الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعلام لا يعلم ولا يتعلم:استنساخ الفشل والغوغائية وابتذال الوطنية

سعد هجرس

2009 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


التاريخ لا يعيد نفسه.. وإذا فعل فإن "الطبعة الثانية" تأتى – فى الأغلب الأعم- على صورة "مسخرة" وابتذال لـ "الطبعة الأولى" التى شاهدنا وقائعها قبل سنوات أو حتى عقود.
هذه المقولة، التى يطالعها كل من يتصفح أدبيات فلسفة التاريخ، تحظى بما يشبه الإجماع استناداً إلى العشرات والمئات والآلاف من الشواهد التاريخية فى كافة بلاد خلق الله.
لكن الإعلام المصرى يبدو "الاستثناء" النادر من هذه "القاعدة" الذهبية، فهو لا يتعلم من التاريخ أبداً، وإنما يكرر ممارساته نفسها دائماً.
وقد عشنا خلال الأسابيع الأخيرة هستريا مجنونة على خلفية مباراة كرة قدم لم يكن مسموحاً، أو ممكنا، أن يعلو خلالها صوت فوق صوت "المعركة" الكروية فتوقف الحديث عن همومنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حتى "الدبلوماسية" تفرغت لخدمة هذه "المعركة"، وبالنتيجة أمتد مسرح الجريمة الإعلامية ليشمل الجزائر ومصر والسودان، واتسع نطاقها من فنون الكرة الى تلويث الشعوب وتمزيق كل الوشائج التى أقيمت بينها – عبر أجيال- ودفعت ثمنها غاليا من دمائها وعرقها وكفاحها، ولم يقتصر تقطيع الهدوم على مصر والجزائر بل امتد رذاذه إلى "عموم" العرب من المحيط إلى الخليج دون تمييز، حيث حسم وزير إعلامنا السيد أنس الفقي الأمر أمام مجلس الشعب بمقولته "الفلسفية" الحاسمة والقاطعة "بلا عرب بلا زفت"!!
وخلال هذه المعركة الإعلامية الساخنة اقترفت جوقة من الإعلاميين والصحفيين فى الفضائيات و "الأرضيات" والصحف القومية والحزبية والخاصة فى الجزائر ومصر على حد سواء، كل الأخطاء والخطايا المهنية التى يمكن تصورها.
****
وليست هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها ذلك، بل أنها مسألة باتت معتادة ومتوقعة لدى وقوع اى خلاف أو اختلاف فى وجهات النظر بين اى حاكمين عربيين.
*****
والأمثلة على ذلك فى تاريخنا البعيد والقريب أكثر من الهم على القلب. اشير فى هذا السياق الى واحد منها فقط كنت "متورطا" فيه شخصيا.
فمنذ ثلاثين عاما تقريباً توترت العلاقات بين مصر وليبيا، وتصاعد التوتر ليصل بالعلاقات بين البلدين إلى حافة التدهور، حتى وصل الحال إلى اندلاع حرب حدودية قصيرة الأمد فى يوليو 1977، بعد أن هاجم متظاهرون ليبيون السفارة المصرية وفعل المتظاهرون المصريون نفس الشيء ضد السفارة الليبية بالقاهرة. وفى يونيو 1977 أمر القذافى بطرد 225 ألف مصرى يعملون فى بلاده. وامتداداً لمسلسل التدهور فى العلاقات المصرية الليبية- والمصرية العربية عموما- تم قطع العلاقات بين مصر وليبيا.
واستمر هذا الوضع العبثى فى أوائل الثمانيات، فى ظل حملة إعلامية ضارية استخدم فيها الإعلام- من البلدين- أحط الأسلحة، ولعلكم تتذكرون مثلا الرسوم الكاريكاتورية للعقيد معمر القذافى وهو يضع فوق رأسه "قصرية"، مقابل بذاءات فى الإعلام الليبي البائس.
وفى ظل هذه الأوضاع المتدهورة التى دفع خلالها آلاف المصريين العاملين فى ليبيا ثمناً باهظاً ظهرت مبادرة من الأستاذ أحمد حمروش رئيس المنظمة المصرية للتضامن الاسيوي الافريقي وقتها بتشكيل وفد من عدد من الصحفيين المصريين "المستقلين" الى ليبيا لتقصى حقيقة الأوضاع كبداية منطقية لاقتراح مبادرات عملية لتخفيف هذا الاحتقان غير المبرر.
كان الوفد يضم – فيما أتذكر- الأصدقاء والزملاء الأساتذة المرحوم عبد الله امام و المرحوم الدكتور فتحى عبد الفتاح، ويوسف الشريف وعبد القادر شهيب ويوسف القعيد وعاصم حنفى وسامى الرزاز وبهي الدين حسن وكاتب هذه السطور.
وكانت المشكلة الأولى انه لا توجد خطوط طيران بين القاهرة وطرابلس بسبب القطيعة، كما أن الطريق البرى مقفول بالضبة والمفتاح. فسافرنا إلى ليبيا عن طريق قبرص!
