الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور الاستبداد من ثقافة الخوف إلى الخوف من الثقافة

احمد ثامر جهاد

2004 / 6 / 16
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


حينما وقع نظري على عنوان المحور النقدي لمهرجان المربد في دورته الأخيرة وقبله مهرجان الحبوبي الذي أقمناه في الناصرية ، فضلا عن محاور بضعة ندوات وأيام ثقافية وحلقات نقاش جرت في سائر المدن العراقية ، فكرت بالتماثلات والتقاربات التي أخذت توجه أنشطتنا الثقافية والفكرية حاليا ، مهيمنة على اتجاهات بحثها ومسار فعالياتها المختلفة . ومن دون الادعاء بتحديد نقيصة في هذا التوجه ، حاولت مع نفسي استخراج تفسير ما لهذا الإصرار فينا على قراءة ماضينا القريب بمختلف أشكال استبداده المقيت . فافترضت – ولنا العذر في ذلك - أن وقتا طويلا قد نستغرقه لتحقيق استيعاب كاف لمآسي حياتنا السابقة ، ومنها حياتنا الثقافية ، فيما تبدو أوضاعنا الراهنة متروكة لأهواء السياسة والاحتلال وقوى الاستبداد الجديد . قد نتفق جميعا على أن ثمة نقائص ومفارقات ومخاطر تحيط بنا . وثمة حاضر ملتبس تتنازعه مصالح ونوايا وقطاعات رأي وكتل تأثير ، يُعيد بعضها إنتاج الاستبداد في بنى عدة قادرة على أداء وظيفة البنى القديمة ، من دون أن تمتلك إحاطة واعية بدلالات التجربة العراقية على مختلف الصعد ، خاصة وإن معظمنا لم يتخط بعد صدمة الحرية ، إنْ في التفكير أو الممارسة .
وفي إطار التلويح بهذه الإشارة التي افترض كونها ملحوظة في صورة الحدث العراقي اليومي ، سأحاول طرح بضعة تصورات ، تمتلك أهميتها الراهنة :
لا شك إن قراءة ومن ثمَّ استيعاب مظاهر الاستبداد وفضح آلياته ومعارضة وسائله ، هي جزء لا يتجزأ من إرادة التخطيط لمستقبل الثقافة في أي مجتمع يتخطى محنته ، لينشأ ثقافة لها ملامحها المتحررة والمستقلة والفاعلة ضمن السعي المبذول لإرساء دعائم المجتمع المدني . كما إن إعادة كتابة تاريخ الثقافة - العراقية – تحديدا تعني في جانب من جوانبها تفعيل الإمكانات وتوسيع الحدود وتحديث الرؤى للوقوف على ما أنجز وما لم ينجز ، لتقرير حاجاتنا الراهنة بروح نقدية تؤسس - في الوقت نفسه – لوضع صيغ الانخراط في صراعات الحاضر وإشكالياته .
من هنا تحاول الورقة هذه أن تجعل الحاضر مركز اهتمامنا الأساس ، خاصة وهي تتوجه لتمكين وضوح الحاجة من التباس المفهوم . لذا سيكون من أولوياتها اختبار إمكانية خلق شراكة ما في الطموح السياسي والثقافي للنخب العراقية التي بات ملحوظا عمق الخلاف الذي يجمعها في ساحة انشغالاتها الحالية لاستعادة البلد ثانية من أيدي العابثين . وإذا ما حاولنا استشراف مستقبل الصراع الثقافي والأخلاقي الذي اخذ يهيمن على اهتمام النخب الاجتماعية والسياسية في الفترة الراهنة ، مع الاهتمام بصورة ( المحتل الغربي الذي هزم الدكتاتورية الوطنية ) ، سنجد إننا أمام تيارين رئيسين ، أحدهما ليبرالي – علماني والآخر أصولي محافظ . يتغذى صراع هذين التيارين من التعارضات القائمة بينهما في رسم كيان الدولة وحدودها واتجاه السياسة والمجتمع ووضع الأفراد والجماعات وحرياتهما المكفولة دستوريا . في حين لن يكون الغرب أو أمريكا مظلة حامية لهذا الصراع بقدر ما تعد برامجهما المعلنة والسرية ركنا أساسيا فاعلا في الصراع وموجها له .
قد يولد النزاع أحيانا من فرضية تفيد : أن كل محاولة تبذلها النخب السياسية الآن لشق الطريق وسط الصفوف هي فرصة لتحييد ( الآخر ) أيا كان ، والتعالي المؤقت على الصدام الكامن والمؤجل في منظومة المصالح والقيم ، وهي تركيز لا بد منه للمشكلات التي تسعى الجماعات المتصارعة إلى حلها توافقيا . وحيث لا تصلح التوافقية حلا ناجعا لمسائل خلافية أساسية يعيشها المجتمع العراقي ، إلا في حدود تقريب المفاهيم ، وتكييف الوقائع ، كيف سيكون حال الثقافة ومسئوليتها وهي بعيدة تماما عن المحاولات التي تجري في قاعات مغلقة لتقرير شكل الدولة والقانون وقضايا الحريات العامة والشخصية وحقوق المرأة ، ربما والحال هذه ، سيظل ( الإنسان آفاقي النظرة ، يرى الأمور من زاوية محددة ومحدودة ، أيا كانت سعة أفق هذه الزاوية وعمقها . فالآفاقية تولد الأنانية ، التي تولد بدورها الوهم الذي تنبثق منه المشكلات ) بتعبير المفكر ادغار موران . ويبدو إن الأهم في أفكار ( موران ) استنتاجه : أن السياسة تعالج اعقد المشاكل ، وهي التي تسودها اكثر الأفكار تبسيطا واقلها استنادا إلى أساس ، بل أقساها واشدها فتكا …
نعم ، قد يشترك الجميع في التنديد بالدكتاتورية ، وفي التصدي لمحاربتها ، لكن اغلبهم في المقابل ، يصم الآذان عن العار الذي يلاحقه جراء أفعاله وزيف ممارساته . لذلك فإن رفضا مناعيا كهذا يمهد الطريق لاسترداد الاستبداد الكريه بصور مغايرة ، تفارق الماضي ، وتصيب المجتمع بحمى الخوف من الثقافة ، الخوف من الحرية ، الخوف من الآخر .
عراقيا كان النظام السابق يستورد ببراعة المحترف شتى فنون الترهيب والفساد والموت ، من دون أن نقوى – نحن المثقفون - على فعل شئ يذكر ، واليوم تهرب إلينا صناديق الجهل والتخلف وفيروسات العنف والازدراء والتعصب وإلغاء الآخر من دون أن نتمكن من فضح مصادرها وهويات مورديها المحليين والأجانب . وقبل أن تتقصوا عن حقيقة ما يدور ، تذكروا أن المعطيات المبرهنة على مظاهر هذا الاستبداد اكثر من أن تحصى . استبداد متعدد الأطياف يفيد ظاهره بأن الخصم هو من يخالفك الرأي . وخمصك مخطئ وكاذب ومتآمر وجاحد على الدوام . ولا مجال لحسن النوايا ، أو اجتياز المحنة بالحوار . لا سيما وأننا من هذا المنظار : أمة تقف في مقدمة المستهدفين بغزو كاسح يهدد الثقافات الوطنية والقومية في أهم مقومات خصوصياتها وهويتها التاريخية ، مثلما يشير محمد عابد الجابري .
على هذا الأساس نتساءل : إن كانت هناك ثمة ثقافة عراقية ما زالت تراهن على الدخول إلى فضاء أيدلوجية المنافسة العنيفة أو المشروعة ، بدعمها آليات الرفض والإلهاء وتحويل النظر عن واقع المحنة الحقيقي . . واقع خراب القيم المجتمعية التي تحترم الإنسان وتقدر العصر .
إن استعادة سريعة لتاريخية صراع الأفكار في العالم ربما تحتم علينا اقتناص أية فسحة تحول سياسي ، لتعزيز ما يسمى بالأفكار العالمية التي توحد الجماعات مهما تباينت اختلافاتها . رغم ذلك وبسببه يحاول النخبوي أن يكون مستعدا لتحمل مأساته دائما ، بوصفه مثقف اليوتوبيات ، المثقف النبوي، حامي القيم والمفاهيم ، راهب عصر العولمة .. فقد أملت عليه قيم الحداثة وما بعدها أن يغدو شكاكا وممن لا يثقون بالعقل والحقيقة في نهاية الأمر ، وان يتذكر عبارة ( فولتير ) : " من انك لن تستقبل استقبالا حسنا إذا ما حاولت تنوير الناس ، فسوف تسحق .." وربما يسرك كمثقف أن تجد إن ( رولان بارت ) قد توافق نسبيا مع حس رجل التنوير الفرنسي الذي سبقه بمئات السنوات ، حينما ذهب إلى : " أن الأمر الوحيد الذي على المثقف أن يقوم به اليوم ، هو أن يتحمل هامشيته وعزلته .."
هكذا ، بين ثقافة الحوار وثقافة التطرف ثمة مسافة فاصلة تتسع اليوم تدريجيا، محطمة ما يمكن تسميته الأسس المدنية لكيان الدولة العراقية عبر عقود متراكمة من تاريخها الحديث . فلحظة تهشيم مؤسسات الدولة العراقية – عشية الحرب - بأيد وحشية من حديد تعيد إلى الأذهان مديات القسوة التي زرعتها ثقافة الخوف في نفوس الأفراد من أية مظاهر للدولة المهيبة . انه ذات الخوف من الثقافة المدنية ، من فكرة شعور الفرد بأنه باني مؤسساته وحاميها في آن .
ولكن أليس الأشد فتكا بالنسبة لمستقبل الحرية في العراق ، هو أن تكون لحظة الهدم هذه موسومة بالخلط العميق والمستمر بين كيانات الدولة ومراكز السلطة فيها . قد يقلل أحدهم من شأن هذا الأمر ويفسره بزمن حدوثه ذاك ، هول الحرب والفوضى التي لحقتها ، معتبرا إياه من قبيل ردود فعل الطبيعة السيكولوجية إزاء أساليب النظام القمعي الذي مارس اخصاء الفرد بالسلطة . لتصبح لحظة ما بعد الحرب مظهرا نفسيا دفاعيا عن الذات عبر تشريع اغتصاب الدولة . وعليه من حقنا أن نتساءل هنا : في وضع منفلت وشائك وغير مسبوق ، هل ثمة حاضنة ثقافية وقيمية يمكنها اليوم إعادة تأهيل تلك المجاميع البشرية في إطار دولة القانون والمواطنة والتمدن ؟
انه السؤال الذي يوحدنا الآن ، حينما يجعلنا نختط ، ما أمكننا ذلك ، سبيلا لحوار ديمقراطي يؤمن بإمكانية الوصول إلى ضفاف آمنة تتجاوز المطالبة بحرية الثقافة نحو امتلاك ثقافة الحرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -