الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المئوية الفريدة

صبحي حديدي

2004 / 6 / 15
الادب والفن


تمرّ يوم 16 حزيران (يونيو) القادم ذكرى مئوية فريدة ولا تشبه أية مئوية أخرى: في مثل هذا اليوم من العام 1904 تجوّل رجل إيرلندي يُدعى ليوبولد بلوم في شوارع العاصمة دبلن، ثمّ التقى بإيرلندي آخر شابّ يُدعى ستيفن ديدالوس، فترافقا بعض الوقت، وزارا دار بغاء بيللا كوهين، ثم عاد كلّ منهما إلى بيته.
هذه هي المئوية، دون زيادة أو نقصان! وأمّا فرادة الاحتفاء بواقعة تافهة كهذه فهي أنها ليست البتة تافهة من جانب أوّل، وأنها من جانب ثانٍ لم تجرِ على أرض الواقع بل في ميدان الخيال الأدبي، وفي عمل روائي عبقري خالد شهير، هو "عوليس" للروائي الإيرلندي الكبير جيمس جويس. ومنذ مطلع نيسان (إبريل) الماضي دشّن عشّاق جويس في مشارق الأرض ومغاربها سلسلة احتفالات وندوات وقراءات سوف تستمرّ حتي نهاية آب (أغسطس) القادم، تتناول الرواية وأدب جويس. ولقد أطلقوا على هذا اليوم المشهود اسم Bloomsday، واختاروا لإحياء الذكرى تسمية تدمج بين استذكار جويس وفعل الابتهاج والفرح: Re-Joyce.
وكما هو معروف، تسرد هذه الرواية (نقلها إلى العربية د. طه محمود طه، في ترجمة تستحقّ التقدير العالي أياً كانت هناتها) وقائع يوم 16 حزيران 1904، من الصباح الباكر وحتى قرابة الثانية والنصف بعد منتصف الليل. الحوادث التي تشهدها مدينة دبلن متناهية في بساطتها، رغم أنّ التاريخ يجثم عليها مثل كابوس، كما يعبّر ستيفن ديدالوس. الفصول الثلاثة الأولى تصوّر ديدالوس في برج مارتيللو الذي يقطنه مع مولليغان وهاينز، ودرس التاريخ الذي يلقيه على طلاب مدرسة المستر ديزي، ثمّ نزهته على شاطيء سانديماونت.
الإثنا عشر فصلاً التالية تروي وقائع نهار ليوبولد بلوم (عوليس الرواية): الإفطار في منزله، حضور الجنازة، زيارة مكتب الصحيفة، خمّارة ديفي بارنز، المكتبة، شوارع المدينة وموكب نائب الملك، الموسيقى في فندق أورموند، الاصطدام مع "المواطن" في خمارة بارني كيرنان، مغازلة جيرتي ماكدويل على الشاطيء، المستشفى ولقاء ستيفن (تليماخوس الرواية)، ثمّ مغامرتهما في المبغى. القسم الثالث يتألف من ثلاثة فصول تتوازى مع الفصول الثلاثة في القسم الأول: بلوم وديدالوس في الملجأ، عودتهما إلى منزل بلوم في 7 شارع إيكلز، ثمّ حجرة نوم موللي (زوجة بلوم) وأخيلتها الجنسية التي تسردها في ذلك الفصل ـ التحفة الشهير الذي يسير كجملة واحدة متصلة بلا أيّة علامة وقف.
وبعد 84 سنة على صدورها ما تزال في "عوليس" سلسلة من الخفايا التي يجهد النقد لاستكشافها، بنجاح تارة وبإخفاق أو نتائج هزيلة طوراً. بين هذه الخفايا هوية ليوبولد بلوم الدينية وما إذا كان يهودياً أم مسيحياً. ولا يظنّن أحد أنّ هذا التفصيل غير ذي بال. خذوا، في مثال معاصر، ما قاله وزير الشؤون الخارجية الإيرلندي برايان كوين في جامعة تل أبيب، مطلع هذا العام: "لعلّ بعضكم لا يدرك التاريخ الطويل للآصرة التي تجمع بين الشعبين الإيرلندي واليهودي (...) في رواية جويس الكلاسيكية، >، يكون ليوبولد بلوم، الشخصية الرئيسية التي تمثّل بطلاً ملحمياً حديثاً، يهودياً من دبلن". وبالطبع، قبل هذه الإشارة وبعدها سرد الوزير سلسلة طويلة من الحقائق التي تثبت أواصر الودّ بين شعب إيرلندا والشعب (!) اليهودي.
خذوا في مثال ثان بالغ الدلالة، هذه العبارة الشهيرة التي أطلقها دافيد بن غوريون ذات يوم: "حسناً... قد لا يقول الحاخامات إنّ بلوم يهودي. أنا من جهتي لا أتردد في اعتباره يهودياً". مردّ العبارة ذلك النقاش الساخن الذي نشب داخل الحركة الصهيونية وضمن مختلف التيارات الدينية اليهودية المتشددة، بحيث بدا وكأنّ تحديد هوية بلوم إنما يحسم معضلة كبيرة بين "العلمانيين" و"غير العلمانيين" داخل الصفّ اليهودي الواحد. مناحيم بيغين (دون سواه!) ردّ على بن غوريون آنذاك، فتساءل: "هل يحتاج الأمر إلى حاخام لندرك أن آكل لحم الخنزير ليس بيهودي"؟ وفي سجال حديث العهد اندلع في مستوطنة نيتيفوت بمناسبة الذكرى الخمسين لولادة الدولة العبرية وانعقاد مؤتمر حزب العمل، شنّ حاخام (يمني الأصل!) هجوماً مقذعاً على الذين يروّجون لأدب جويس الداعر، ويجدون فخاراً في أن يكون بطله يهودياً: "هذا الزاني، المتهتك، آكل لحم الخنزير، كاره طبريا".
وسبق لي شخصياً، في دراسة مفصّلة نشرتها "الكرمل" سنة 1991، أن حاولت البرهنة على أنّ بلوم ليس يهودياً. وكنت بذلك لا أنفرد عن ركب دارسي جويس لاعتبارات وطنية تخصّ الصراع العربي ـ الصهيوني، بل كنت أنضمّ إلى فريق أساسي من النقّاد الغربيين الذين ينظرون بتشكّك كبير إلى الفرضية التي تجزم تماماً بأنّ بلوم يهودي. ليس هنا مقام استعراض أيّ من الحجج الكثيرة التي استندت إليها تلك الدراسة، وأكتفي بتلك الجملة العجيبة التي يردّدها بلوم نفسه في الرواية: "كان يعتقد أنه كان يظنّ أنه يهودي، بينما عرف أنه كان يعرف أنه لم يكن".
وأمّا جيمس جويس نفسه فقد كان لا يملّ من اقتباس عبارة السياسي البريطاني دزرائيلي: "اليهود فسيفساء عربية"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل