الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موعد مع الموت

جمال بنورة

2009 / 12 / 18
الادب والفن


تجوب الفضاء منذ المساء.. حتى بعد أن توقف القصف حوالي منتصف الليل. ظل أزيزها يطن في الآذان مانعاً النوم عن العيون المؤرقة، والتي تترقب أن يتجدد القصف ثانية.
لا أحد يعرف شيئاً عن الخسائر، فلا أحد يجرؤ على الخروج من بيته. الظلام يخيم على البلدة بعد أن قُطع التيار الكهربائي، والسكون يعم منازلها.. والطائرة تحوم.. في حركة دائرية. تسمع أزيزها الرتيب في الجهات الأربع.. لا تراها. ولا يصدر عنها ضوء يدل على مكانها، وإنما تحسها تحوم فوق رأسك.. تراقب، وتستكشف، وتحدد الأهداف.
وسُمعت أبواق سيارات الإسعاف تخترق السكون، فتجفل الأفئدة، وهي تتجه إلى الحي الذي تعرض للقصف.
***
دخل حمزة البيت فوجد أمه صاحية.
تشعر كلما عاد ابنها بعد منتصف الليل كأنه يولد مرة ثانية. أو كأنما كُتبت له حياة جديدة.
لم يستطع الخوف أن يزايلها. ولا هي قادرة أن تهدئ مشاعرها. نظرت اليه طويلاً، غير مصدقة عينيها بعد كل القصف الذي سمعته الليلة. ولم تجد ما تقول غير : "الحمد لله على السلامة." وبعد أن استراح قليلاً:
-هل أعد لك عشاءً ؟
-بل فطوراً ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍
ثم دعاها اليه قائلاً:
-لا.. أنا أمزح.. لا رغبة لي في الأكل!
اعتادت ألاّ تسأله شيئاً، فهي تعرف أن لا فائدة من السؤال، ولكنها في هذه الليلة لم تستطع أن تبقى صامتة.. ولعلها أحست بما يشجعها على ذلك، خاصة بعد دعوته اليها للجلوس بجانبه.
-لماذا تأخرت حتى الآن؟ بالي مشغول عليك طول الوقت!
-لم أستطع العودة قبل أن يتوقف الضرب!
متضرعة:-إلى متى..؟؟
-لا أدري..! الله أعلم!
-ألا تهتم بنفسك قليلاً؟ أهملت شغلك..!
-هذا هو شغلي يمه.. عليك أن تفهمي ذلك!
-تأتي وتخرج في الظلام.. هذه ليست حياة. إخوتك ما عادوا يرونك!
-هل هم نائمون؟
-لم يناموا إلا بعد أن توقف الضرب. كانوا مُكوّمين حولي وفي حضني، وهم يتصايحون.. أنت أبوهم يا حمزة.. منذ استشهد أبوك، وأنت أبٌ ثانٍ لهم.. ليس لهم غيرك.. عليك أن ترعاهم بنفسك..
-حياتي فداهم يمه.. أنا كلي لهم..!
-سلامة عمرك يمه.. والله انت ما بتقصِّر.. ولكن ألا ترى أنك تعرض نفسك للخطر؟
-لا تخافي عليّ!
-يا ابني.. الله يرضى عليك.. ماذا أقول لك.. مش طالعة من قلبي أقولها..
-قولي ما تشائين.. لاتهتمي لشيء!
-إذا صار لك شيء –لا سمح الله ولا قدَّر- وين بدّي أروح أنا..؟ وإخوتك.. وين أروح فيهم؟
-شو بدّو يصير يعني؟ شو هالتفكير يمه؟ ليش إنت بتظلي خايفة؟
-ما أنا شايفة اللي بصير كل يوم.. وانت في وسط النار.. كيف بديش أخاف؟؟ طبعاً شو همّك انت؟ بتكون في الجنة واحنا في العذاب. (ثم أضافت) وإخوتك لمين تتركهم؟
-سلامتك انت يمه لهم..
-أنا مش مطولة على الدنيا.. بدّي اياك انت تعيش.. تعيش لإخوتك ولعروستك.
-إن شاء الله ما بصير إلا كل خير.. بس تظليش خايفة.. أنا أقوم بواجبي
***
نام حمزة مثل طفل. جلست أمه تنظر إليه كأنما تريد أن تشبع من رؤيته.. مرة ترفع اللحاف إلى كتفه، وأخرى تغطي رجليه من الأسفل. وثالثة تعدل وضع الوسادة تحت رأسه. وانتظمت أنفاسه، واستغرق في نوم عميق.
جلست إلى جانبه تحدّق اليه وتحلم بيوم زفافه من خطيبته نهلة، وتتذكر ما دار بينهما من حديث قبل أيام.
-احرص على نفسك يمه.. نحن نتهيأ لنفرح بك.
-كل شيء في أوانه
-وعروسك التي تنتظر؟
-ما بها؟
-لماذا تعذّبها؟
-أنا؟
-تعدها دائماً، وتؤجل!
-أمامنا حياة طويلة نعيشها معاً!
-البنت تنتظر الستر
-ماذا تعنين؟
-أهلها يشعرون أنك غير جاد.. ولكنهم لا يتكلمون!
-ماذا يمنعهم من الكلام؟
-انهم يسكتون على مضض!
-ما أدراك بكل هذا؟
-أنا أعرف!
-أنت لا تعرفين شيئاً يا أمي!
-أعلمني بما لا أعرفه!
-هذا شيء بيني وبينها.. نحن متفقان على كل شيء.. وأهلها لا يمانعون
-ماذا تقصد بكلامك؟
لم يشأ أن يسبب لأمه حزناً أكثر مما هي فيه.. قال بتصميم، وكأنما ليدخل الفرحة إلى قلبها:
-يمه.. نحن متفقان على الزواج.. وسيتم ذلك عن قريب بإذن الله.
وغمرت الفرحة قلبها.
عادت تؤكد عليه:-هذا وعد؟
-نعم
-لا تجعلني أنتظر طويلاً!
-إن شاء الله.
***
ارتسمت ابتسامة على شفتيه. كان يحلم باللقاء المتجدد مع خطيبته.. لم يعد يعرف الخوف منذ عرفها.. فكأنه يتباهى أمامها بعدم خوفه، وهو في أعماقه لا ينكر أنه يخاف. لا يستطيع إنسان يتعرض للموت كل يوم ألاّ يخاف. أو لعله تعوّد على الخوف.. حتى فقد الإحساس به.
كان يتوق للزواج من خطيبته نهلة في أسرع وقت، ولكن الظروف كانت تعاكسه.. فكلما حدد موعداً، يضطر لسبب ما لتأجيله.. حتى خشي أنها لم تعد تثق به.
قال لها في آخر لقاء:
-أنا آسف
وضعت إصبعها على فمه، وقالت:
-لا تبدأ
-سوف نضطر..
-أنا أفهم!
-لن يطول الأمر.. أعتقد..
-أنا هنا.. منتظرة..
-ألا يزعجك أنني..
-أنت تقوم بما يقتضيه الواجب.. لو كنت مكانك سأفعل نفس الشيء..!
-أنا أعلم أنك..
-أحبك..
-ما زال..
-المستقبل أمامنا..
-سوف نتزوّج..
-عندما تتهيأ الظروف المناسبة.
-أخشى أن يطول انتظارك
-لا يهم.. الحياة طويلة أمامنا..
-ألا تخافين؟
-علّمتني ألا أخاف!
-ولكن..
-لا حياة مع الخوف..
-وإذا (حدث)..؟
-لن يحدث.. ستعود لي دائماً.. تذكر أنني بانتظارك..!
-لعلّ القدر..
-قل قدرنا..
-أن نعيش..
-أو نموت..
***
وعاد يحلم مرة أخرى. قالت له ذات يوم:
-أتحبني أكثر أم هي؟
وأشارت نحو كتفه.
-طبعاً.. أنتِ..
-أثبت لي ذلك
-أنا أحملها لأجلك..
-قل.. لأجلنا..
كانت أسرتها تتحفظ من جلوسه مع خطيبته على انفراد. ولكن معشوقته الجديدة كما يسميها.. منذ تنكبها، أفسحت له الطريق للإختلاء بها متى شاء.. فقد أصبح شخصاً مميزاً في نظرهم.
شعر بالسعادة فهو يستطيع الآن أن يذهب إليها قبل، وبعد. يودعها.. ثم يعود اليها ليفاجئها بأنه ما زال حياً.. بل ليفاجئها بأن الموت لم يقو عليه.. وهو الذي يتربص به في كل خطواته.. ما أسعده وهو يناجيها حتى ساعات الفجر.. وأحياناً على وقع أصداء القصف.
***
قال صديق له محذراً:-انتبه لنفسك.. سوف تقتلك معشوقتك.
قال مازحاً:-لا يهم.. كم من عاشق، قتلته معشوقته.
***
أفاق على رنين الهاتف الخلوي. فتح الخط، وأخذ يستمع بانتباه.. ثم قال:-حالاً.. قادم..
هبت أمه واقفة.
-إلى أين؟
-الواجب يدعوني..
-من حكى معك؟
-صديق!
-ماذا يريد؟ ما الأمر؟
-لا شيء.. لا شيء..
أخذ يرتدي ملابسه على عجل.
-هل هناك ما يستدعي العجلة إلى هذه الدرجة؟
-نعم..
-أنا خايفة!
-لماذا؟
قلبي ناقزني من هذه المكالمة.. أعتقد أن الذي حكى معك لا يريد لك خيراً..
همّ بالخروج. لحقت به. أمسكت بذراعه.
-برضائي عليك.. لا تذهب الآن!
استدار اليها بشيء من العصبية
-لماذا تتكلمين.. وكأنني لن أعود؟
-أخشى أن يحدث لك مكروه!
-يا أمي.. إذا كان سيحصل لي شيء.. فلن يفيدني البقاء في البيت.. لأنه سيأتيني إلى هنا.. لا يستطيع الإنسان أن يهرب من قدره!
لم تعد تملك ما تفعله. شعرت أن ابنها يسير إلى قدره المحتوم.. واستنجدت بالله وملائكته أن يقفوا معه.
***
قاد سيارته، ومضى مسرعاً، في طريقه إلى خطيبته نهلة. لقد تعرض منـزلها للقصف، ويخشى أن يكون قد أصابها مكروه. كان يبدو لاهياً عما حوله.. كأنه لا يرى شيئاً أمامه، أو كأن غريزته هي التي تقوده إلى منـزل حبيبته، وقلبه يمتلئ خوفاً عليها. وأخذ يلوم نفسه على أنه لم يتزوجها حتّى الآن. وسمع أزيز الطائرة..
نظر إليها من نافذة السيارة.
إنها تحوم في السماء منذ مساء اليوم السابق. أزيز رتيب ما زال يطن في أذن السماء. والطائرة لا زالت معلّقة في الهواء، تسير الهويني، وتحوم.. وتحوم، ولا تتعب.. وأخذ يرقبها وهي تترقبه.
اقترب من منـزل خطيبته. توقف. نظر إلى آثار الدمار في البيوت المجاورة.
نهلة تقف خارج البيت، سليمة ومعافاة!!
رأت سيارة خطيبها.
مضت تركض إليه.
ابتعدت الطائرة إلى الأفق.
اقتربت نهلة من السيارة.
-حمزة..
-نهلة..
وقفت الطائرة عند الأفق.
امتدت يدها لتصافح خطيبها.
انطلق صاروخ محدد الهدف من الطائرة.
ثوان فقط بين ملامسة يدها ليده، وانفجار الصاروخ بالسيارة، وبهما.
والتصق لحمها بلحمه، بشظايا الصاروخ التي انتثرت في الأنحاء.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى