الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السائق الغريب

محمود المصلح

2009 / 12 / 10
الادب والفن



لا أحد يتذكر من أين جاء ذات صيف قائض .. دار حول الحافلة المتوقفة منذ زمن ، تحسسها بيده ، وضع أذنه كأنه يستمع لدقات قلبها .. أو صوت ماء ، يتبعه ثلة من الرجال الغرباء ، رفع رأسه تلاقت عيونهم .. لمعت ..
هز كبيرهم رأسه بعلامات الإيجاب ..صعد إلى الحافلة بعد أن دفع بابا متهالك ..تبعه أحدهم ، ثم تبعه آخر ، الركاب نيام أو شبه نيام .. بعضهم استفاق ولا زالت به حالة وهن من بقايا النوم .. وغبش بالعين .. لم يعره أحد اهتماما .. راح يجوب الحافلة من الأمام إلى الخلف .. يقيس المقاعد .. يعدها ، يتفقد حالة السقف .. الممر ..لكنه لم يهتم لأمر الركاب ..لكنه أمر تابعه أن يعدهم عدا ..استفاق الركاب على صوت جلبة السائق وتابعه وصوت رجاله بالخارج .
وقف السائق أمام الركاب وراح يقول :
هذه الحافلة المتوقفة كم لبثت في وقوفها وكأنها معطلة ؟
ولما لم يتلقى الرد تابع ..هل من أحد يملك القدرة على قيادتها ؟ وقبل أن يتيح فرصة لأحد من الركاب أن يرد تابع هي بحاجة إلى صيانة ، لن تتحرك أو تتحركوا إلا بصيانتها ، وأني أتعهد بذلك .. رفع من نبرة صوته .. وأتخذ وضعية الخطيب وتابع : من أجل مصلحتكم عليكم التعاون بالجهد والمال ..ثم أمر مرافقه أن يأمر الركاب بالنزول من الحافلة ..فنزلوا وأخذ السائق ورفاقه يأمرون الركاب ويكلفونهم ببعض الأعمال .. كل حسب قدرته وهيئته الجسمية .
لاحظ الركاب بعد زمن أن السائق كان دائم النظر إلى البعيد ، يغمض عينيه .. يقرفص .. ويحدق بالأفق البعيد .. فعلوا مثلما يفعل .. كان هناك ثمة رجل أشقر بقبعة سوداء وعوينات شفافة ..كأن السائق يتلقى التعليمات منه ، أخذتهم رجفة وخوف .. وشعروا برهبة الموقف .. وظنوا بالسائق الظنون ..لكن السائق ما أن لاحظ عليهم التغير والإحباط حتى راح يخطب فيهم.. ويمنيهم الأماني العظام ...ويرسم لهم الأحلام ..بينما كان التابع ورجاله يفصلون مقعد السائق عن الركاب بجدار من الخشب المدعم بالحديد ، لكنهم حرصوا على أن يبقوا طاقة صغيرة في الجدار وضعوا عليها زجاجا شفافا ليسهل على السائق مراقبة الركاب جميعا . ثم شرع بتحضير مقعد السائق وكأنه العرش ،وزينه بطاقات من الأزهار ومجموعة من الصور زعم التابع أنها لعائلة السائق النبيلة .
ثم ترك لهم أن يتدبروا أمرهم في باقي المقاعد ، ولما أطمئن السائق إلى الركاب ، ترك الأمر لتابعه وراح يغيب في أوقات متفرقة ، ثم فجأة يعود ، ليجلس على المقعد في وسط الورود والصور.
وفي يوم لما عاد أمر تابعه أن يتجهز الجميع للانطلاق، قال ذلك على مسمع من الركاب، الذين أخذت عيونهم تلمع بسرور غامر ولعابهم يسيل... فها هي الحافلة ستتحرك أخيرا.
صعد السائق وتبعه رفاقه واتخذوا لهم مقاعد محددة ، وتركوا لباقي الركاب أن يتدبروا أمرهم فيما تبقى من المقاعد ، تململت الحافلة كثيرا قبل أن تتحرك ببطء شديد ، تعالت قعقعة عالية وصوت ضخم لحافلة صغيرة ، صوتها لا يتناسب وحجمها ، حاول السائق أن يحرك عصا مغير السرعة باتجاهات شتى لكن السرعة بقيت كما هي ، بينما كان التابع يعد طعاما للسائق في جناحهما الخاص ، عبقت رائحة الشواء ..تسربت إلى الركاب الذين ظنوا أنهم قد وصلوا غايتهم ..وأن الخير الموعود قد وصل بعد كل هذا الانتظار والجهد ..لكنهم سرعان ما عرفوا أن ما هذا إلا غداء السائق .
أدرك السائق أن الركاب لا يهمهم أمر الحافلة ، أخذ أقصى اليمين .. أوقف المحرك ..نزل التابع وتبعة رفاقه .. فلم يحرك الركاب ساكنا .. وبقي السائق في جناحه .. مرت سيارة مسرعة تبعتها أخرى وأخرى ... ثم توقفت سيارة سوداء اللون .. نزل منها الأشقر بقبعته السوداء ...أخذه التابع إلى جناح السائق باحترام ..وقف السائق بجلال أمام الأشقر وتبادلا حديثا قصيرا ..
أخذ التابع ورفاقه يفككون أجزاء الحافلة ..فكوا المقاعد بعد أن طلبوا من الركاب الوقوف ، أمرهم بالجلوس على الأرض ..حيث أن ذلك يتلاءم مع تقاليد الركاب الوطنية ..ثم فكوا النوافذ الزجاجية ... وبرر التابع ذلك للركاب أن الحرارة دائما مرتفعة ولا حاجة لحجب مزيد من الهواء عن الركاب ..ثم فكوا المحرك الثقيل فما حاجة الحافلة إذا كانت لا تتحرك إلى محرك ثقيل ، الأشقر ينظر صوب الغرب بلهفة وحرقة الانتظار بادية عليه .. فجأة وصلت شاحنة فارغة .. أخذ التابع ورفيقه بنقل الأجزاء إلى الشاحنة ..انطلقت الشاحنة وتبعها الأشقر بسيارته السوداء مسرعا صوب الغرب ..
وقف التابع ورفاقه أمام بوابة الحافلة المشرعة وهي تربض على الأرض .. بينما كان السائق على عرشه يعد أوراقه النقدية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07