الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صباحات مألوفة

فاتن الجابري

2009 / 12 / 17
الادب والفن


رن جرس الهاتف بعد منتصف الليل ، كان حمزة الدفان يغط في نوم عميق .... أستفاقت زوجته على زغاريد الرنين المتواصل ، مدت يدها اليه توقظه بعيون ملؤها النعاس وجفون ملتصقة ، تخشى هروب النوم عند فتحهما ، لم يستجب لتلك الحركة من يدها ، رفعت رأسها وهزته بعنف ، توقفت حشرجات شخيره العالية ، وتغير ت فجأة نغمات العزف السيمفوني الليلي الذي أعتادته الزوجة ، والتي غطت في نوم عميق ، حالما أمسك بسماعة الهاتف

ـ ألو من المتكلم ؟
ـ حضر لنا قبرا في مقبرة السادة نحن قادمون فجرا ،لاتنسى أن تحفره بجوار قبر السيد!

أعاد سماعة الهاتف لم يكن الحديث الذي سمعه من الطرف الثاني أطار النوم من عينيه حسب ، حيث أعتاد على تلك المكالمات الليلية فهو دفان عشائر عدة ، يعرف مقابرهم جيدا ويحفظ أسماء موتاهم وأماكن قبورهم حتى لو قبل خمسين سنة ، تلك مهنته منذ نعومة أظفاره ورثها عن أبيه وسيورثها لابنائه ، لكن الذي حيرهُ وتركهُ فريسة للقلق ، أنهم لم يذكروا له أسم السيد الذي سيحفر القبر الجديد بجوار قبره ، تقلب طويلا فوق فراشه ، لكن جسده المتعب جدا من عناء يوم شاق أمضاه في حفر القبور ، أستسلم للنوم مرة أخرى ، رغم رنين الهاتف المتكرر.

قبل أنبلاج الضوء أستيقظ ، توضأ وصلى صلاة الفجر مع أول خيط للشمس يتمايل في كبد السماء المكفهرة بعد أيام مغبرة أثر عاصفة ترابية قادمة من الصحراء حلت على المدينة أشعل سيجارته الاولى دخنها على ريقه , تلك عادته منذ سنين طوال مؤجلا أفطاره الى ساعة متأخرة من الصباح ، حمل فأسه ومسحاته متجها نحو ( وادي السلام ) لم يكن بيته بعيدا عن المقبرة يقبع في الازقة القديمة الضيقة المحيطة بمرقد الامام علي عليه السلام ، كان نشطا وحيويا رغم أعوامه التي تجاوزت الستين ، لكنه بدأ يشعر بثقل االذراع الخشبي للمسحاة التي يحملها ، فكر لو أنه أوقظ أبنه ليساعده في حمل تلك الادوات التي شعر بثقلها لاول مرة ، لكنه أثر أن يتركه نائما بعد يوم دراسي متعب .

مر بالشارع المؤدي الى مكاتب الاستعلامات التي تستقبل الجنائز ، كانت أغلبها مقفلة وأن بدت أبواب بعض منها مشرعة تشع من داخلها مصابيح خافتة ، أجتاز مكتبه الذي تعلوه يافطة عريضة السيد حمزة دفان السادة الجوابر ... سار بمحاذاة جدار المقبرة على الطريق الترابي مبتعدا عن الشارع الرئيسي المبلط بالاسفلت والمؤدي الى بوابات المقبرة لم تكن بوابات بل فتحات في الجدار الذي يحيط بالمقبرة ، دخل أول مدخل يفضي الى عمق المقبرة ، أنوار المصابيح الكهربائية في الشارع العام .. بدأت تنأى عن فضاء المقبرة رويدا رويدا لم يعد ضوءها البعيد كافيا للرؤيا بصورة واضحة في هذا الجو المكفهر ... حيث لم تتراجع العاصفة الترابية ولم تهدأ أوتنفرج كما خمن صباحا.

تترائ على أمتداد البصر سلاسل متلاحمة لقبور مكتظة متباينة في أرتفاعها وطرز عمرانها ، بطابقين ثلاثة أواكثر بأختلاف طرزها المعمارية وتنوع مواد بنائها من الطابوق العادي والاسمنت وأخرى كُسيت بالآجر والبلاط الموزائيكي الملون او المرمر الصقيل تارة أخرى قادهُ هذا التنوع الى ذلك التناقض الرهيب في الحياة ايضا ، وبخ نفسه ورجى الله ان يبقيه زاهدا في الدنيا وقصورها وهو الذي يقلب الموت بيديه في كل لحظة ، أستفاق من أفكاره خشية أن يضل طريقه في مجاهل المقبرة الشاسعة ويدخل في غياهبها ، بعد أن تغيرت جغرافيتها كثيرا ، شقت شوارع عديدة داخلها وسويت قبورمع الأرض وبُلطت بالأسفلت وأندرست معالمها مثلما شوهت المعالم الحياتية الاخرى وروح الانسان أيضا ، القبور لم تسلم هي الاخرى يوم كانت ملاذا للثوار الباحثين عن الحرية ، أوهاربين من بطش الاحياء وظلمهم ، لائذين بحرمة الموتى ، ولم يخطر لهم أن تسوى القبور فوقهم بالجرافات ويدفنوا وهم أحياء بلا شاهد على قبرهم الجماعي الكبير سوى كلمة (غوغاء ).

هؤلاءالفتية الشهداء يبتسمون ، صورهم فوق شواهد قبورهم العارية من الشبابيك الحديدية الملونة التي أستباحها السراق أيام القحط والجوع بعد حرب الثماني أعوام الدامية والحصاد البشري المجنون ، توقف بعد أن أحس بالتعب ، القى عدة الحفر على الأرض ، رفع يديه أمام عينيه كأنه يحاورهما ، جاهدا في أستنطاقهما لمعرفة عدد الشهداء الذين دفنهم ، ألقى يديه جانبا بيأس ، مندهشا من عشرات الشقوق على أديم راحتيه المتصلبتين تلاحقه أبتسامتهم ونظرات عيونهم الغارقة بدمع الأسئلة ، يقرأ أماكن أستشهادهم البستين قصر شيرين ، المحمرة ، عبادان ، ديزفول ، الكويت ووو ، لم يموتوا هناك ، حتما سؤال أكبر منه ومن رقدتهم .. أعتذر ، لأنه لايستطيع جوابا لعيونهم المتسائلة وأكتفى بقراءة الفاتحة على أرواحهم جميعا.

أسعدته بقايا الورود البلاستيكية الملقاة فوق قبور الشهداء ، أخذ الاقتراب من مقصده ، بدأت المسافة بين القبور تضيق تدريجيا ، كان يميل بجسده عند المرور بينها متحاشيا السقوط في القبور القديمة المفتوحة ، عند وصوله الى مقبرة السادة التي أمتلأت بالقبور إلا مساحة ضيقة تركت لقبر واحد ، شمر عن كمي دشداشته الرمادية وباشر بحفر حفرة بقياس مترين في متر واحد ، توغل بالحفر في الارض الرملية الرخوة مشرعا بحفر اللحد ، تناهى الى مسمعه نشيج أحداهن وصدى صوتها المتهدج بالشجن في حوار أحادي مع صورة شاب على شاهدة قبر وعندما أنفرط قلبها نشيجا ، تبعها صوت قارئ القبور في تلاوة سورة ياسين ثم سورة الفاتحة خاتما قراءته ببعض الادعية ، وحالما هم بالخروج من القبر سمع صوت أندلاق الماء على حجر القبر ، أدرك أنه صباح يوم جديد أخر من صباحته المألوفة ، أقعى على دكة أحد القبور مسندا ظهره الى الخلف منتظرا قدوم الجنازة التي حفر من أجلها القبر ، داعب أجفانه الوسن ، غط في أغفاءة قصيرة لدقائق ، ضج المكان بأصوات لنسوة باكيات ، كان يفتح عينيه بصعوبة تترأى أمامه أشباح بزي رجال يحملون نعشا خشبيا أخرجوا منه جثة أمرأة بعد أن أزاحوا عنها عباءتها التي لُفت بها وأ نزلوها بتؤدة داخل القبر الذي حفره منذ دقائق ، ثم أهالوا التراب على عجل نساءا ورجالا ورحلوا ، أراد أن يصيح ورائهم لكن صوته ظل مكتوما في فمه حاول أن ينهض ويقف على قدميه ، لكن الخدر قد تسرب الى كل جسده ، كابوس ثقيل جثم على صدره ، شل حركته ولسانه.

لحظات أقبل المشيعون يحملون نعشا موشحا بعباءة سوداء ، يحمل جسد أمرأة كان قبل ساعات ممتلئا حياة وحيوية ، كانت غارقة في نوبة ضحك وسط أبنائها عندما فاجئتها نوبة قلبية لم تمهلها الا للفظ كلمتين فقط ( أدفنوني جواره ... ) أخر أمنياتها أن تتمدد الى جواره وتذوب بدفأ جسده وتقبل بياض لحيته ، أختلطت صرخات منطلقة من أفواه شتى بكلمات مبعثرة هنا وهناك ، ثم ساد المكان صمت مطبق سوى تبادل نظرات مفزوعة غير مصدقة ، أقترب أحدهم من الدفان حمزة الذي أسند ظهره الى أحد القبور ، فاغرا فمه بعشرات الاسئلة ، مصوبا عينيه الجامدتين الى حفرة فارغة حفرها بيديه جوار قبر السيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا