الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأديبة ( مي زيادة ) وسيكولوجية الابداع

عصام عبد العزيز المعموري

2009 / 12 / 5
الادب والفن



كثيرا" ما يتهم العباقرة من المفكرين والفلاسفة والمخترعين والأدباء والفنانين والمبدعين بشكل عام بأن أغلبهم ، إن لم نقل جميعهم ، يتسمون بشخصية عصابية وأنهم يتميزون بغرابة الأطوار ، وان الغالبية العظمى منهم كانت تعاني الاضطرابات ولو لفترة محدودة 00 لماذا يتهم العبقري أو المبدع بأنه عصابي ؟ أحتفظ بكتاب ممزق الغلاف من بعض الصفحات ، مما جعلني أجهل اسم مؤلفه ، لكنني أعتقد أنه ( د0 قاسم حسين صالح ) ، وكان المؤلف يتناول في كتابه هذا الإبداع في الأدب والفن ، وكان يقارن فيه بين المبدع والعصابي بقوله : ( إن المبدع كالعصابي ينسحب من واقع لا يرضاه إلى دنيا الخيال ولكنه يختلف عن العصابي بكونه يعرف كيف يقفل منه راجعا" ليجد مقاما" راسخا" في الواقع ) ، ويقدم لنا د0 يوسف ميخائيل أسعد في كتابه ( سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب ) تفسيرا" لعصابية العبقري أو المبدع وهو تفسير على ما أعتقد قد تفرد به عن غيره من المنظرين بتقسيمه الصحة النفسية للأفراد بشكل عام إلى ثلاث مراتب : المرتبة الأولى هي مرتبة السوية Normality والتي ننعتها لأنها الحالة العادية التي تتأتى لجميع الناس الذين لايثير سلوكهم أي ارتياب أو اندهاش ، فالشخص السوي هو الشخص العادي ، أو هو الشخص الذي لا تثير تصرفاته أو أفكاره سخطنا أو انفعالنا ضده ، أما المرتبة الثانية فهي مرتبة ماتحت السوية Sub Normality ، وهي الحالة التي ننعتها بالمرض النفسي أو العقلي أو العصبي ، فجميع الانحرافات النفسية التي تتصف بالانحراف عن الجادة إنما تقع في إطار المرتبة الثانية 0 أما المرتبة الثالثة من مراتب الصحة النفسية حسب رأي د0يوسف ميخائيل فهي مرتبة فوق السوية Super Normality ، وهي الحالة التي يكون فيها المرء في مستوى أعلى من مستوى الناس العاديين ، فالشذوذ الذي ينسب للعباقرة والمبدعين يشير في الواقع إلى الوقوع في إطار هذه المرتبة الثالثة من مراتب الصحة النفسية 0 ولو طبقنا ماتقدم من تفسيرات للإبداع لكل من د0قاسم حسين صالح ود0يوسف ميخائيل أسعد على الأديبة العربية ( مي زيادة ) صاحبة الصالون الأدبي المسمى باسمها لوجدنا الكثير مما يؤيد تفسيرهما ، إذ يتناول د0 يوسف ميخائيل حياة هذه الأديبة قائلا" : ( كانت مي آنسة لبنانية تكتب العربية والفرنسية وتقابل الرجال وتتحدث إلى الأدباء وأهل الفكر ويتحدثون إليها ، وفيهم أكثر من أعزب عاش حياته بلا زوجة ، وهم جميعا" بين متزوج وأعزب ، يضطربون في مجتمع لاتبدو فيه المرأة إلا كالطيف ، وإذا أسفرت واحدة من النساء ، كانت كالمحجبة تماما" ، لأنها لاتحسن حديثا" يشوّق الرجل المثقف أو يمتعه، أو يثير خياله ، أو يوحي إليه أو يلهمه بفكرة أو عاطفة أو خاطرة 0لذلك فقد تجمع حولها عدد غير قليل من الرجال ، بعضهم مثلها من لبنان وسوريا كخليل مطران وداود بركات وأنطون جميل وشبلي شميل ونجيب هواويني ، وبعضهم من مصر كلطفي السيد وعباس العقاد ومصطفى عبد الرازق ومصطفى صادق الرافعي وأمين واصف 0 وكانت تتبادل مع بعض هؤلاء الرسائل ، ومن هذه الرسائل ، ومما نشر عن أحاديث الندوة ، تحس أن هذه الأحاديث تكاد تكون غزلا" مستورا" بين صاحبة الدعوة وزائريها ، فالجميع يحاولون التودد إليها في تحفظ واحتياط ، وهي تستثير عواطفهم ، إذ تتلطف معهم ، وتقترب وتبتعد منهم بعد الآخر ، وفي حضور الآخرين ، فيكون لهذه اللعبة – لعبة الحب المستور – نشوة في نفوس هؤلاء المحرومين من المرأة في الصورة التي تمثلها ( مي ) ويخرج كل منهم من الندوة ، وهو أسعد حالا" وأطيب نفسا" 0 ولعل بعضهم كان يخرج من هذه الندوة وهو يحسب أنه ظفر بودها بأكثر مما ظفر سواه ) 0
ويقول المفكر المصري ( سلامة موسى ) عن الأديبة ( مي زيادة ) : ( إن مؤلفات الأديبة مي زيادة كثيرة ، ولكنها كانت في حديثها أبرع وأذكى مما كانت في جميع ما كتبت ، وكنت أقول لها أن السبب لتفوق حديثها على مقالاتها أنها شرقية تخاف في الكتابة أن تبوح بكل ما تفكر فيه ، ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديث ، وقد يتساءل القارئ هنا ولم لم تتزوج (مي ) مع جمالها وثقافتها ؟ فالجواب أنها كانت تعيش في وسط شرقي ، ولو كانت مي قد نشأت في برلين أو باريس أو لندن لوجدت الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها والفخر والمجد بالتصاق تاريخهم بتاريخها ، ولكن إخواننا اللبنانيين على الرغم من عصريتهم ، مايزالون شرقيين ولم يستطيعوا أن يسيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون أدبي له حرية الصالونات الأدبية في المناقشة والاختلاط ، وبكلمة أخرى نقول : إن مي عاشت عمرها قبل ميعاده بخمسين سنة )0
وهكذا نرى أن هذه الأديبة العربية قد دفعت ثمنا" باهظا" من صحتها للتوفيق بين المتعارضات التي كانت تعيش في داخلها ، فأرادت أن تكون عربية بعقلها ، شرقية بوجدانها ، فدفعت ثمن هذا التمزق آلاما" ، كانت ثمن صدقها مع نفسها وحيرتها بين الناس 0 ففي ليلة من ليالي شهر أكتوبر عام 1941 تعلن الممرضة أن المريضة ( مي زيادة ) يضيق تنفسها ، ويحاول الطب عبثا" إنقاذها ، ثم تنطوي آخر صفحة من هذه الحياة العجيبة لأديبة عربية 0

( نشرت في جريدة الصباح العدد ( 657 ) في يوم الاثنين 15 شعبان 1426 هجري المصادف 19 أيلول 2005 م ، صفحة ثقافة ، صفحة رقم 8 )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا