الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
-شعرية القلق- النص بوصفه مسوَّدة أولى للذاكرة
فاطمة الشيدي
2009 / 12 / 7قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة في مجموعة "وحده قلقي" لإسحاق الخنجري"
مدخل :
تشكل محمولات النص، أو ذاكرته القاسم المشترك بين الناص والنص والمتلقي؛ حيث يقدّم النص من خلال بنيته النصية، وعناصره الداخلية ملمح للمرجعيات النفسية والاجتماعية التي شكلت ذاكرته الشعرية، تلك الذاكرة التي يمكن الاستدلال عليها من التحليل المفصلي اللغوي للنص، وتتبّع الإحالات اللغوية، كالضمائر، والأساليب، والأدوات، ومن خلال تحديد المرتكزات الزمانية والمكانية والنفسية والاجتماعية التي يقترحها النص، فلا يمكن للشاعر توظيف مفردات ما، أو استحضار ثيمات معينة بلا قصدية، سواء كانت هذه القصدية واعية أو غير واعية.
لذا فإن تحليل النص يكشف عن ملامح بنيته الخاصة، والسمات الداخلية له، دون اللجوء للاتكاء الكلي على قراءة العناصر الخارجية القائمة على الفلسفة والتأويل، من قبل المتلقي فقط، وكما يقول بول ريكور:" إن إحالة الخطاب إلى ذاته يتيح لنا تأويلين يعكسان الجدل الرئيس بين الواقعة والمعنى، إذ يعني المعنى مايعنيه المتكلم، أي مايقصد أن يقوله" .
ومن خلال القراءة التحليلية القائمة ببيان العلاقة بين اللفظ والمعنى، وبين اللغة والدلالة، تتضح لنا ذاكرة الناص ومرجعياته الثقافية، حيث "تشير البنية الداخلية للجملة إلى المتكلم بها من خلال إجراءات نحوية يطلق عليها اللغويون اسم أدوات التحويل مثل الضمائر، وأزمنة الفعل، وظروف الزمان والمكان، وأسماء الإشارة وهكذا يتوفر الخطاب على بدائل كثيرة للإحالة على المتكلم"
والمتتبع لنص إسحاق الخنجري المتمثل في ديوانه "وحده قلقي" يجد ذاكرة الشاعر ماثلة بشكل طاغ ومهيمنة على النص، وكأن النص مسوّدة أولى لهذه الذاكرة، أو أغنية ذاتية تترنم بها الروح في لحظات غيابها وحضورها، فنجد العشق والمرأة، كما نجد الغربة والوجع، ونجد النزق الذي يشكّل حالة ارتباك روحية قصوى، ونفور حميمي من كل بدهيات الثبات أو التشبث، نحو القلق والنزق والغياب، كدشين واعي أولا واعي لحالة من القلقلة الذي يقرها الشاعر من خلال اسم المجموعة.
وفي هذه القراءة المبسّطة سأحاول أن أفتت أو أفكك السمات اللغوية، والفنية للنص؛ لتحديد محدداته الداخلية، واستقراء بعض ملاح روح الشعرية الخاصة به.
هامش المتن، أو متن الهامش:
يمكن للقارئ مع أول معاينة، أو معناقة للنص الإسحاقي تبين الكثير من ملامح التشكيل اللغوي والفني للغته ونصه، وكأن نصه في حالة تململ فضائحية، ورغبة إفصاحية لمكنوناته الداخلية، وتقديم صورة علنية للمتلقي لمقترحاته الشعرية الجديدة، واشتغالاته الفنية الخاصة، والمنبثقة من وعيه أو لا وعيه، بل وكأنه كتب ليفرغ شحنة القلق من ذاته، أو ليفضي للمتلقي الخاص أو العام بها.
وهنا بعض هذه الملامح:
1. قرب المستوى المعجمي من المتلقي: فلا يجد المتلقي عنتا أو مشقة في قراءة النص، أو التواصل مع بنائه الفني السلس والطبيعي، والجميل في نفس الوقت، فالنص حميم قريب بألفاظه ولغته، ولا يشكّل عجمة أو لبسا في الفهم على مستوى المتلقي العام، حتى خارج ما يسمى بنخب المتلقين، لأنه يقع خارج مناطق الترميز والتلغيز، والغموض.
يقول :
أي جيتار يعلمك الرحيل؟
تمهلي ليلى
فما عرفت خيام الغيم عشاقا
بدونك
تستحيل الكأس أشباحا
ويحترق النداء
2. التنويع البنائي الأسلوبي: حيث يميل النص إلى التنويع في ممكنات ومرتكزات الحالة البنائية اللغوية، مستخدما العديد من الأساليب؛ كالنداء والاستفهام والتعجب، ومختلف أنماط الجمل وأنواعها، الفعلية والاسمية، الخبرية والإنشائية، كما قد يميل للتقرير في فكرة ما ليقدمها جاهزة، بينما يشرك المتلقي في أخرى من باب التأرجح والمراوحة بـ"ربما" مثلا من باب شعرية القلق التي تشيع في الديوان.
يقول:
يا ابن العشب أين أبوك
يحملني
تجاه الماء؟
وفي نص "ربما للحرف معنى" مثلا؛ نجده ينوع في التشكيل البصري على تنويعات استفهامية متعددة؛ ليختبر السؤال في داخله، أو في داخل المتلقي بلا رغبة في الإجابة، فقط ليقصي جحيم الأسئلة المؤرقة له فيقول:
هل..
كيف..
ما..
كم..
أين..
من
ويقول في نص غضب :
ما هذا الخرافي الذي يجتاحني
للسارق المجنون في جسدي
متاهات ومعنى
ربما سقطت على سيارتي الصفراء ساحرة
فألقت رعبها
أو ربما ذهبت بشهقة حاسد!
3. أزمنة الأفعال: يراوح الشاعر بين أزمنة الفعل، ماضية وحاضرة، فتجده ينتقل في ذات النص، وربما في ذات الفقرة بين زمنين، ولكنه الفعل الماضي هو الأكثر غلبة في الحضور، وكأنه يأنس بماضيه، ويهرب من زمانه الحاضر إليه، ملتذا بالغياب في ذلك الماضي، الذي كثيرا ما يشكل الحضن الأول، والمخبأ السري لأحلامنا جميعا.
يقول :
كانت الصحراء
بائعة
توزع للجفاف قصائدي
أدركت
وحدي ثورة الطرقات
في جسدي
فكنت مدينة
سئمت متابعة الكواكب
هل ستكفي ليلة
لأنام
كالحجر المضمّخ بالندى
.
الليل قنطرة المسافر
ألبس الذكرى
فيحملني
هدير الروح
نحو جزيرة أخرى
تثير غرائزي
"أدركت"
4. تعدد مرجعية الضمائر: ويراوح الشاعر أيضا في مرجعية ضمائره وإحالاتها بين الحاضرة والغائبة، والمفردة والجمعية، والمذكرة والمؤنّثة، إلا أننا نجده يركز على الـ (أنا) والـ (أنتِ) حاضرة وغائبة، متّصلة ومنفصلة، فهو يكتب نصه بذاتيته الخاصة، ويشفّع أنثاه في ذلك النص، لذا نجده يحدثها ويتحاور معها ويسألها، مما يشي بقيمة الأنثى في قصيدة الشاعر وفي حياته.
يقول:
(مائية)
تبكي
لأن البحر لا يبكي
وانحدرت سدى
صلّت
لأجل يمامة غجرية
تدمي هشاشتها
وتمنحها السماء
غنت
لقلب أخزمي البوح
يدرك سرها
ونداء شهوتها
ومن ذلك أيضا؛ (يمضون، تنحسر الحقيقة، في توهج خطوهم ، يتعثرون)، (فألقت رعبها)، (هل تأتين قبل الفجر؟)، (أنت ترقصين).
5. سلامة الصورة الشعرية ووفرتها: ونص إسحاق يظهر إعتناءً حقيقيا بالصورة، واهتماما بالغا بشعريتها، لذا نجد الصور في نصه حية وحقيقية وسليمة البنية، وكثيرا ما نجدها مشتقة من الزمان والمكان، وقد تسير باتجاهات الحلم والغرائبية أحيانا قليلة. ويمكننا أن نلمس ذلك من خلال عدد الصورة التي نجدها في تحليل نصين فقط هما: وحدق قلقي" ، و" الرمل ما سرّ الغياب" لنجد : (الكواكب كلها اتحدت)، (وحدي مع الفوضى) ،(شريد في جهات الريح)، (علّ هذا الجرح يمنحني نبيذا)، (علّ هذا الليل يأتي بالبعيد) ،(أبصرت هاويتي هنا)، ( وهناك أبصرت السراب محطة أخرى)، ( وحيدا أذرف الماضي على جسدي)، (تشكلي عشبا)، ( كيف أخبئ الكلمات في عينيك)، (ضميني إذا انكسر الحديث)، (في جهات حقائبي)، (فضاء القلب)، (جيتار يعلمك الرحيل)، (تستحيل الكأس أشباحا)، (يحترق النداء) ، (زرقة فكت ضفائها)، (حجر يتابعني)، ( سراب أسود التكوين يأخذني بعيد)، ( هذا الصوت يذهب للخرافة)، (قبائل الرؤيا)، (الصحراء بائعة توزع للجفاف قصائدي)، (في جسدي مدينة)، (حجر مضمّخ بالندى)، (الليل قنطرة المسافر)، (ألبس الذكرى)، (يحملني هدير الروح نحو جزيرة أخرى) .
6. خفة الموسيقى: ونص إسحاق نص موسيقي، بمعني أنه تشيع فيه روح موسيقية خفيفة، موسيقى داخلية لا تعينه على الكتابة، بقدر ما تعين المتلقي على المتعة، ولا تثقل النص بالغنائية السطحية، كما لا تلقي به في حالة من استجداء الحالة التتابعية الشعرية للنص، فيأتي النص عبدا للموسيقى، ومتشابها مع الكثير من النصوص الفضفاضة والمنطلقة من لحن الفكرة، أو فكرة اللحن، فالنص هو الذي يولد الموسيقى، وليست الموسيقى هي التي تخلق النص.
7. "ثيمات" واشية: تشيع في النص العديد من الألفاظ والثيمات، التي تنطلق من الرؤى النفسية والفلسفية للشاعر، وتشي بمداراته الخاصة، ويمكننا تقسيمها إلى حقول دلالية كما يأتي:
أ- الذات: فنص إسحاق نص ذاتي محموم بالأنا، ومتوجّس من خلالها، لذا لا عجب إن كثرت فيه ثيمات مثل "النزق، والجسد"، ولعل تتبع العناوين فقط، يشفع لهذه الفكرة، فهي بالتتابع "هديل، نزق، وحده قلقي، الرمل ما سر الغياب، رملي أنت بالمنفى، هتاف، نزق، أزمنة التحول في الصدى(مائية رغم الجفاف)، غضب، نهاية، نزق، جفاف، ربما للحرف معنى، غياب، نزق، نداء، السقوط، وحيدا بين آهات المسافة، نزق، ذكريات في المرآة، الموت خاتمة الرواية، رحيل، نزق"
فكلها تمثل حالة خاصة وذاتية، مما يوضح أن الشاعر جعل الذات بؤرة العالم، يحرك الأحداث والشخوص والمواقف والقضايا من خلالها.
ب - المرأة: ويكثر حضور المرأة في النص ويتعدد، في مناجاة ومناغاة وخطاب وشكوى، كما يتخذ صور عديدة؛ محددة وجليّة وواضحة كالأم والحبيبة، أو ضمنية غير محددة كالأنثى، والجمال والحياة وغيرها.
يقول: "يا أمي تعبت
أنا يمزقني الصدأ "
ويقول:
"لاتسأليني
مرة أخرى عن العشاق
يا أمي أحبك"
ونص نهاية يصور أجمل وصف للحبيبة ومنه:
" تمرين بالقلب
عيناك شهقة فجري
وكفّاك تعويذة الرحيل
تعلمت منك
الحنين إلى الأغنيات
تعلمت كيف أنام
على غيمة هادئة
ج - الموت: ويتخذ الموت عدة أشكال في النص؛ كالخراب والهاوية، و الغياب، والنهاية، والجفاف، والسقوط، والرحيل، والمسافة، وغيرها من المفردات التي تدل على الوجع والنهاية والحنين، سواء ضمن الحيز النفسي الحقيقي للشاعر، أو الحيز الفلسفي والوجودي له.
ومن ذلك في النص: "همس تمزق بالغياب"، " أنا النهاية بين هاويتين"، "لافرق بين مدينة عمياء، أو صحراء مقفرة، تصدع قلبها، كلتاهما الموت..خاتمة الرواية"، بل وقد يستنجد بنص خارجي ليسعف حرقة الموت والرحيل، مثل: تضمينه لمقاطع للشاعر خالد العريمي"
" تجمعني بهذا الموت
روح لا تزال طليقة
في الحرف
أعشقها"
د- المكان: حيث يظهر أثر المكان في الشاعر والنص، فهو الحيز الحقيقي، أو المتخيل للفكرة، وللحالة الشعورية، لذا فهو يتخذ عدة مسميات: كالوطن/ الرمل/ القرية.
يقول:
" وطني
سعيد
شكّلت
ليلى مدائننا
ولم ندرك
حدود الشمس فينا
" ياوطني الغريب
أنا هنالك أم هنا؟"
وختاما: فهذا قراءة سريعة ومن زاوية واحدة، لنص(مجموعة شعرية) يمكن أن يفضي بالمزيد.. ويمكن أن يتناول من زوايا أخرى أيضا...
الهوامش
- إسحاق الخنجري، شاعر عُماني له "وحده قلقي"، الانتشار العربي، 2009
- بول ريكور نظرية التأويل ، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي2003، ص 39
- بول ريكور ص 40
- م4-14 من نصوص المجموعة
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الحرب والسلام: صفقة مع بوتين على حساب أوكرانيا؟ | بتوقيت برل
.. حماة تسقط بيد فصائل المعارضة: الجيش السوري يقر بخسارة المدين
.. عاجل | الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم: لهذا السبب سنقف إلى
.. نعيم قاسم: انتصرنا لأن مقاومتنا باقية ومستمرة
.. كمائن القسام ضد الاحتلال.. كيف تدير المقاومة خططها العسكرية؟