الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يكون الجهل ايدولوجيا والتجهيل منهجا

حميد الهاشمي
مختص بعلم الاجتماع

(Hamied Hashimi)

2004 / 6 / 18
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


استذكارا للمرحلة البائدة التي مر بها العراق فترة حكم نظام صدام حسين، وفي خضم الخوض في حال الثقافة العراقية إبان تلك المرحلة، فإن من ابرز معالم تلك المرحلة الشاخصة هي سيادة ما يمكن ان نسميه ب"آيديولوجيا الجهل" والتي كانت هوية معظم رموز وقياديي السلطة البائدة. وفي ضوء ذلك كانت طريقة عملهم ومنهجيتهم بل دأبهم هو سياسة تجهيل المجتمع العراقي بمديات افقية وعمودية.
حيث ان راس السلطة وهو اكبر جهلة "القيادة" وليس في ذلك تجنيا عليه، حيث تكشف ذلك مبكرا للعراقيين البسطاء ونخبتهم المثقفة والمتعلمة على السواء. فهو الذي يحمل عقدة الشهادة حيث فشل في اكمال دراسته، وادعى لاحقا انه اكمل دراسة القانون في جامعة بغداد وقت كان يحتل منصب الشخص الثاني في الحكومة العراقية في مطلع السبعينات.
وقد كانت معالم ايديولوجيا الجهل تتمثل في اختصار صدام للقانون بعبارات فيما مضمونه: "ماهو القانون؟ انه نص نكتبه ونشطبه بإرادتنا" وغيرها من قراراته الخرقاء وتهوراته واستهانته بالعلوم والرتب والشهادات العسكرية، فمنح نفسه رتبة "مهيب ركن"، وقرارات التنصيب والعزل وإذلال القادة العسكريين الحقيقيين التي كان يمارسها شخصيا ضدهم.
والامر نفسه يقال عن تدخلاته فيما يتعلق بتسيير الاقتصاد العراقي الى الهاوية والافلاس دون تخطيط ودراية او الاخذ بأية استشارة للخبراء والعلماء العراقين. ومن أمثلة ذلك إغراق السوق العراقية بالعملة المصورة (استنساخ) والتي افقدت الدينار العراقي قيمته وزادت التضخم بشكل مذهل.
ومن ابرز اشكال ايديولوجية الجهل التي انتهجها صدام هي تسليم قيادة وزارات هامة الى اشخاص جهلة واشباه اميين وعلى الاقل في تلك التخصصات التي تعني بها تلك الوزارات، من قبيل تسليم وزارة الصناعة والتصنيع العسكري لصهره وابن عمه "حسين كامل" وهذا الاخير لم يكن حاصلا حتى على شهادة الابتدائية.
وقد حدثت الكثير من المفارقات مع حسين كامل وقت تعامله علماء العراق ومهندسيه حين زياراته الميدانية لاماكن العمل او في اجتماعاتهم نتيجة جهله بالامور العلمية والتخصصية البحتة وتدخلاته فيها. والامر نفسه يشاع عما حدث مع شخص سمير الشيخلي الوزير البعثي الذي يقال انه يحمل شهادة اولية في الاقتصاد نالها بعد ان تسلم حزبه الحكم في العراق، حيث عينه صدام بمناصب لايمت بعضها بأدنى صلة لتخصصه المزعوم، ومنها وزيرا للصحة !!؟ ووزيرا للتعليم العالي، وأمينا للعاصمة وغيرها.
وكذا الامر مع وزير الدفاع علي حسن مجيد (علي كيمياوي) الذي لايحمل شهادة الدراسة الابتدائية وقد كانت رتبته في الجيش العراقي قبل انقلاب حزب البعث عام 1968 (عريف)، ورئيس الوزراء محمد حمزة الزبيدي، ونائبا الرئيس طه ياسين رمضان (نائب ضابط اي رقيب) في الجيش، ونائب ماسمي بمجلس قيادة الثورة (عزت ابراهيم الدوري) حيث كان بائعا للثلج وكل من هؤلاء لم يحمل اية شهادة دراسية باستثناء الدراسة الابتدائية ربما للبعض.
وعلى المرء ان يتأمل في هكذا "عقول" تدير بلدا مثل العراق لمدة 35 عاما.

كيف يتسنى لمثل هذه النخبة الجاهلة ان تتعامل مع المثقفين مثلا ؟!
لاشك ان عقدة الشهادة والابداع هي ديدن هؤلاء وهم يتعاملون معهم. فقد سعوا الى إذلال المثقف والمتعلم بشكل مبرمج، حيث رقوا اشخاصا الى مناصب عليا بدون وجه حق. وقد اوجدوا استثناءات للبعثيين في القبول في الكثير من التخصصات المهمة كما منحوهم درجات اضافية في امتحانات البكالوريا، وهذا يعني استهتار بالمعايير والاعراف والقوانين العلمية والتربوية وتمهيد الطريق لهم لتسلم مناصب قيادية لاحقا.
ومارس عدي الابن الاكبر لصدام حسين تعسفا كبيرا بحق الثقافة والمثقفين العراقيين حينما نصب نفسه رقيبا وحاكما عليهم، حيث جمع كل التنظيمات المهنية والثقافية فيما سماه بالتجمع الثقافي، وهو الذي يجهل بالابداع الثقافي اطلاقا، عاقب وضرب واهان الكثير من كبار المبدعين العراقيين، واتباع سياسة "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، الامر الذي دفع بالكثير من المثقفين العراقيين الى الانزواء او الهجرة وتابع البعض منهم نشاطه "المساير" والحذر تجاه النظام منتظرين ساعة خلاصهم من سطوة هذا النظام.
واصدر عدة عدة لوائح او قوائم سوداء باسماء المثقفين المهاجرين العراقيين متهما اياهم بالخيانة ومطلقا عليهم في احيان كثيرة "الكلاب الضالة". ووصل الامر من السخرية بان اوعز الى تسميته ب"صحفي القرن العشرين" في العراق. فاي استهانة واهانة اكبر من هذه بعد بحق "صاحبة الجلالة" وبحق الصحفيين العراقيين.
وعمد النظام البائد الى عزل العراق والعراقيين من مدخلات الحضارة الجديدة على مدى العقدين الماضيين وبداية هذا العقد حيث حرم دخول التكنولوجيا الحديثة خاصة وسائل الاتصال ومصادر المعلومات منها المتمثلة بالهاتف النقال والانترنت بحجة الحصار الاقتصادي والستالايت وغيرها.
وحظر على العراقيين السفر الى الخارج فارضا عليهم قيودا شتى ليس اقلها دفع مبلغ كبير بالنسبة لمستوى الدخل خاصة للطبقة الوسطى والمتعلمة في المجتمع، الامر الذي زاد من عزلتهم وافقرهم في مجال الاطلاع على ما ينتجه الآخر وان يطلعوا الآخر على نتاجاتهم الابداعية. ومن جانب آخر كانت معظم الايفادات تقتصر على اشباه المثقفين والمطبلين للنظام ليكونوا ممثلين للثقافة العراقية في الخارج. وبالمقابل كانت الدعوات تنهال على امثالهم في الاوساط الثقافية العربية ليحضروا المناسبات التي تقام في العراق والتي تهدف الى عمل دعاية مضاعفة للنظام المتهالك وتلمع من صورته، الامر الذي شوه الثقافة العراقية وحط من قدرها.
وجريا على سياسية التجهيل التي انتهجها نظام صدام وفي اهم مرفق حيوي الا وهو التعليم، فقد تم تحريف مناهج التعليم وتوجيهها بما يخدم ايديولوجية النظام الشوفينية ويمجد راس النظام، ولم يكتف بهذا بل امتلأت معظم الكتب الدراسية في مقدماتها ومتونها وحواشيها بترهات صدام حسين المسماة "حكم واقوال القائد"، وزاد امعانا في ذلك بان اوعز الى الجهات المعنية بادخال تدريس "الروايات" التي يدعي صدام تأليفها في المدارس، واقام الدنيا ولم يقعدها في الاوساط الثقافية العراقية بتحليل ودراسة" روايات صدام " ومسرحتها وتلفزتها. وبالمقابل يتم تهميش النشاط الثقافي الجاد كما يتم تشجيع وتسويق النشاط المسرحي والفني التجاري والهابط وتسخر محطات التلفزيون والاذاعات لنفس الاغراض لمجرد الامعان في تجهيل وتلويث الذوق الفني والعام وتسفيه المثقف والمتلقي العراقي، وهو ما يدخل في عقدة شلة الجهلة الحاكمين في العراق.
ان التجهيل والتجويع لغرض اذعان المجتمع واذلاله والانتقاص من قدر المتعلمين والمثقفين بتسليط الجهلة عليهم والتحكم بهم، كانت ممنهجة ومنظمة في عهد صدام هدفت بالنتيجة الى اخضاع المجتمع باكمله لسلطة النظام البائد وتطويعه وسد عقدة النقص التي عاناها رموز ذلك النظام، وقد اعطت مع شديد الاسف ثمارها في مستوى اللامسؤولية وضعف الوطنية والفئوية عند قطاعات كبيرة من ابناء المجتمع، ان لم تكن العمل ضد مصالح البلد بشتى الاوجه في مرحلة مابعد سقوط النظام وهي بالمحصلة نتيجة هذا البناء الفاسد والتركة الثقيلة التي خلفها لنا.

أكاديمي عراقي مقيم في هولندا – هيأة تحرير مجلة علوم انسانية
www.uluminsania.net








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-