الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فراش حب : (غدي)

لمى محمد
كاتبة، طبيبة نفسية أخصائية طب نفسي جسدي-طب نفسي تجميلي، ناشطة حقوق إنسان

(Lama Muhammad)

2009 / 12 / 14
الادب والفن


لطالما تخيلت أنني فراشة ..لكن الفراشات عمرها قصير ، لم يمد الله في عمري إذا !! ..أتعبتني الحياة .
بعيني طفلة الخامسة رأيتهم و هم ينفصلون ..
قال لها : يلعن الدين الذي جمعني بك .
وأجابت : يلعن الحب...
رحلت ...لم أعد أذكر منها سوى شعرها البني الطويل ، و يوم رحلت بكيت و بكيت و ركضت خلفها ،فتعثرت على درجات المنزل السبع و أدميت ركبتيّ و جرحت يديّ الصغيرتين ،لكنها لم ترجع ، و لا هي التفتت لترى ثيابي الورديّة كيف استحالت .
لم أرها منذ ذلك اليوم ، منذ أكثر من عشرين عاما لم أرها ، قالوا إنها تزوجت و رزقت بأربع بنات ، و أنها ما زالت جميلة كالسابق ، لكنني لست في شوق إلى رؤيتها ، لا يربطني بها حاليا سوى تلك الدرجات السبع لمنزل طفولتي المسروقة ، و عبارات ساحرة ذلك المنزل أو ربته الحالية :
-(لمين بدك تطلعي ) ، نسخة عن أمك بالشكل و المضمون .
-احترمي نفسك يا (مدام) ، أين هو من يلقب أبي ؟
-تتطاولين على أبيك ، لو أن أخوتك هنا( لربوك) ...
-لا أخوة لدي...
********************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، لكن الفراشات عمرها قصير ، لم يمد الله في عمري إذا !! .. ربما لأتذكر .
بعيني طفلة الخامسة رأيت عمي يوضب أغراضي و ألعابي ..
قال له : (حرام عليك) ، ترمي ابنتك و تتزوج بنت الكلب تلك ...
و أجابه : لست أرميها لشخص غريب ، أنت عمها و مثل أبيها .
رحلت أنا و عمي عن منزل الدرجات السبع ، و عنه ، لا أريد أن أذكره ...
قابلته بعدها لكنني لم أره ، لا يربطني به حاليا سوى ورقة رفع الوصاية في المحكمة ..قلت لهم :
-ارفعوا وصايته عني ..لا أب لي.
***********************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، لكن الفراشات عمرها قصير ، لم يمد الله في عمري إذا !! .. لأتذكر...
بعيني طفلة الخامسة رأيت زوجة عمي ترفع يديها في وجهه ، و تصرخ :
-الخبز لا يكفي عيالك حتى تشاركهم هذه طعامهم .
-"هذه" هي ابنة أخي ، ليس ذنبها أن أمها تركتها ..لم يسألها أبوها قبل أن يتزوج.
-لتأخذها ابنة الكلب تلك إذا ...لماذا يحدث ما تريده هي و أنا أجن .
-يكتب الله لنا بها ثوابا.
-(بالناقص) ثواب ، أريد أن يحيا أولادي جيدا ، هذا هو ثوابي.
-كلمة لن تعاد ، هذه الطفلة أمانة في رقبتي ، و الذي لا يعجبه كونها كذلك (ينقلع)..الباب (بيفوت)جمل.
بثيابي المتسخة كنت أجلس في الزاوية ..أسمع و أبكي .لم أكن لأعي ما يحصل تماما ، لكنني كنت أدرك جيدا أنني منبوذة و أنهم لا يريدونني في هذا البيت ، و أن منزل طفولتي قد نهب أيضا من قبل الساحرة التي يعمل أبيها (كلبا)، و أصبحت أخشى الاقتراب منه حتى عندما العب في الشارع ..الشارع الذي لا أذكر منه سوى عبارات أهله: "هي بنت المطلقة .." و لا أريد أن أذكر أكثر.
**********************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، لكن الفراشات عمرها قصير ، لم يمد الله في عمري إذا !! .. بالتأكيد لأتذكر.
بعيني طفلة الخامسة رأيتهم و هم يضربونها ، أدميت ابنة عمي من الضرب ، ضربها عمي ،ثم أخوها ، ثم أمها ..أمها ضربتها وهي تولول:
-(فلتانة) ..قمنا بتربيتك و تعبنا عليك حتى( تدوسي) على الدين .
لكن "سها" لم تجب ، و في الصباح التالي استيقظت و لم أجدها .
قالوا إنها رحلت ..هربت مع " مجد " الذي لم أكن أعلم عنه سوى أنه يعيش قرب البحر ..البحر الذي لا نراه من جبل العرب ،بل نتخيله دوما .
رحلت "سها " و لم أرها منذ ذلك اليوم ، لكنني مازلت أذكرها بلون بشرتها الأبيض ،و الشعر الأسود الطويل ، و العينين السوداوين اللطيفتين ، أذكر الشامة على جبينها ، و الندبة القديمة لجرح فوق حاجبها الأيمن .
أذكر كل ملابسها و أحذيتها و حليّها التي كانت تسمح لي بتجربتها ..أذكرها تقرأ لي القصص ، تأخذني في نزهاتها ...
أذكر كل تلك الثقة التي كانت تتحدث بها ، و الأهم من هذا كله.. أذكر أنني عندما مرضت يوما ناديتها "ماما" .
*************************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، لكن الفراشات عمرها قصير ، لم يمد الله في عمري إذا !! .. تعلمت...
بعيني طفلة الخامسة رأيت زوجة عمي تبكي بعد رحيل "سها" :
-هربت مع رجل من غير بلد ..وضعت رأسنا في الوحل ، (ما حاجتنا أمك )..
-خالتي "سماح" هل هربت أمي أيضا مع "مجد "؟!
-اخرجي و العبي في الشارع .
خرجت و أنا أفكر "مجد " يعرف أين أمي ، ليتني سألته ، ياريت قلت له أن يعيدها لي ..لكنه لطيف ، ولطالما اشترى لي الحلوى و غزل البنات.. فلم يسرق أمي !
سها كانت تحبه ، أجزم أنها هي التي ركضت و لحقت به .شاطرة يا "سها" ، أنا (بدل ما الحق أمي و روح معها ..وقعت ع الدرج .).
بينما أنا ساهمة أمام الباب ، كان أطفال الحارة يضربون "ولاء " :
-أختك (داست) ع الدين ..لا أحد يحكي معك .
-سها كبيرة ، أكيد لم تشاهده ، و هي (تدعس) عليه (روحوا اسألوها) .
لكنهم لم يسألوا أحدا و نبذونا أنا و "ولاء" ، و أظن أن أصدقاء "بنان " - أخو سها الأكبر- قد نبذوه أيضا .
سألت عمي :
-(شو)يعني (داست )الدين ؟
- ابنة عمك المغضوبة نسيت أن طائفتنا هي الأفضل ، و ديننا هو أفضل دين على الأرض .
وللحب الذي كنت أكنه للملاذ الذي احتواني عندما نبذني أهلي ..كبرت مع فكرة أنني أحمل الدين الأفضل .
أعلم الآن فقط أننا جميعا في الشرق نكبر مع فكرة مماثلة ..ترجح وثنا و تحاكي العقل في سردابه الكسول ، لكنها لا تقترب من حجة منطقية.
أدرك اليوم أيضا أن أمي لم ترحل مع رجل من مكان آخر ، و أنها لو فعلت ، لما كانت طفولتي قد سرقت.
***********************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، و ليس لكل الفراش عمر قصير.
بعيني طفلة الخامسة رأيته أول مرة ، بعينين بلون( الحبق ) تهتز رموشهما كنسائم صيفية باردة على وجه أسمر،وجه كسنابل القمح الناضجة ،تشبهه جميع الأساطير ، و لا يشبه أحدا.
بعيني طفلة الخامسة لا أزال أراه كأب ينهر ذكريات بشعة ,و أحزانا قديمة ..حلمي الذي يعدني بطفولة بديلة و أعده بحياة لعينيه ،طفلي الذي أبرّج له بالقمم ، أترقبه يدخل التاريخ ، و أعيش له .
"غدي" الذي أنار غدي بملايين الشموع ، و منح أيامي أسبابا للقدوم .
********************************************

