الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة القرنفل في خصلاتها و الكفين

حدجامي عادل

2009 / 12 / 16
سيرة ذاتية


إلى عبد الإله صحافي: حنينا لحناّء الأم.


أذكر أول ما أذكر من أمري و أنا بعد صبي ما ألفت محاجر عيني أشياء العالم عبق أمي و عطرها الطبيعي ينسل إلى خياشيمي و هي تشدني على حجرها بين يديها و الركبتين ؛ أذكر دفئا ما و أمانا ما، أذكر أغاني حزينة هادئة تعبر إلى مسامعي على إيقاع كفها يضرب جانبي و أنا على حمال ظهرها ،غارق في تلك التخوم اللذيذة بين اليقظة و النوم، أذكر نعلها و شقوقا في قدميها كانت تطلب مني أن أمسدهما لها في رفق قبل أن تنام، مواعدة إياي بكسرة حلوى ومربى تعطيني إياه حين تستيقظ كرشوة؛ أذكرها جالسة القرفصاء تخيط بعضا من ثيابي التي مزقت معاتبة إياي على إتعابها ،أو منكفئة تفلّي شعري لتتأكد أن أحدا من رفاقي لم ينقل إلي بعضا من قمله ؛ أذكرها تمشطه صباحا قبل خروجي للمدرسة، أو تشد سروالي بحزام ثوب صنعته بيديها حتى لا ينسل و يسقط عن جسمي النحيل؛ أذكرها تغلي بعض الخزامى في الماء لتقطر منها في أنفي حين يغلقها مخاط الزكام؛ تسخن يديها على بعض الجمر "تكمد" بهما صدري حين يشتد السعال ؛ أذكرها تشتري بعض البخور من عطار الحي و ترميه في مجمرتها قارئة داعية والديها و الأولياء ليحفظوا ابنها الصغير، اذكرها جالسة في بعض الليل تحاكيني عن ندبة في أنفها حين اسألها عن سرها، فتجيبني و تسترسل، عن يتمها و هي صغيرة، عن قسوة الإخوة الكبار و زوجة الأب، عن والدها يضربها بجدع شجرة الدار لبكائها عند فراق أمها التي أتت لزيارتها و هي بعد طفلة، فينكسر أنفها؛ أذكرها تحكي لنا قصصا كانت تفتنني و لم تعد كذلك اليوم ؛ أذكر كل ذاك و غيره مما لا يطاوعني ، و أحن، أحن إليها و إلى طفل كنته ،أحن و الحنين ملح المفارقات و جامعها، الحنين لذة الألم و الم اللذة، لوعة الفراق تلاقي نشوة اللقاء ،شقاء السعادة يساكن سعادة الشقاء .
لا سر في الإنسان أكبر من الأم، الأم بعض مني الذي أنا بعض منه، الأم من حملتني في مائها حتى ترسّمت وجها و شعرا و كفين، الأم سيدتي الأولى ، تماما كما كنت أنا، ابنها ، سيد حياتها الذي تأملت فيه عوضا عن قسوة الأب و فظاظة الزوج؛ الأم سري و سر كل الناس ،الأم سر الأنبياء، الأم "هاجر" إسماعيل الذبيح، و هي تجري بين الصفا و المروى عن ماء زمزم لترويه ،الأم "يوكابذ" موسى الكليم، وهي ترمي بكبدها في اليم أملا في يد فرعون تلتقطه و تعتقها؛ الأم "مريم" عيسى المسيح، تضعه في الغار وحيدة إلى الله و روحه القدس؛الأم "آمنة" محمد، و هي تفارقه طوعا لأم أخرى و ثدي أخرى، و هي تفارقه كرها وهو بعد صغير يرعى شياهه في طريقه إلى الله.
يقال أن ما يحضر الرجال، آخر ما يحضر الرجال لحظة الموت، هو صورة الأم،عاينت الأمر بنفسي في أحد الأقربين إلي لحظته الأخيرة، بعد أن أكل المرض رئتيه و قلبه، و هو ينطق :"أمي"، ظننت الأمر حينها صدفة ، إلى أن قرأت شيئا آخر عن "نيجينسكي"، فنان روسيا العظيم، الذي انقطع عن الكلام بعد أن أصابه الجنون سنوات طويلة، تلفّع فيها بالصمت و لم يتكلم إلى أن احتضر، حينها فقط نطق، نطق بآخر كلمة في هذا العالم:" أمي".
فيا سيدتي، يا بيضاء الجبين، يا نخوة الله تميد بالنخيل في كل أصيل، يا عرق جبريل و الملائكة يغسل عظامي في كل حين، يا فاكهة الغيب، يا فاطمة، علني يا سيدتي حين تحين ساعتي، حين أغيب في سكرة برزخي الأخير، علني حين أقف بين الوتدين، حين يساوم العدم الوجود في ابنك و ما رمت إليه أحشاؤك و يشتريني منه، علّ ابنك حينها، عل فلذة كبدك و ما صنعتِ، علّ صغيرك الذي ما كبر يوما، يكون جديرا حينها بمجده الأخير،تهجّي اسمك :"أمي ".










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ctمقتل فلسطينيين في قصف جوي إسرائيلي استهدف منزلا وسط رفح


.. المستشفى الميداني الإماراتي في رفح ينظم حملة جديدة للتبرع با




.. تصاعد وتيرة المواجهات بين إسرائيل وحزب الله وسلسلة غارات على


.. أكسيوس: الرئيس الأميركي يحمل -يحيى السنوار- مسؤولية فشل المف




.. الجزيرة ترصد وصول أول قافلة شاحنات إلى الرصيف البحري بشمال ق