وفى ليبيا رأينا أموراً عجيبة منها ان إسم القاهرة إذا ظهر فى اى نشرة أخبار لابد أن يقترن بصفة "المقهورة"، وان خريطة مصر اذا ظهرت على الشاشة لابد ان تصبغ بالسواد، وان تلاوة القرآن بصوت الشيخ محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد وباقى كبار القراء المصريين محظور فى إذاعة وتليفزيون ليبيا، وكذلك الحال بالنسبة لام كلثوم وعبد الحليم حافظ وكبار المطربين والمطربات المصريين.
لماذا يا إخواننا؟! كان الرد هو أن "كامب ديفيد هى السبب".
لكن ما شأن هؤلاء بكامب ديفيد.. وما شأن المصريين العاملين فى ليبيا بكامب ديفيد؟! ودارت مناقشات ساخنة حينا وهادئة أحيانا على مدار عشر أيام نجحنا خلالها فى انتزاع موافقة من المسئولين الليبيين على إعادة فتح خطوط الاتصالات التليفونية بين البلدين حتى يتمكن المصريون المقيمون هناك من الاتصال بذويهم، وفتح الطريق البرى بين البلدين، ورفع الحظر عن الشيخ رفعت ورفاقه وأم كلثوم وتلامذتها والفن المصرى عموما، والتوقف عن ترديد عبارة "القاهرة المقهورة" السخيفة، وبحث آلية لحصول المصريين الذين تم ترحليهم من ليبيا على حقوقهم المالية.
وعدنا من ليبيا ونحن نشعر بأننا قد حققنا شيئا ايجابيا لأهلنا، والاهم أننا قمنا بواجبنا المهني كصحفيين، بما يتطلبه ذلك من موضوعية ودقة وبحث عن المعلومات من مصادرها..الخ.
لكننا فؤجنا بعد عودتنا باحدى الصحف القومية الكبيرة تنشر موضوعا هجوميا بعنوان " الخونة".. يقصدنا نحن بالطبع!!
فذهبنا جميعا – بربطة المعلم- إلى مجلس الشورى.. مالك هذه الصحيفة لنشكو إلى رئيسه، الذى كان وقتها الدكتور على لطفى.. لكن الاجتماع انتهى على فاشوش.
ودارت الأيام.. وعادت العلاقات الرسمية بين القاهرة وطرابلس إلى سيرتها الأولى وعاد نفس من كانوا يسممون الآبار – من الطرفين- إلى ممارسة نفاقهم القديم!! وعاد العقيد القذافي بخيمته الشهيرة وحرص فى كل مرة يحضر فيها إلى القاهرة بعد الصلح على مصافحة ومداعبة من تطاولوا عليه وكالوا له الاتهامات وأقذع الأوصاف.. وكأن شيئا لم يكن!!
*****
وبالطبع فان هناك أوجه اختلاف كثيرة بين الأزمة التى واجهتها العلاقات المصرية الليبية وبين الأزمة التى تمر بها العلاقات المصرية – الجزائرية.
على الأقل.. كان السبب الظاهرى فى الحالة الأخيرة سبب أكثر تفاهة. فهو مجرد لعبة ونتيجة مباراة فى الكرة!
والحمد الله انه ليست هناك حدود مشتركة بين البلدين وا لا لكانت حماقة الإعلام الرياضى وإعلام الإثارة، الذى نجح فى اختطاف الدولتين وتهييج مشاعر الملايين هنا وهناك، قد جرت البلدين إلى مواجهة حربية مجنونة.
وجه الاختلاف الآخر.. أن الإعلام وقت ذروة الأزمة المصرية الليبية لم يكن بالسطوة التى يتمتع بها الآن، ولا بالتطور "التكنولوجي" الذى يجعله مهيمنا على أدمغة الملايين عبر الحدود والمسافات. الأمر الذى يضع عبئاً كبيراً على المؤسسات الإعلامية ومنظماتها المهنية والنقابية فى ضرورة ان تكون حرية الأعلام مقترنة بالمسئولية والالتزام بالأصول المهنية والتصدى لثقافة الكراهية أو التمييز.
****
ولهذا.. فانه ليس مطلوبا فقط التنديد بالجرائم الإعلامية التى تم اقترافها، هنا وهناك، قبل وأثناء هذه الأزمة، وإنما المطلوب أيضا- وأساساً- أن تقوم هذه المنظمات المهنية والنقابية الإعلامية بواجباتها ودعوتها إلى اتخاذ مبادرات جادة، وعملية، للحد من التأثير الهدام لهذا الانفلات الاعلامى غير المسئول الذى ربما تحركه أجندات ومصالح خفية مستفيدة بالانحطاط المهني الكاسح، والعمل على تجنب تكراره.. حتى لا يصبح العرب – فعلا وقولاً- مجرد "ظاهرة صوتية"، أو مجرد "قطيع" يساق إلى اى اتجاه.. حتى لو كان هذا الاتجاه يفضى الى سكة الندامة.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على حلبة فورمولا 1.. علماء يستبدلون السائقين بالذكاء الاصطنا


.. حرب غزة.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطة بايدن والمقترح ا




.. اجتماع مصري أميركي إسرائيلي في القاهرة اليوم لبحث إعادة تشغي


.. زيلينسكي يتهم الصين بالضغط على الدول الأخرى لعدم حضور قمة ال




.. أضرار بمول تجاري في كريات شمونة بالجليل نتيجة سقوط صاروخ أطل