الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف القديم

صفوت فوزى

2009 / 12 / 6
الادب والفن


... وأنا لما حاصرني قيظ الظهيرة ، وقبض الحر علي حلقوم الدنيا ، قلت لنفسي : أقعد أمام النهر . أقذف بالحصي علي سطحه ، أتابع الدوائر الصغيرة تتوالد ، تكبر ، تتسع وتتلاشي ، شارداً أسرح في الأفق وأحلم .

الحقول منبسطة ممتدة كراحة اليد ، يأتيني صوت أنين السواقي ، تصايح الفلاحين ونداءاتهم ، خوار ثور أو نهيق حمار . يأتي الهواء عليلاً ، تقبل العصافير ، ترنو إليٍّ ولا تكف عن الشدو . قمم النخل ترتعش للهواء الخفيف وتسكن . كم من الساعات مرت وأنا جالس حيناً ممدداً أحياناً تحت هذه السماء الرحيمة ، أنقل البصر ما بين الأزرق الممتد والأخضر المنبسط ، وقوارب صغيرة تعبر صفحة الماء ، أشرعتها كأجنحة الحمام .

وثبت جيوش الظلام المعسكرة في الغرب وإغتالت نور النهار . هبطت علي القلب عتامة الظلال من هامات النخيل تعشش فيها الظلمة . القمر يريق ضوءه فضة مذابة في ماء النهر . يتماوج ماؤه فتبرز من بين ثناياه خيوط ذهبية لامعة تختلط بالفضة الذائبة تحيط وجهاً مدوراً منيراً يهمس بإسمي . جسدها البض الذي يشف عنه الماء يتلوي ويضوي .

إنها هي .. لابد أنها هي . حذرتني أمي – متي غربت الشمس وأظلمت الدنيا – من الكنس والخياطة ودلق المياه الساخنة في الحمام والإلتفات إلي النداء الذي يأتي من الخلف . حكوا عنها كثيراً ، لها في كل قلب صورة ، وفي جعبة كل متكلم عنها حكايات ، ونوادر ، وحكم كثيرة لم تكن تكفي لحكايتها الأماسي الطوال . في كل مرة إرتسمت لها في مخيلتي صورة مختلفة ، الأن أراها هي وأفهم كل ما قالوه عنها والذي لم يقولوه .

في حالة تقرب من الحمي طافت برأسي نتف من افكار ، كلمات من جمل ، وصور لوجوه إستجابت لغوايتها الساحرة فذهبوا ، ولم يعودوا .
زحف الخوف من زوايا الغيطان ، إنداح مع التيار ، تعلق في حبات الهواء بمخالب لا تري وتحول في داخلي إلي إنتظار مفجع .





كالملسوع أعدو بكل ما تبقي في من قوة ، حلقي جاف ، وقلبي يضرب بجناحيه في جريد ضلوعي ، أزيح طبقات الظلام المتراكم . الطريق الترابي يتلوي كأفعي هائلة ، تحيط به وبي من الجانبين زراعات الذرة الكثيفة وقد إستقامت وإستطالت ، تكاد كيزانها تتفتق عن أكمامها . الريح كالخيل الجامحة تضرب أعواد الذرة بأوراقها المشرشرة ، وشيشها يجرح أذني ، وعلي البعد كان المساء يتمدد علي سفوح القرية ، تختبئ في جوفه أرواح الذين ذهبوا وما تزال ذكراهم حية .

بيوت القرية توغل في البعاد ، ومن بعيد يأتيني صوت ماكينة الطحين منتظماً مبحوحاً تردده الأفاق .. تك .. تك .. تك .

مدافن القرية بشواهد قبورها تنتصب في الفراغ كأرواح هائمة تجوس في الليل . متربصة بي المخاوف خلف كل شجرة ، تحت كل حجر ، محيطة بي الظنون ، أسمع فحيحها وأري صورتها في كل رفة جناح وكل صرة جندب . قشعريرة تشملني ، قدماي كأكياس الرمل أنقلها بصعوبة وأسير .. خطوات قليلة .. خطوات قليلة كانت كافية لأراها تبرز من بين عيدان الذرة متجهة للقائي . تحملق في عيني ، تتوسل ، وفحيح صوتها لا يني يهمس بإسمي . نعم .. كانت هي ، لا شك في ذلك ، نفس القميص الذي ينهد ثدياها تحت قماشه الرقيق ، يشف عن حلمتيها الغامقتين ، الوجه الأبيض المدور الذي يشي بالرغبة والرعب ، السواد اللامع في عينيها الثقيلتي الأهداب وشعرها المصبوغ محلولاً تطوحه الريح . تتقدم صوبي ، يلفها الدخان ، والحرائق التي تنام تحت ثوبها وعيناها تبرقان ، ودون أن أتوقف عن الركض إنحرفت يميناً مع الطريق ، لكنها كانت هناك ، تختبئ خلف كل ظل ، خلف كل إنحنائة في الطريق ، هي في كل مكان ، خلف كل منحدر ، خلف كل شجرة ، تنتظرني حيث أذهب وتواصل فحيحها وصوتها يعلو كصفق أجنحة حمامة برية طائرة دون كلل ولا توقف .

مفروشة كل السكك بالوحشة والرعب ، وأنا متقطع الأنفاس تحتويني الرعدة ، بارد الأعضاء غارقاً في عرقي ، تستولي علي هواجسي حتي أخشي من مجرد الإلتفات .
عندما وصلت لمشارف القرية الهاجعة في الظلام ، لاهثاً أعدو ، حانت مني إلتفاتة مذعورة للخلف ، توقفت ، مسحت ببصري أقصي ما يستطيع رؤيته .. رأيت حقول الذرة الممتدة علي المدي ، الطريق الغارق في العتمة والأشجار الواقفة .. رأيت بقع الضوء والظلال .. ولم أر في كل هذا المدي أي أثر لإمرآة .. أي إمرآة .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب