الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بقايا صور من الحياة اليومية 3/النول

نقولا الزهر

2009 / 12 / 6
سيرة ذاتية


بقايا صور من الحياة اليومية 3
النول
كنت قريباً جداً من والدي، ومنذ أواسط أربعينات القرن الماضي بدأت أرافقه إلى الكروم، وفي كثير من الأحيان كان يأخذني معه إلى الشام (دمشق)، حين ينزل إليها لشراء ربطات الغزل. فقد ورث عن والده مهنة النسج على النول اليدوي. ومنذ تلك الفترة أخذت أتعرف على أسواق دمشق (سوق الغزل، سوق القطن، سوق الصوف، سوق الحرير، الحميدية، سوق الخجا،المسكية، النافورة، القيمرية...
كان النول يحتل مكان رئيسياً في حياة أسرتنا. وفي تلك الفترة، في أربعينات القرن الماضي، لم يكن قد بقي يعمل من أنوال صيدنايا سوى نول والدي، ونول آخر كان لايزال لدى المدعو (جميل المعري)، ينسج عليه العبي الصوفية(جمع عباءة). ويبدو أن الأنوال اليدوية كانت منتشرة في صيدنايا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكاد أن لا يخلو بيت من نول تعمل عليه العائلة، خاصة في فصل الشتاء، حيث لاعمل في الحقول والكروم والبيادر، وخاصة في أيام الأمطار والثلوج والشَرْد والبرد الشديد. وكانت والدتي تساعد والدي في مهنته، فتقوم بتسدية (خيوط السداة) بعد تنشيتها وتنشيفها. أما أخي الاكبر أسعد، وأنا، فكنا غالبا ما نقوم بلف الخيوط على مواسير المكوك على الدولاب (المِردَنْ). كنت أحب كثيراً لفَ (خيوط اللُحْمَة) على مواسير (المكوك). وكنت حين مجيئي من المدرسة في فترة الظهر، وبعد الغداء مباشرة، كنت أجلس خلف هذه الآلة البدائية التي كنت أعتبرها تسلية ممتعة جداً لي، خاصة في تلك الأيام التي لم يكن لدينا ما نلعب به كما هو الحال لدى أطفالنا واحفادنا اليوم. كان نول والدي منصوباً في (المربع التحتاني ) من منزلنا في صيدنايا، وفي أغلب الأحيان كان هذا المكان لا يخلو من الأصدقاء الذين كانوا يتبادلون الأحاديث المختلفة مع والدي، في الوقت الذي كانت قدماه تحرك تلقائياً دفة النول إلى الأعلى والأسفل ويداه تدخل المكوك من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين بين طبقتي خيوط النسيج. ومن أهم المنسوجات التي كان يحوكها والدي هي قصات الخام السادة وشراشف النوم، وفي أحيان نادرة كان ينسج حرامات من صوف المرعز، ولكن مثل هذه التواصي كانت قليلة جداً نظراً لارتفاع اسعار هذا النوع من الصوف. وفي الطرف الآخر من المربع التحتاني كانت تقيم جدتي (مريم ) مع ابنها الوحيد ونوله. كنت على علاقة وطيدة معها، وهي التي تمنت على والديَّ أن يسمياني (نقولا) على اسم خالها(نقولا هلال) الذي طالما كانت تحكي لنا عن بطولاته وقدرته في رفع الصلبات وأعدال القمح ومصاراعاته مع الآخرين.
في عام 1976 ، وبعد 24 عاماً على ترك والدي عمله على النول ، وهجرتنا الثانية إلى مدينة دمشق، كان خالنا (حنا) قادماً في زيارة ثانية له إلى الوطن بعد اغترابه إلى الأرجنتين، وفي يومٍ كان يزور دير سيدة صيدنايا، استقبلته الحاجة كاترين أبي حيدر رئيسة الدير، وهي تعرفه من قبل سفره إلى بوني سيرس في 4 تشرين الأول عام 1948، حيث كان قد عمل فترة في بستان دير السيدة. وقد رافقته في جولةٍ على جميع حارات الدير لتريه ما حدث من تجديدات وتحسينات فيه. وحين وصلنا في جولتنا إلى ميتم البنات، كم سررت وكم كان افتخاري بوالدي عظيماً حينما قالت له رئيسة الدير بعد أن وضعت يدها على شرشف أحد الأسِرَّة: " شوف حنا، ما زال لدينا شراشف من التي كان يشتغلها زوج أختك (أبو أسعد) " منذ أكثر من 25 عاماً. الله يرحمه، كان شغله ماكِنْ وتقوى".
كانت مهنة النسيج على النول مهنة فنية وممتعة جداً، ولكنها لم تكن تغني عن جوع ولا تكفي أوَدَ عائلة تتألف من ثمانية أفراد. لذلك كان يضطر والدي، بالإضافة إلى عمله على النول، إلى أن يقوم بأعمال مأجورة مختلفة. فقد عمل كرَّاماً حيث يقوم في أذار ونيسان من كل عام بتقليم أشجار الكرمة، وفي حزيران يقوم بتوريقها ويتقاضى عن كل يوم أربع ليرات سورية. وكذلك عمل حجاراً ولقد تعرفت على كل مقالع الحجر في البلدة، في جبل مار جريس وقرنة (شيرْنَطْبَا) وقرنة (حِصْبنَيا) حيث كنت أوصل له طعام الغداء. وفي الصيف كان يعمل والدي أيضاً بتذرية الحبوب. فهو وبعض أصدقائه (جريس الزين ونقولا الهامس أبو ديب ودرغام سمعان). كانوا يستأجرون مكنة للتذرية اليدوية ويحملونها من بيدر إلى بيدر في القرية لتذرية محاصيل الفلاحين. وفي الواقع هذا العمل كان يؤمن جزءاً كبيراً من مؤونة عائلتنا من القمح والشعير والعدس والحمص والكرْسَنَّة. وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال المختلفة كان والدي يعتني بكرومنا الخاصة التي كانت توفر لنا فاكهة العنب والتين ومؤونة التين اليابس والزبيب والدبس والسماق. وأيضاً كان يعمل مع زملائه في جبل الباطون حينما بدأ يحل الإسمنت محل الطين في البناء، وكان يشتغل بأعمال موسمية مختلفة. وكذلك والدي كان واحداً من أناس عدة من بلدة صيدنايا، الذين دفعتهم ظروفهم الفقيرة لكي يحملون على ظهورهم تنويعة من الحاجيات المختلفة، من ألبسة داخلية وجوارب وحطاتٍ للرأس وغيرها من الأشياء، يتسوقونها من دمشق، ثم يقطعون مسافات طويلة مشياً على أقدامهم جبالاً وودياناً، مغرِّبين عابرين الجرود المختلفة باتجاه الأراضي اللبنانية، ثم يتنقلون في القرى البقاعية، من قرية إلى قرية لبيع حاجياتهم. لا أتذكر سفرات والدي إلى لبنان. ويبدو أنه كان يقوم بها قبل ولادتي. ولكن سفرات لبنان بقيت مادة لحديثه طوال عمره، وكان يحكي لنا عن الناس الذين تعرف عليهم في هذه القرى اللبنانية. وقد حفظت أسماء بعض القرى عن ظهر قلب قبل دخولي إلى المدرسة وقبل أن أطلع على خارطة سورية ولبنان، مثل سرغايا ومعربون والنبي شيث وجب جنين وسعد نايل وثعلبايا وعلي النهري وعنجر وزحلة ورياق.. وقد بقي من الصيادنة الذين يذهبون إلى لبنان ويحملون على ظهورهم الحاجيات لبيعها في القرى البقاعية، زوج خالتي ساره أبو ميلاد (ميخائيل نجمة) إلى أن جاء من آخر سفرة له ووقع مريضاً بالحمى السحائية وتوفي في خريف عام 1947.

نقولا الزهر
دمشق في 6/12/2009










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صيدنايا القديمة مخزن الذكريات
مريم نجمه ( 2009 / 12 / 7 - 09:29 )
نهنئك يا أخ نقولا على سردك لمحة غنية من السيرة الشخصية , النضالية والطبقية , الغنية بالروح الإجتماعية , وبالأجواء الإنتاجية والثقافية التي نعتز ونفتخر بها . إنها درس ثمين للأجيال وفخر لشعبنا ووطننا برموزه السياسية المكافحة والأصيلة بجذورها الإنسانية الراقية ..
أرجعتني أيها الصيدلي الصديق والقريب في هذا المقال إلى عبق الطفولة وصورها الجميلة التي لاتغيب عن الخيال والفكر فنحن مزروعين بكل مكان ذكرته في مقالك الرائع . للتذكير فقط كان والدك وصهري ميخائيل نجمه , ونذكر أيضاً الشاعر الصيدناوي سليمان الخوري ( إبركسية أبو يوسف ) ومطانيوس الكردي وغيرهم , كانوا يذهبون إلى قرى لبنان لبيع منتوجاتهم النسيجية , هكذا كنت أشاهد وأسمع من الأهل .
سلمت يداك ليبقى هذا القلم الصادق يكتب جزء من تاريخ البلدة - النابض بالأخوة والجمال - ضمن تاريخ الوطن
تحياتنا الحارة ..محبة


2 - تصحيح خطأ نحوي
مريم نجمه ( 2009 / 12 / 7 - 10:20 )
أسفة , لقد قرأت تواً التعليق فوراً لاحظت الخطأ في السطر الخامس الصح ( نحن مزروعون ) وليس مزروعين ..وشكراً
مريم

اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة