الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإفلاس الأيدلوجي والفكري لإسلاميي السودان

بابكر عباس الأمين

2009 / 12 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يعاني إسلاميو السودان "المُحافظون الجُدد" من إفلاس أيدلوجي وعجز فكري, لا يمكن تشخيصه إلا بشرخ وخطل نفسي. ومن أعراض هذا الإفلاس والعجز تناقض وإزدواجية في سياساتهم الداخلية والخارجية, بحيث وصل نظامهم إلي طريق مسدود. وأوضح من تتجلي فيه ظاهرة التناقض هو, بالطبع رأس حركتهم حسن الترابي, الذي يتمتع بقدرة مُدهشة علي إيجاد سند ديني للشيء ونقيضه في نفس الوقت. فعلي سبيل المثال, أفتي الترابي بأن الحملة الجهادية ضد الجنوب فرض عين علي المسلمين. وزعم أن الملائكة كانت تحارب في صف "المجاهدين" اّنذاك, وأن "الشهيد" يحظي بسبعين من الحور العين. وبعد توقيع إتفاقية السلام, التي نصَّت علي حق الجنوب في الإنفصال, قال إن إستقلال الجنوب حق ديني للجنوبيين!

تجدر الإشارة إلي أن إتفاقية السلام - الموقعة في كينيا عام 2005 - كانت نتيجة هزيمة عسكرية, بعد حملة جهادية إستمرت لأكثر من عقد من الزمان. أبسط اّثار لهذه الحملة هي موت مئات الاّلاف من الطرفين, وبذر البذور لتقسيم القطر, بجانب إثقال كاهل الإقتصاد السوداني بقروض – ما زال يعاني منها - بلغت مليارات الدولارات. والتناقض والتأرجح في الأقوال والأفعال سمة من سمات مُحافظي السودان الجُدد. ولنأخذ مثالاً اّخراً هو تلميذ الترابي النجيب, علي عثمان, نائب الرئيس. بعد أن وقَّعَ علي الإتفاقية, قال عند عودته إلي الخرطوم, مُبشِّراً بها: "جئتكم بحبل الله المتين وقاعدة البناء الوطني الشامل فيه العدل والمساواة." نفس الذين خلقوا مرجعية دينية لقتل أبناء الوطن الواحد باسم الجهاد, أضفوا قدسية علي الإتفاقية بوصفها "حبل الله المتين."

وبعد أن وصِفت الإتفاقية بحبل الله المتين, فإنّ قطبي المهدي, مُستشار الرئيس, قد نقض هذا القول بعد قوة أنكاثا قائلاً أنها تمت تحت ضغوط أمريكية: "إن الحكومة تعرف جيداً أن كثير مما اتفق عليه في نيفاشا, قد تم الإعداد له في مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن. وأن هناك أشخاص من هذا المركز تمّ تعيينهم من قِبل هذه الدوائر كخبراء في الإيقاد, قاموا بكل هذا العمل الذي تم. وأن الحكومة قبلت بذلك بناءً علي سياسة الأمر الواقع لأن هناك ضغوطاً لا قِبل لها بها, ولا قدرة لها علي مواجهة هذه القوة الدولية المتربصة بها." (الصحافة 26-2-2005).

وفي تناقض اّخر, يقول غازي صلاح الدين, مُستشار البشير, عن الغرب: "عندما إنفتحنا علي العالم, وضح لنا أننا أكفاء للقوي التي تهيمن علي العالم, وفي مقدورنا أن نتحداهم بأفكارنا, ويمكن أن نكون نداً قوياً لدول الإستكبار." (أخبار اليوم فبراير 1995). الذي يسمع هذا التصريح - دون أن يعلم النظام الذي يمثَّله المُصرِّح - يعتقد أنه يمثل نظام أعد الأساطيل الحربية, والترسانة النووية, ومنظومة فكرية تملك الحلول لكل مشاكل البشرية. بيد أن الذي يعلم المُصرِّح وتنظيمه, يدرك أن المُحافظين الجُدد يقولون ما لايفعلون ويفعلون ما لا يقولون, لأن نفس هذا المُصرِّح كرّر في زيارته إلي أمريكا, الشهر الماضي, بأن نظامه يتعاون معها إستخبارياً في مكافحة الإرهاب. والتعاون الإستخباراتي لا يمكن أن يكون تحدي فكري أو تعامل ند مع ند, أو دليل كفاءة, إنما دليل إنبطاح وعمالة. والحقيقة أن هذه عمالة لوجه الله, لأنها بدون مقابل وغير مدفوعة الأجر. وذلك لأنه بعد أن أدّي فروض الطاعة, مدَّدت الإدارة الأمريكية عليهم العقوبات, كما رفضت إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

والتعاون الإستخباراتي في مكافحة الإرهاب لا يعرف القيم والأخلاق والدين. وذلك لأنه يشمل التجسس علي المسلمين, وأخذهم بالشبهات, والوشاية بهم. وتم تجديد العقوبات رغم أن المُحافظين الجُدد ظلّوا يقدمون فروض الطاعة مُذ منتصف التسعينيات, عندما طردوا بن لادن من السودان, بعد أن إستثمر فيه. بالإضافة إلي تقديمهم معلومات, "للقوي التي أصبح في مقدورهم تحديها فكرياً", عن الجماعات الإسلامية التي هاجرت إلي مدينة الرسول الأفريقية, رغم منحها الجنسية السودانية بتعديل قانون الجنسية عام 1991, بحيث بات الشرط الوحيد لها قول "لا إله إلا الله."

وما كان إنقلابهم في حُزيران عام 1989, في الأساس لتأسيس (مشروع حضاري) أو (لتطبيق شرع الله), إنما هاتان عبارتان ظلّ المُحافظون الجُدد يمضغونهما كمضغ اللبان لدي شريحة إجتماعية معينة. بل كل مافي الأمر تأسيس سلطة بلا مجتمع, بقهر السودانيين وفعل كل شيء في سبيلها. بعبارة "كل شئ" نقصد البطش والتجويع وإهدار الكرامة الإنسانية لشعب السودان. وبتلك العبارة نقصد فعل أي شيء في سبيل الكراسي حتي لو تعارض مع الأعراف السودانية والدين والأخلاق. وكمثال علي ذلك, فإن نافع علي نافع, مدير جهاز الأمن, كان قد أشرف شخصياً, علي تعذيب دكتور فاروق محمد ابراهيم, الأستاذ الجامعي, ركلاً وتهديداً بالقتل في بيت الأشباح, رغم أن نافعا كان من طُلابه في جامعة الخرطوم.

ولم يقتصر التعذيب علي الفترة الدموية الأولي لحكمهم بل إستمر فيما بعد, وما زال. فمثلاً, تعرَّض الأمير نقد الله, القيادي في حزب الأمة, عام 1998 لتعذيب, كان من ضمنه منعه من إستبدال ملابسه لمدة 108 يوماً. كما عُذب علي محمود حسنين, القيادي الإتحادي, بأسلوب مُماثل رغم تقدمه في العمر, ورغم تعدد أمراضه. وبكتابة هذه السطور فإن ياسر عرمان, عن الحركة الشعبية, قد تعرَّض للضرب في السجن لمجرد تنظيم مسيرة سلمية.

وتُختصر كل سياسات المُحافظين الجُدد في إبطال الحق وإحقاق الباطل. وهم لا يتناهون عن مُنكر فعلوه, بل إنهم يضفون مسحة دينية علي المُنكر. فحسب د.الطيب زين العابدين, وهو مُفكر إسلامي مُستقل, فهم يدّعون أنهم يعبدون الله بالتجسس, والإعتقال والتعذيب ونهب المال العام, وبتزوير الإنتخابات, وفصل الناس من عملهم وقتلهم. (الصحافة 27-3-2005). وما فتئ نافع علي نافع شخصياً - هذه الأيام - يعبئ سيارته بالمليارات من النقد, كأنها نصيبه من ميراث, مُتفقداً الرعية طائفاً عليها, يوزع منه للعارضين ذممهم في سوق الإنتخابات.

وقد فعل هذا النظام بالسودانيين مالم يفعله اليهود بفلسطينيي 1948. وذلك لأن هؤلاء الفلسطينيين لهم أحزاب وصُحف ومنظمات مجتمع مدني, ونواب في الكنيست. ولأنهم يعلمون أنهم منبوذين لأن الشعب السوداني يشمئز من الطُغاة, فقد إنتهجوا سياسة تجويعه ليجروا إليهم الذين العناصر الرخوة, عملاً بمبدأ "جوِّع كلبك يتبعك." وأدي إحتكارهم التام للثروة, ضمن ما أدي, إلي الفقر المُدقِع, بحيث أصبح الكثير من طالبات الجامعات يبعِنّ الشاي في الأرصفة, ويعملنّ خادمات في البيوت لدفع الرسُوم الدراسية الباهِظة. رغم أنهم وشيخهم قد تلقوا تعليماً جامعياً رفيعاً أفضل من الغرب, لأن التعليم الجامعي ليس مجاناً في الغرب. وكان نظام تعليمياً راسِخاً, دعمه دافعو الضرائب, الذين ردّوا إليهم العِرفان تشفّياً وإساءات وحقداً. كمثال علي إساءة شعبنا, فإن الغطريس, مصطفي إسماعيل, مستشار الرئيس, وصف السودانيين بأنهم كانوا شحاتين قبل نظامهم.

قام المُحافظون الجُدد أيضاً بإستيراد السلاح من جنوب أفريقيا قبل تفكيك نظام الابارتهايد, رغم قرار منظمة الوحدة الأفريقية بمقاطعته. وبعد تفكيك نظام الفصل العنصري, قال مانديلا: "ما كنت لأصاب بالإحباط والغضب لو لا أن هناك أنظمة سودانية قبلهم قدمت لنا دعماً سخيا." وعندما حدثت فضيحة هجوم حركة العدل والمساواة علي أم درمان, أمرت قيادتهم بإخلاء كل وحدات الجيش من العاصمة القومية, لتواجهها قوات الأمن ومليشياتهم. وكان السبب كان عدم ثقتهم في ولاء الجيش, وإحتمال إنقسامه بحيث يؤدي إلي نهاية مملكتهم. وقد أصبح الحفاظ علي السلطة, لديهم أهم من حماية أرواح وممتلكات المواطنين في قلب العاصمة, وأهم من هيبة الدولة.

ورغم ثبوت فشلهم وعجزهم أخلاقياً وسياسياً في إدارة البلاد, إلا أنهم ما يزالوا يكابرون ويصرون علي إشباع شهوة السُلطة وما يتبعها من نهب لموارد الأمة. بعد توقيع إتفاقية حبل الله المتين مباشرة, خطّط المُحافظون الجُدد للإستمرار في الحكم عن طريق الإنتخابات, ليشبعوننا ثرثرة وهرهرة بعدها عن شرعيتهم. أول ما قاموا به - لضمان فوزهم - هو منح الأموال وحق الإستيطان والجنسية, بطرق غير قانونية, للقبائل المشتركة في كل حدود السودان, بما فيها الشمالية. ولهذه الغاية صرفوا من موارد الدولة لتغيير التركيبة السكانية في العديد من أقاليم القطر, كإعادة توطين قبائل المسيرية في جبال النوبة.

وتتلخص سياسة النظام السوداني - حسب فلسفة شيخه - في إستعداء السوداني وإسترضاء الأجنبي بالبحث عن شرعية في الخارج بدلاً عن الداخل. يتضح ذلك بأن شيخهم بينما كان يدعو لجبهة أهل الكتاب, كان في نفس الوقت يبطش بقادة كيانات إسلامية سودانية, بإيداعها السجن, ومصادرة ممتلكاتها, والإساءة إليها بألفاظ مقذعة. وتماماً كشيخهم, فهم ينكلون بالسودانيين, في الوقت الذي يسترضون أمريكا في مجال الإستخبارات. إضافة إلي إسترضاء النظام المصري, بالتنازل عن سيادة حلايب, كأنها من ممتلكاتهم, وتسليم مصر إسلاميين مطلوبين من قِبلها.

يستغرب المرء في الرضوخ لنظام مبارك رغم أن علي عثمان, نائب البشير, كان قد أشرف علي تخطيط وتنفيذ محاولة إغتيال حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995. وتلك حادثة تكشف روح الدموية والمغامرة لدي المُحافظون الجُدد. بعد أن تسرب العملاء الذين كُلفوا بمهة الإغتيال, تم تهريبهم خارج البلاد, بدلاً عن إقتراح بتصفيتهم. ومحاولة الإغتيال وإقتراح التصفية شيء لم يعرفه تأريخ السودان السياسي ناهيك عن الدين. وحتي لو كان لديهم مرجعية دينية مُستمدة من فِقه الإسلامبولي في الإغتيال, فإن تصفية العملاء لن يجدوا لها تبرير أخلاقي إلا في "فقه" المافيا وعصابة اّل كابون في شيكاغو. وهذا, في الحقيقة, تصرف مغامرين ومراهقين سياسياً, لأن إغتيال أنور السادات لم يؤدِ إلي إنشاء دولة إسلامية في الفسطاط, أو إلغاء إتفاقية كامب ديفيد.

وأخيراً, نختم بهذه الأبيات:

هل طَرقتُم بابنا إذناً كما أوصي الرسول؟
هل أذنّاكم وفي الإذن الـدخـول؟
أم قفزتُم بالنوافذ مِثلما أفتي الترابي؟











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البيت الأبيض: واشنطن لم تتسلم خطة إسرائيلية شاملة تتعلق بعمل


.. اتفاق الرياض وواشنطن يواجه تعنتا إسرائيليا




.. إسرائيل وحماس تتبادلان الاتهامات بشأن تعطيل التوصل إلى اتفاق


.. خطة نتياهو لتحالف عربي يدير القطاع




.. عناصر من القسام يخوضون اشتباكات في منزل محاصر بدير الغصون في