لطالما تخيلت أنني فراشة ، لكن الله ما زال يمد في عمري لأرى الجانب الآخر من الحياة .
بعيني طفلتي التي هي في الخامسة ، بعيدة عن أرضها و عن أقربائها .
بعيني طفلتي التي إن أعدتها إلى جدها و أخوالها قتلوها و قتلوني معها .
بعينيها أرى الحياة وردية ، تتسخ ثيابها أحيانا لكننا نغسلها بدموع حزننا ، و فرحنا .
هنا في (قبرص ) و على هذه الأرض الغريبة التي هربت إليها لأتزوج شخصا حكم عليه القدر و التوريث ألا ينتمي إلى نفس طائفتي ..هنا أحسست لأول مرة في حياتي بالأمان .
لم تقتلني الغربة كما يقولون ، و لا هو قتل أخوتي أني وضعت رأسهم في الوحل كما يشاع .
************************************************

أمسيت بوجود "غدي " فراشة حب ملونة...



يتبع...



من مجموعتي القصصيّة (ما بقي من البحر...)صادرة عام 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لازلت فراشة يا سيدتي ...!؟
سرسبيندار السندي ( 2009 / 12 / 14 - 15:27 )
لازلت فراشة سيدتي طالما الحب من يغذيك ... وليس سموم الهوى والفحل والديك ... لما لا تتمنين بقاء الطفولة والهوى العذري من سيبقى يرويك ... إن في الطفولة وحدها ينبت الحب الحقيقي ... والعشق هو من يذكرك به ويسليك .....!؟


2 - تداعيات إنسان
الحكيم البابلي ( 2009 / 12 / 15 - 04:05 )
لمى .... فراشة الشرق
رأيتُ البَشرة البيضاء ، والشعر الأسود الطويل ، والعيون السود اللطيفة ، والشامة قرب الشفاه ، لكنني لم أستطع رؤية الندبة القديمة لجرح فوق الحاجب الأيمن !!! ، ربما لأنها إنتقلت الى الذاكرة !! وأعرف عن تجربة بأن بعض الجروح في الذاكرة تبقى دائماً طرية ولا تندمل
قلبي مع فتاة الخمس سنين كانت من تكون ، وعسى حروفي تُساعد في نثر بلسم الشفاء فوق بعض الجراح ، للأسف أن الأحزان لا تنتهي سيدتي ، وكل ما علينا أن نفعله هو أن نبتسم ونقلب الصفحة القديمة ، حاولي
تحياتي


3 - غدي
لؤي عجيب ( 2009 / 12 / 15 - 07:45 )
جميل جداً ...
سلامي لك


4 - أروقة الابداع
عبد الوهاب المطلبي ( 2009 / 12 / 15 - 11:33 )
ارق التحايا الى الدكنورة لمى الموقره
ابداع جديد يضاف الى اروقة ابداعك المستمر المميز


5 - داهمتني العبرات
م ع ( 2009 / 12 / 15 - 19:00 )
لم أقرا فصل من قصة!! ِبل شاهدت شريطا قصيرا يختزل معاناة طفلة بريئة كانت ضحية لنزوات ونزق وانانية من كان يفترض بهما ان يكونا العش الدافئ الذي يحضنها.. كم احزنني سقوط الفراشة وركبتاها الداميتان، وقوفها وهي تسمع دون ان تفهم حوار الطرشان بين والديها، وهي تستمع لزوجة عمها التي ضاق قلبها على تلك الفراشة، موقف عمها الذي لم يغادر الانسان قلبه، ابنة عمها التي جلدت وسحقت لأنها قررت ان تكون انسانة، وووووووو.
كادت تداهمني العبرات وتفيض عينايا بالدموع.. اسرعت لاحتضان طفلتي ذات الثلاث سنوات، اقبلها، اقبلها، اضمها الى صدري، وعيناي تبحث عن وحش اخشى ان يتسلل يوم ما الى قلبي، فانا اتربص به كل لحظة لأقتله.. انا جزع جزع يملأ الرعب قلبي على كل فراشات الارض وفراشتي التي بين يدي الآن، وانا اقبلها اتحسسها كالندى في يوم قائض.
تحية للكاتبة.


6 - اوراق مبعثرة وشظايا
reem ( 2009 / 12 / 16 - 11:28 )
السلام عليكم ورحمة الله تحياتي اليك ايتها الكاتبه


7 - وتستمر الحياة
امـــازيغ ( 2009 / 12 / 16 - 18:52 )
ميزة الألم الوحيدة هي انها تجعل الأنسان يدرك انه موجود و انه على قيد الحياة و حلاوة الحياة لا يمكن تذوقها و التمتع بها الا بعد تذوق مرارتها... وتستمر الحياة
شكـــرا.

اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف