الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبي العربدة الحمراء هيرمان نيتش

يوسف ليمود

2009 / 12 / 11
الادب والفن


من أعمق الأشياء رمزيةً في الجسد الدم. ليس فقط لأنه ماء الجسد الذي لو انخفض منسوبه يتداعى الجسد ويموت، بل أيضا لأنه الماء الذي تسبح فيه مراكب التاريخ وأساطيله الحربية ومؤامراته وخياناته وانقلاباته وجنونه وعبثه... الدم هو قابيل، الصليب، الأضحية، الرعب، العقاب؛ وفي لغة الأدب هو بحر وبحيرة ونهر وبِركة؛ وعند البدائي هو حياة وغريزة وخصوبة؛ وفي كتب الطب هو ملعب كرياتٍ بيضاء وحمراء. أما مفهوم الدم في الفن، يحيل، بشكل غير مباشر، على فكرة العنف بمعناها الشامل، إن لم يكن يحيل مباشرة على فكرة الصلب التي تصب بدورها في المعنى نفسه، العنف. الفنان النمساوي هيرمان نيتش المولود في فيينا 1938، وجد في الدم وسيطا فنيا يفضح به الدين والتاريخ والمجتمع الكابح المتواطئ؛ ويؤكد من خلاله على الغريزة ويحررها. الصليب، المذبح، الأضحية، الوحشية، الجنس بجناحية السادي والمازوخي، هي الموضوعات التي تشتغل عليها أعمال هذا الفنان وعروضه البيرفورمانس الطقوسية، التي يمكن، من دون مبالغة، أن نطلق عليها: مهرجانات الدم. فهي، وإنْ كانت تفاصيلها مرسومة بدقة ونظام، حيث لكل من المشاركين في الحدث، وهم الجمهور نفسه، دور محدد، سبق وتمرن ذوو الأدوار الرئيسية منهم على أدائه في بروفاتٍ قبل أسابيع من العرض، فإن الحدث يصبح أشبه بصلاة وثنية، أو وليمة بربرية لبشر ما قبل التاريخ، يشربون فيها الدم الحار المتفجر من لحم الضحية، فتتهيّج المكامن الخفية لغرائز غائرة وغامضة. فهاهي الحيوانات وطقوس الذبح والسلخ، وأجساد المشاركين العارية، ذكورا وإناثا، وهاهو اللحم، الحيواني والبشري، يتبعثر على الأرض وفوق الطاولات، وهاهو من يمثل دور المسيح يُحشر بين ضلوع الحيوان المشقوقة بطنه ويرفعان معا على الصليب، وهاهي النهود وأعضاء التناسل تُدعك بلحم الحيوان وأحشائه، ويمتزج الدم بالخمر باللبن، وتغيب الأدمغة في النشوة قبل أن تغيب في السكر والشراب، وتطير الصرخات، ويحل البرابرة، وتنفتح القماقم عن عفاريت الشبق السجينة منذ آلاف السنين، ويصّاعد البخور، وتقرع الأجراس، وتصخب الموسيقى الغجرية في مكبرات الصوت، وتدوي المفرقعات، وتصاب الأجساد بالصرع، وتتهتك الأرداف في رقص محموم فوق نثار اللحم وفتات الفاكهة المهروسة، وتموت في عمق اللحم كائنات وتولد أخرى، ويستحم العري المجذوب في شلال من الرعب الأحمر... ويتطهر!

ما يقارب مئة بيرفورمانس من ذلك الطراز الكهنوتي، أنجزها نيتش في قلعته برينزندورف "مسرح الألغاز والطقوس العربيدة"، التي اشتراها في النمسا، بدأها بعرض استمر أربعا وعشرين ساعة متواصلة، من الخامسة صباحا إلى التوقيت نفسه في صباح اليوم التالي، حيث تأمُّل الشمس وهي تشرق كان جزءا من هذه الصلاة الفنية! إلى أن وصل بعرضه رقم مئة سنة 1998، ستة أيام، وهو مسرحية مجونية رسم تفاصيلها نيتش، وكتب موسيقاها بنفسه (درس الموسيقى إلى جانب الأدب)، وهو العرض الذي يعتبره الفنان ذروة نشاطه الفني، والذي قدمه مرة أخرى 2004 في شكل مختصر إلى يومين فقط، وفيه استعار نيتش صورا من مآسي وآلام القرون الوسطى، واستعمل أدوات الكاهن والغائط ومفردات الطقوس الكنسية، الأمر الذي أثار عليه غضب الكاثوليك، كما أثار عليه السلطات من قبل ومنذ بدايات نشاطه في الستينات، حيث سجن أكثر من مرة ولوحق وامتُنع مرارا من تنظيم عروضه، إلى أن اضطر إلى مغادرة النمسا إلى ألمانيا. غير أنه بعد ما يقارب الأربعة عقود من سوء السمعة، حظي الفنان باعتراف دولي وترحيب من المؤسسات الرسمية بما فيها الكنيسة!

نيتش، كفنان، هو ابن التعبيرية الألمانية العتيدة، التي بدورها، وليدة الحرب العالمية الأولى، والتي تعمّقت جذورها وتعددت وسائطها بعد مأساة الحرب الثانية. كانت الخمسينات والستينات سنوات بحث عن هوية جديدة، سؤال التاريخ، أو بالأحرى اتهام التاريخ، رفض لكل قيم المجتمع التي نتجت عنها مآسي هبطت بالإنسان إلى مستوى الوحش، محاولات خلق قيم معاكسة، في ردود فعل متطرفة. وكان نيتش، مع مجموعة من أصدقائه الفنانين الذين عمل معهم وشكلوا جماعة فيينا لفن الأكشن والبرفورمانس، كجينتر بروس، أوتو موول، ورودولف شفارتسكوبف، أحد أكثر المظاهر الفنية تطرفا ومهاجَمةً لقيم الدين والأخلاق الموروثة والكبت الجنسي والعنف والاستغلال والاستعباد الخفي وقمع الغرائز... من خلال فن ديونيسيوسي غرائزي فاضح مستفز وحشي يعكس كل الصفات التي يهاجمونها في المجتمع. فن يحرر ويطهّر هذه الغرائز عبر طقوس تتصل بالدم الساخن، وبالحواس كلها. الدم، حسب اعتقادهم، خصوبة. بل أكثر من ذلك، كانوا ضد قيم الفن والجمال البورجوازي، والتي هي نتاج مجتمع مجرم متوحش.
غير أن عمل نيتش لم يقتصر على عروضه البيرفورمانس وصلواته العربيدة فقط، فهو في الأصل رسام مصور، وما كان لهذا الجانب ذي النتائج الفنية الملموسة والباقية، بعكس البيرفورمانس الذي يأخذ حيزه الزمني وينتهي إلا من ذاكرة من عاشوه أو عايشوه، ألا يتحقق. فها هو يستعمل القمصان وخشب الصليب والعناصر التي تلطخت بالدم وقت العرض ليخلق منها لوحات مسطحة، أو تجهيزات فراغية ثابتة في مكان. إنه يستعمل من الألوان ما تشابه في صراخها مع الدم، حتى لو كان لونا أزرق أو أصفر أو أخضر أو حتى أسود؛ إنه يلصق قميص الدم داخل إطار مقصوص على شكل صليب؛ إنه يتحرى في ذلك الصراخ اللوني كل ما يقود العين والذهن إلى فكرة المقدس: أيقونة، إشعاع، هالة، تأمل... وعنف، عنف، عنف. عنف جميل يبلغ أقصاه، ويدوخ أمامه رأس العالم!

يوسف ليمود
مجلة جسد
رابط مادة سابقة ذات صلة: http://www.doroob.com/?p=40673








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال