثانية كبيرة - المدينة القصية – الناصرية - تدور حوارات – جدل في مقاهي خاصة مقهى كاظم التي تسمى مقهى البوهة ويرتادها العاطلون عن العمل والكادحون والطلبة ، وتميل إلى الطابع الشعبي في لغتها السردية بروافد متعددة المظاهر في مدلولها وقيمتها لمراجعة التاريخ ، تاريخ العرب ، تاريخ الإسلام ، تاريخ العراق ، وتخاطب الجميع ، وتواجهنا بالوصف للفقر المدقع ، والخلل السياسي – سيادة دولة الاستبداد – الذي وراءه الأجنبي ، يسانده ، ويدعمه ضمن مصالحه النفطية ، وتدعونا الرواية إلى إدانة الأجنبي ، ومحاربته ، خاصة توفر مقدمات ومكونات مادية وروحية لتجاوز الانهيار والتقهقر وبناء مجتمع زاه يكون مثالا للشعوب العربية في العراق ، وقد ذكرنا الكاتب بمخاطبة هارون الرشيد لسحابة مرت فوق رأسه ( أمطري أينما مطرت فإنك في أرضي ) .



إن الرواية متجانسة ، فمسيرة تجانسها تتجه إلى أهلها ، وموضوعها المحدد في الصراع من أجل التقدم والقضاء على الفقر والتخلف الذي وراءه الشركات الاحتكارية والدول الصناعية الرأسمالية الكبرى ، وتكمن حداثة الرواية في نوعيتها الخاصة بتتابع الأحداث سواء كان قديما أو حديثا بمنظور آخر تقدمي إنساني وأيضا انعكاس للواقع ، فصهرت شخصيات في زمن البلبلة والفوضى السياسي ، فهي ذات اثر وبعد وامتداد بعيد للماضي ، ومستوى نثري يتناول عالم حقيقي واقعي .



تتحدث الرواية عن فترة ما بعد ثورة 14 تموز عام 1958 ، في عصر حافل بالقلق ، مليء بالاضطراب السياسي ، بالرغم من تصاعد نشاط الحركة الجماهيرية اليسارية ، إلا أن كثير من الكتاب والمؤرخين يعتقدون أن قادتها كانوا ضعيفي التجربة والمهارة السياسية والحنكة السياسي ، مثلها مثل قادة الثورة العسكريين الذين عبروا مرحلة تاريخية غير ناضجة ، وغير مؤهلين لقيادتها مع دعم الشعب لها ، وقد فتحوا بابا للدماء ، وهذا ما استغله القوميون الشوفينيون والرجعية الداخلية ، مدعومين من المخابرات الأمريكية ، ليقضوا على الثورة ومنجزاتها الكثيرة ، وتدخل البلاد في قتل ومذابح و إرهاب لا مثيل له .كل ذلك امتدادا وتتويجا حيا للأوضاع التي آلت إليها البلاد في الوقت الحاضر من تمزق وضعف ومستقبل مجهول غير واضح المعالم .



لقد أراد الكاتب أن تأخذ نهاية الرواية شيئا من التميز ، فهو سرعان ما ينتقل الى مكان بعيد عن العراق هو ليبيا حين يفرض تشابه الاحداث ذاك عليه. او ينتقل الى اعماق التاريخ الذي يتوحد في وسيلة القتل للخصوم ، تلك الوسيلة التي قضى بها السيد صادق وهو أحد شخوص الرواية ، وهي وسيلة يمكن ان تكون لاي واحد من شخوص الرواية المعارضة للسلطة والتي مر عليها الكاتب .

كان لي توق أن أقرأ المزيد من الوصف لبساتين النخيل وللحيوانات وطيور الأهوار . عسى نجد ذلك في روايات أخرى .





حمودي عبد محسن

2 /12 / 2009









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي