الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ستيلارك .. الجسد الناقص وامتداداته التكنولوجية

يوسف ليمود

2009 / 12 / 5
الادب والفن


مثل أورلان، يؤمن ستيلارك بالتقدم التكنولوجي وضرورة استخدامه. وإن كان عمل أورلان ينطلق من فكرة رفض الطبيعة كما هي، فإن عمل ستيلارك، يحاول أن يعالج النقص الكامن في الجسم كوحدة حيوية. فالجسد: "لا هو بكافٍ ولا متين، وهو عرضة للمرض والعطب السريع، كما يصاب بالتعب بسرعة، وأداؤه محدد بعمره، وهو منكوب بالموت الأكيد والمبكر، يبقى بدون غذاء أسابيع فقط، بدون ماء أياما، وبلا أوكسجين دقائق معدودات". الشيء الدالّ واللافت للانتباه، حين المرور السريع على البداية الفنية لهذا الفنان الاسترالي المولود في 1964 في ليماسول – قبرص لأبويين قبرصيين/يونانيين، أنه أدرك عجزه عن أن يكون رساما بالمعنى التقني للرسم، فتحول إلى عروض البيرفورمانس كوسيط فني، ليؤكد على حقيقة القصور الأدائي في جسم الإنسان!
"كنت دائما غير متوافق مع فكرة أن الفنان هو ذلك الشخص الحرفي، الذي ينتج مصنوعات يدوية ثقافية تعتبر جميلة أو حساسة أو ما شابه ذلك. ما هو أكثر إثارة بالنسبة لي، هو الفنان الذي يعمل بالأفكار، الذي يستعمل فنه كوسيلة استكشاف، على المستوى الشخصي أو العام، والذي يحاول أن يجد أو يلمس معنى وجوده في العالم. سأكون أكثر سعادة لو نُظر إلى الفنان كشاعر أو كفيلسوف، بدلا من كونه حرفي أو صانع". يقوده هذا، في عروضه الفنية، إلى اللعب على الأفكار والتصورات المستقبلية للجسم، التي تكمّل فيه الآلات وأذرع الروبوت، ما لم يخطر على بال الطبيعة أن تزود به أجسامنا.
نراه في خمسة وعشرين عرضا حول العالم، يعلق جسمه في الهواء بخطاطيف مغروسة في جلده، بينما وصّل جسمَه، المتدلي مثل كيس لحم، بأطراف معدنية موصولة بدورها ببرامج كمبيوتر تفاعلية تستجيب لإشارات وحركات الفنان. ثم نراه محشورا داخل عنكبوت معدني كبير له ستة أرجل، يستجيب في حركته إلى الإشارات العضلية من ذراعي الفنان وساقيه!
يفترض ستيلارك أن الجسم كالحاسوب يجب أن يُرقّى ويُحدَّث باطراد، كي يتطور ويتكيف مع الثقافة التكنولوجية العالية التي وصلنا إليها بالعقل. هو هنا متفائل ومؤمن بقابلية الجسم الإنساني للتمدد والاستقطاب (في 2007، زرع في بطن ذراعه اليسرى أذنا غير ناضجة الخلية)!

اجتذبت عروض ستيلارك جمهورا كبيرا بسبب إبهارها الأدائي وتقنيتها العالية، وأيضا بسبب خاصية تفعيل دور المشاهد في أن يكون جزءا من البيرفورمانس، حيث سمح الفنان للزائر بالسيطرة على الأقطاب الكهربائية التي يتعلق بها جسده، وتحريكه في الهواء كيفما يريد. إن مساءلة الفنان محدودية الجسد، وكونه، أي الجسد، غير قادر، في حالته الطبيعية، على التعامل مع أمور كالكمية والتعقيد وحصيلة الداتا التي جمّعها، قادت ستيلارك إلى الإقرار بأننا متخوفون، أو ربما غيورون من دقة وسرعة ولا محدودية التكنولوجيا التي تحيط بنا! أمام بعض الآراء التي شككت في هذا الروبوت الآدمي كنتاج لفكر فاشي، يردّ الفنان بأنه ليس الدكتور فرنكنشتاين، كما يرى أن فكرة الجسم المرقّى، أو المُحدّث، هي نوع من تحدٍ لرموزنا المعنوية والأخلاقية المصنّعة ثقافيا.
يقول ستيلارك: "في أغلب الأحيان، تكون الأحكام القيمية غاطسة في الذاكرة الثقافية والتاريخ الشخصي واللحظة الزمنية التي فيها تعمل المؤسسة المكلفة. أنا لست رجل التكنو المعقدة. لست حتى متحمسا للتكنو، بالمعنى الحرفي للكلمة. تجيء التقنية من الكلمة اليونانية techneبمعنى المهارة. لذا فإن التكنولوجيا هي مجرد استراتيجية معاصرة لتقرير وتقويم العالم والجسد الذي يسكن هذا العالم ويتفاعل معه. هذه ليست معضلة بالنسبة لي، لكن هذا لا يعني القول إننا كفنانين لسنا مهتمين بانتهاكات تلك التكنولوجيا، أو أننا لسنا قلقين بشأن اليأس الإنساني والاجتماعي الحاصل باستعمال التكنولوجيا العسكرية أو الطبية". السؤال الذي يقفز في الذهن هنا هو: هل نموذج الجسد المحدّث الأكثر تقدما المقترح، سيكون غير عرضة لقوانين الطبيعة؟ لن يعطينا الفنان إجابة قاطعة، غير أنه يفترض أرجحة النتيجة بين: ازدياد الحماقة التقنية، بسبب اعتبار الجسم ملغيا في الشكل والوظيفة، وبين ارتفاع سقف الوعي الإنساني!

وجد ستيلارك في اليابان البيئة التكنولوجية التي تمكنه من إنتاج وتطوير عمله. درس الفن وعلم الإجتماع في مدرسة "يوكوهاما" الدولية، والرسم والنحت في كلية بالارات. قدّم عروضه، منذ أواخر الستينات، على نطاق واسع في اليابان، أوروبا، والولايات الأمريكية، في أماكن غير تقليدية: مهرجانات الرقص وأماكن أداء الموسيقى المعاصرة والمسرح التجريبي... مستعينا بالآلات الطبية وعلوم الأعضاء الصناعية والإنسان الآلي وأنظمة الواقع الافتراضية والإنترنت. يقوم حاليا بتدريس فن البيرفورمانس في عدد من جامعات انجلترا.

بالنظر إلى عمل ستيلارك من زاويتة الجمالية، بعيدا من المفهوم الذي يثير جدلا لم، وربما لن تحسمه الآراء والتوقعات، نجد بعض أعماله غاية في الجمال. شخصيا، يكفيني أن أقف أمام عمله الذي علّق فيه جسمه العاري وسط دائرة من كتل حجارةٍ سابحة في الهواء، لأذهب إلى عوالم الفضاء والمجرات، وأرى كتل الحجارة هذه كواكبَ تدور حول شمس رائعة، ولا حدود لها، اسمها الجسد!
يوسف ليمود
مجلة جسد
رابط مادة سابقة ذات علاقة: http://www.doroob.com/?p=40555
يتبع: نبي العربدة الحمراء هيرمان نيتش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا