الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروائي الفلسطيني : العزلة والحواجز

حبيب هنا

2009 / 12 / 8
الادب والفن



حبيب هنا
هذه الشهادة قدمت للملتقى الدولي الثاني عشر للرواية "عبد الحميد بن هدوقة"المنعقد في الجزائر الآن، بعد أن تعذر عليّ السفر جراء الحصار وإغلاق معبر رفح الحدودي ولم أستطع تلبية الدعوة التي وجهت إليّ، فكلف رئيس الملتقى من يقرأ الشهادة .
إن الحالة السياسية المطروحة تعيد إنتاج نفسها عبر الرواية التي تصبح أسيرة لها ، وعبر التقنيات السردية المعروفة التي باتت تابعة ، فضلاً عن النص الروائي بتقنياته الفنية ، وهو ما يدفع بالتالي إلى إنشاء علاقة قصريه بين النص وجماليات السرد ، فيصبح الحيز قادر على اغتصاب المكان والفضاء وتأثيرهما على الزمان ومدى انعكاسه على الحدث الرئيس عند معظم الروائيين .
ولهذا دلالاته عند الروائيين الفلسطينيين ، حيث الخصوصية للوطن المتروك تحت العسف والمجازر وتدمير البيوت ، وحيث العزلة وإقامة الحواجز وعدم الاتصال بين مدينة فلسطينية وأخرى ، وحيث الخطاب السياسي الذي لم يرق لمستوى التحديات وضياع فلسطين شبراً وراء شبر، وحيث تتحول مظاهر الحياة التي نعرفها عند المجتمعات كابوساً يطارد الفلسطيني الذي يحاول التمسك بحقوقه التاريخية العربية المعاصرة كي تصبح سائداً يصعب تجاوزه .
على هذا النحو ، نرى المدينة تلو الأخرى في الضفة الغربية المحتلة تتجاوز الجغرافيا والتاريخ ، بنفس القدر الذي يتجاوزه كاتب التاريخ ودارس الجغرافيا ، فيتحولا معاً إلى ذاكرة يصعب القفز عنها عبر جمالية فنية تحيل المدينة إلى حيز مغاير لما يسعى إليه المحتل متمثله حالة المقاومة ومنخرطة فيها عبر الأدوات السردية السائدة فتسود المكان بشكل مختلف ومغاير وجديد رغم حجم الدمار الذي يحدثه المحتل الغاصب .
وإذا كانت الرواية ارتبطت ، منذ القدم بالمكان ، فإن للفلسطيني الفاقد خصوصية المكان بأبعاده المتعارف عليها ، وضعاً استثنائيا ، لم يغب المكان عنها تماماً إلا بالقدر الذي واصل فيه المحتل إقامة الحواجز ومصادرة الحيز ، ومع ذلك ، كان الفضاء المكاني المتخيل بديلاً دلالياً لا يقل أهمية عن المكان والسعي نحو المحافظة عليه وجعله أجمل ما يكون بعد ما ارتبط بالفعل المقاوم الذي يرفض المصادرة والاستلاب وجعل الواقع عنيداً مخالفاً لوضعه الطبيعي . فضلاً عن إضفاء الروائي الفلسطيني ألواناً نفسية تعطي صورة أبهى من الواقع المحسوس ، المصادر بقوة السلاح.
إن إسقاط الهموم الوطنية والإنسانية على تضاريس المكان يجعل منه مكاناً مميزاً قلماً تجد مثيلاً له ، وقد أبدع الروائي الفلسطيني في هذا المضمار جراء الغياب ألقسري عن المكان الذي حوله الفعل المتخيل إلى أيقونة – أو مكان للحجيج – عند مناضلي العالم وأحراره .
وهكذا ، اندفع الروائي الفلسطيني يستعير من جحيم الحرب ومآسيها ، دمار البيوت ، وقتل الأبرياء في معادلة تستهدف محاكمة صمت العالم عما أحدثته آلة الحرب الصهيونية من أعمال وحشية طالت المكان والزمان وأكدت أن رحلة الستون عاماً من عمر النكبة هي رحلة زور. وأن القتل وتغير معالم المكان لم يكن يوماً معقلاً للحقيقة مهما استبد الطغاة وما الحالات الذهنية التي تبلورت سوى استعارات متعددة الدلالات تتسم بالازدواجية والتناقض بين ما هو قائم – كائن – وما يجب أن يكون حتى تعاد الأمور إلى نصابها ويقف الحق على قدميه أمام الباطل المدعوم من قوى الاستعمار بكل أشكاله وأسمائه وتعددا ته .
وهكذا ، يقع المكان عند الروائي الفلسطيني ،تحت تأثير إشكالية القمع المستمر من قبل الاحتلال ، فيسعى جاهداً من أجل تحريره روائياً ، وهذا أقل القليل ، عند البعض ، فيما البعض الآخر آثر الانخراط في عملية التحرير ليس فقط بإلباس العمل الروائي أزهى الألوان ، بل بالفعل المقاوم ، فكان مصيره كغسان كنفاني الذي خلق أبطاله وحكم بالموت على من لا يستحق الحياة منهم ، كتب عنهم واستكتبهم ، فكانت شهادتهم أكثر إقناعاً من البقاء أحياء في بحثهم اللامجدي عن الخلاص الفردي .
وهكذا أيضاً ، يصبح المكان عند الروائي الفلسطيني مسيطر على مساحة الإبداع فيصير بطلاً رئيسياً يحرك السكان كيفما شاء ويحمل مصيرهم على كتفيه وفي عنقه ، ولكن هذا المكان سرعان ما تتغير ملامحه في حالة اشتباك مع الزمان الذي يعمل ضد مصالح الناس أحياناً ، فيتراجع وتظهر الشوارع والأسواق والمحلات بأصحابها ويحتدم الصراع الدامي بين من يحاول تغير ملامح المكان مستفيداً من الزمان بإقامة المستوطنات وبين السكان الأصليين الذين يسيطر عليهم الشعور ، إن ما يحدث من تغير إنما هو عمل طارئ ولا بد من مقاومته فتنتشر رائحة الموت بكل قسوة وتتداخل المصائر في لحظة واحدة مركبة ، غامضة ومتحركة كقوة الجديد في صراعه مع القديم .
وأجزم أننا ، نحن الفلسطينيين ، وخاصة في غزة ، لا نعرف تماماً المدن الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة ، ولم يتح لنا التعرف عليها معرفة كاملة مثل بعض السياح الذين يجوبوا فيها وقتما شاءوا ، لا بسبب عدم رغبة ، بل لعدم تمكننا من الوصول إليها جراء الحواجز وضخامة المعاناة وعدم السماح للذين تقل أعمارهم عن الخمسين عاماً من التجوال فيها.
على أن هناك العديد من الشبان ، كتب روايته الأولى بتلقائية حتى يستكشف ، بالقدر الذي يسمح له الواقع ، رؤية واضحة للأشياء والمواقف وحركتهما المستمرة ، وحاول بجدية متابعة كل ما أنتجه السابقون في هذا المجال ، ولكن ، للأسف ، استخلصوا حقيقة صادمة : في الوقت الذي يجب أن يكونوا عمقاً استراتيجياً وخطاً أحمر للسياسي في مسيرة المفاوضات ، بل وكابحاً عند بعض المحطات ، استسلموا لسطوته – أي السياسي – وتواطئوا عمداً أو انتهازاً لتبوء موقعاً لا يستحقونه بجدارة ، فهبط مؤشر أسهمهم إلى أدنى مستوياته ودفع بالتالي إلى عزوف الشبان عن مواصلة إبداعاتهم .
والأنكى من ذلك ، حتى هذه اللحظة ، لا يوجد مشروع روائي متكامل كل ما هنالك بعض الروايات المهمة ، التاركة للبصمة ، الحاضرة بقوة ، ولكنها ليس مشروعاً ، ذلك أن غياب المشروع الثقافي العام بدد الأمل في بلورة مشروع روائي إنساني في أبعاده ، وطني في مضمونة ، عند الكثير من الروائيين ، وأبقى الحصاد مجرد بعض الروايات المهمة ، ولكنها لا تكفي لتأمل العالم الروائي من داخله رغم جموحها .
الرواية الوحيدة التي ما زالت باقية ، رغم محاولات طمسها ، والتي ما زالت تغازل الحقيقة وتكشف الأوراق وتفضح المخبوء ، والتي تعد بجدارة المشروع الروائي الباقي والمستمر والتي تحمل كل مقومات البقاء ، هي تلك الرواية التي يكتبها الأطفال على الجدران يومياً ؛ فيها يتفاعل المكان والزمان ويتغير الأبطال على الدوام ...نعي شهيد جديد جراء اعتداء وحشي أو سقوط قذيفة مدفع على مدرسة أطفال أو صاروخ طائرة على تجمع سكاني مسالم . إنها حقاً رواية حفرت حضورها عبر تعاقب الأزمنة وجعلت الفلسطيني مسكوناً بتاريخ تضحياته ، أو تاريخ تضحياته يلاحقه على الدوام .
ربما لأن الذاكرة امتلأت بالدمار والعنف والانهيار والحروب التي لا تبقى ولا تذر ،وأسئلة لا تنقطع عن ماهية المجتمع الذي نريده وعن الثقافة الإنسانية والعالمية التي نطمح أن نكون عليها !
دون شك ، عند الروائي الفلسطيني ، كل الأزمنة لها حضورها القوى في المدن الفلسطينية رغم محاولات الإذابة التي لا تتوقف منذ الهم الأول ، أو المستوطنة الأولى ، أو الرصاصة الأولى ، أو أول موجة مهاجرين يهود من أوروبا إلى فلسطين .
بهذا المعنى يطل علينا عبد الله تايه من خلال روايته " قمر في بيت داراس " ومحمد أيوب في "الكوابيس تأتي في حزيران " وغريب عسقلاني في " جفاف الحلق " الرواية / السيرة الذاتية وحبيب هنا في "ما زال المسيح مصلوباً " الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية بالتعاون مع المنظمة العربية للثقافة والعلوم وغيرهم الكثير .. ولم يغب عن بال أي منهم معرفة الدلالة المعنوية والبناء التقني في بناء وتفكيك العوالم التي وصلوا إليها في أعمالهم ، آخذين بعين الاعتبار فضاء المكان الذي تعبر عنه الرواية :تدفق الحياة الإنسانية داخل العمل الروائي والتي تعني في محصلتها النهائية الزمن بصيرورته وهويته وخطابه الثقافي والحضاري والأيديولوجي حتى يتمكنوا من سبر غور العلاقات وتشابكها والمؤشرات التي تؤشر إليها داخل النص .
ومن البديهي ، والحال هذه ، أن يشكل الفضاء الروائي مجال التفاعل الأوسع بين البنية
الحركية للسرد وبين مستوياته التفاعلية ، وعناصر تكويناته بأبعادها المتعددة ، مع مراعاة أن مناكفة الجديد لابد منها عبر كل المراحل باعتبار الفن هو صراع مع القديم والسائد والمحرمات والمسكوت عنه في الحراك الاجتماعي القائم ولكن بأدوات جديدة .
وبعد إن أكثر ما أخشاه ،- بعد تحرير الوطن – أن يصبح الذين حرروه على هامش الحياة وأن يناط بالسماسرة وتجار الدم والبنايات الضخمة بوضع الدساتير التي تنظم الحياة الجديدة ! .... ربما أكون منحازاً لاحتضان الأزمنة الماضية ، وربما لأنني لمست ذلك ، على حجر المحك ، بعد اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية . فأبناء الشهداء والذين أمضوا أجمل سنوات العمر داخل أقبية السجون في غرف التعذيب عند المحتل الغاصب ، لم يكونوا سواسية عندما تم استيعابهم في الوظائف المختلفة ، فيما أصبح المشكوك في وطنيتيهم أصحاب القرار . وبذلك نكون قد فقدنا الدافع الذي كان يجعلنا نعض على الجراح بصمت ودون تأوه ، بل ويضاعف في بذل التضحيات والتصدي للمغتصبين .
هي كذلك ، ينتصر الوطن بينما أبناؤه المخلصين يوضعون خارجه لأن أحداً من أصحاب القرار لم يعد بحاجة إليهم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في