الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الثورة المغدورة - الفصل الثامن -السياسة الخارجية و الجيش
ليون تروتسكي
2004 / 6 / 19الارشيف الماركسي
من الثورة العالمية الى "الوضع الراهن
تعتبر السياسة الخارجية دائما و في كل مكان استمرارا للسياسة الداخلية لانها سياسة الطبقة الحاكمة نفسها و تتبع الهدف ذاته. لذا رافق انحطاط الفئة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي تعديل ملائم لاهداف و اساليب الديبلوماسية السوفياتية. و ظهرت "نظرية" الاشتراكية في بلد واحد للمرة الاولى في خريف 1924 و كانت تعني محاولة تخليص السياسة الخارجية السوفياتية من برنامج الثورة العالمية. لم تضع البيروقراطية نصب عينها مع ذلك قطع علاقتها مع الاممية الشيوعية خوفا من انقلاب هذه الاممية الى معارضة عالمية ضدها و ما يمكن ان يحدثه ذلك من خلل في توازنات القوى داخل الاتحاد السوفياتي نفسه. على العكس من ذلك فكلما قل استرشاد الكرملين بالروح الاممية القديمة كلما كان زعماء الكرملين يتمسكون بالاممية الثالثة بشدة اكبر. كان على الاممية الشيوعية ان تخدم اهدافا جديدة في الوقت الذي تحتفظ فيه بتسميتها ذاتها. من هنا كان عليها ان تاتي برجال جدد. و اعتبارا من عام 1923 يتلخص تاريخ الاممية الشيوعية في عمليات تجديد قيادتها الموسكوفية و قيادات الفروع القومية عن طريق ثورات القصر و عمليات التطهير على الطلب و عمليات الطرد...الخ. و لم تعد الاممية الشيوعية في الوقت الحاضر سوى اداة طيعة جاهزة لتقبل كل التعرجات في خدمة السياسة الخارجية السوفياتية1.
لقد قطعت البيروقراطية صلاتها مع الماضي. ليس هذا و حسب بل فقدت كذلك القدرة على فهم الدروس الاساسية و اهمها ان سلطة السوفياتات لم تكن لتصمد سنة واحدة لولا دعم البروليتاريا العالمية عامة و الاوروبية خاصة و لولا الحركة الثورية لشعوب المستعمرات. ان العسكرية الالمانية – النمساوية اذا كانت لم تستطع تعميق هجومها ضد روسيا السوفياتية الى اقصى مداه فلانها شعرت على عنقها باللهاث الحارق للثورة. فثورات المانيا و النمسا و المجر ادت في ظرف تسعة اشهر الى الغاء معاهدة بريست- ليتوفسك، و انتفاضات اسطول البحر الاسود في نيسان / ابريل 1919 اجبرت حكومة الجمهورية الثالثة2 على التخلي عن فكرة توسيع العمليات العدوانية في جنوب البلاد السوفياتية. وجلت الحكومة الانجليزية عن الشمال في ايلول / سبتمبر 1919 تحت ضغط العمال البريطانيين بالذات. كما ان موجة من الاحتجاجات الثورية منعت دول الوفاق بعد تراجع الجيوش الحمراء عن فرصوفيا في عام 1920 من مساعدة بولونيا لتوجيه ضربة حاسمة للسوفياتات. و في عام 1923 اطلق كورزون3 انذاره ضد موسكو و لكنه وجد يديه مقيدتين نتيجة مقاومة التنظيمات العمالية الانجليزية. و ليست هذه الحلقات منعزلة انها تحدد اولى مراحل حياة السوفياتات و اكثرها صعوبة. و مع ان الثورة لم تنتصر الا في روسيا فان الامال التي كانت معقودة على الثورات الاخرى لم تكن بدون جدوى. و لقد وقعت الحكومة السوفياتية نذ ذاك عدة معاهدات مع دول برجوازية: معاهدة بريست – ليتوفسك في اذار / مارس 1918 و معاهدة مع استونيا في شباط / فبراير 1920 و معاهدة راباللو مع المانيا في نيسان / ابريل 1922 و اتفاقات ديبلوماسية اخرى اقل اهمية. و لكن الحكومة السوفياتية لم تفكر لحظة بتقديم شركائها البرجوازيين "كاصدقاء للسلام" كما لم تفكر بدعوة الاحزاب الشيوعية في المانيا و استونيا و بولونيا الى دعم الحكومات البرجوازية التي وقعت هذه المعاهدات باصواتها الانتخابية. و هذا امر هام بالنسبة لتربية الجماهير ثوريا. و لم تكن السوفياتات قادرة على رفض السلم في بريست - ليتوفسك تماما كما لا يستطيع المضربون المنهكون رفض الشروط القاسية التي يمليها صاحب العمل. و لكن موافقة الاشتراكيين- الديمقراطيين الالمان على هذه المعاهدة بامتناعهم المنافق عن التصويت فضحها البلاشفة و كشفوا حقيقتها كدعم للقراصنة و عنفهم. و مع ان معاهدة راباللو قد عقدت بعد اربع سنوات على اسس الحقوق المتساوية للاطراف الموقعة عليها لم يفكر الحزب الشيوعي الالماني بتاييد ديبلوماسية بلاده و لو فعل هذا لطرد من الاممية فورا. لقد كانت فكرة السياسة الخارجية السوفياتية الاساسية ترتكز على اعتبار الاتفاقات التجارية و الديبلوماسية و العسكرية مع الاستعماريين وهي اتفاقات لا بد منها لا يجب ان توقف نضال البروليتاريا في البلاد الراسمالية صاحبة العلاقة او تضعفه لان انقاذ الدولة العمالية لا يتم الا بتطور الثورة العالمية. وعندما عرض تشيتشرين4 خلال التحضيرات لمؤتمر جينيف فكرة القيام بتعديلات "ديمقراطية" للدستور السوفياتي بغية ارضاء "الراي العام" الامريكي اصر لينين برسالة رسمية في 22 كانون الثاني / يناير 1922 على ارسال تشيتشرين بدون ابطاء الى مصحة للراحة. و لو سمح احدهم لنفسه انذاك بعرض شراء تاييد الاستعماريين بالانضمام مثلا الى معاهدة جوفاء كاذبة من مثل معاهدة كيللوغ او بالحد من نشاط الاممية الشيوعية لما تاخر لينين بارسال هذا المجدد الى مستشفى الامراض العقلية و لما عارضه في ذلك اي عضو من اعضاء المكتب السياسي. و
لم يكن مسؤولو تلك الايام يتسامحون اطلاقا تجاه الاوهام السلمية من مثل عصبة الامم و الامن الجماعي و التحكيم و نزع السلاح...الخ. لانهم كانوا يرون فيها وسيلة لتخدير و اضعاف يقظة الجماهير العمالية بغية مفاجاتها عندما تندلع نيران الحرب الجديدة. و يتضمن برنامج الحزب الذي وضعه لينين و تبناه مؤتمر 1919 مقطعا لا لبس فيه في هذا الصدد: "يؤدي ضغط البروليتاريا المتزايد و انتصاراتها على وجه الخصوص في بعض البلاد الى زيادة مقاومة الاستغلاليين و يدفعهم نحو اشكال جديدة من التجمعات الراسمالية العالمية (عصبة الامم ...الخ) التي تنظم على المستوى العالمي استغلال شعوب الكرة الارضية و تحاول بالتالي قبل كل شيء لجم الحركة العمالية الثورية العالمية. و يؤدي هذا بصورة حتمية الى حروب اهلية في العديد من البلدان ترافقها حروب ثورية في البلدان البروليتارية التي تدافع عن نفسها و عند الشعوب المسحوقة المنتفضة ضد القوى الامبريالية. في مثل هذه الظروف لا تصبح شعارات السلام مثل نزع السلاح العالمي في ظل النظام الراسمالي و محاكم التحكيم ...الخ طوباوية رجعية و حسب بل تخدع العمال لنزع سلاحهم و ابعادهم عن مهمتهم الرامية الى تجريد الاستغلاليين من السلاح". و تشكل هذه السطور الماخوذة من البرنامج البلشفي ادانة مسبقة قاسية للسياسة الخارجية السوفياتية الحالية و سياسة الاممية الشيوعية و سياسة كل "اصدقائها" دعاة السلام في كل اجزاء العالم..
لقد كان الضغط الاقتصادي العسكري من جانب العالم الراسمالي على الاتحاد السوفياتي بعد انتهاء فترة العدوان و الحصار اقل قوة حقا مما كنا نخشاه و عاشت اوروبا وسط ذكريات الحرب الماضية لا في جو الحرب المقبلة. ثم جاءت ازمة اقتصادية عالمية اذهلت الطبقات الحاكمة في العالم اجمع. و سمحت هذه الظروف للاتحاد السوفياتي بتجربة الخطة الخمسية الاولى في حين وقعت البلاد من جديد فريسة الحرب الاهلية و المجاعة و الاوبئة. و لقد حملت السنوات الاولى للخطة الخمسية الثانية تحسنا ملموسا للوضع الداخلي ترافق مع بداية خمود الازمة في البلدان الراسمالية و مع موجات الامل و المطامع و فقدان الصبر و اعادة التسلح. ان خطر عدوان مشترك على الاتحاد السوفياتي لا يشكل في نظرنا خطرا ملموسا الا لان البلاد السوفياتية ما زالت منعزلة و لان معظم "الجزء السادس من العالم" عبارة عن مملكة للهمجية البدائية و لان مردود العمل فيها ما يزال رغم التاميم اقل بكثير مما هو عليه في البلاد الراسمالية و اخيرا لان تجمعات البروليتاريا العالمية الرئيسية مهزومة تفتقد الى قيادة حقيقية و الى ثقة بالنفس. هكذا فان ثورة اوكتوبر التي كان زعماؤها يعتبرونها منطلقا للثورة العالمية لمنها اصبحت تحت ضغط الواقع عاملا لذاته تكشف في هذه الحقبة التاريخية الجديدة اعتمادها العميق على تطور الوضع العالمي. غدا بديهيا من جديد ان السؤال التاريخي "من سينتصر؟" لا يمكن الاجابة عليه ضمن الحدود القومية. كما ان النجاحات او الهزائم الداخلية تحفر الشروط الملائمة الى هذا الحد او ذاك لحسم المسالة عالميا.
لقد اكتسبت البيروقراطية السوفياتية خبرة واسعة في التعامل مع الجماهيرالبشرية سواء لتنويمها او تجزئتها او اضعافها او لخداعها بغية فرض سلطتها المطلقة عليها . الا انها لهذا السبب بالذات فقدت كل قدرة على تربيتها تربية ثورية. فبعد ان اخمدت عفوية اندفاع الجماهير الشعبية في بلادها اصبح من العسير عليها ان تثير في العالم الجراة الثورية و الفكر النقدي. وهي تفضل من حيث هي تشكيلة حاكمة متميزة صداقة و مساعدة البرجوازيين الراديكاليين او البرلمانيين الاصلاحيين او البيروقراطيين النقابيين الغربيين على صداقة و مساعدة العمال الذين تفصلها عنهم هوة عميقة. و لن نبحث هنا تاريخ انهيار الاممية الثالثة و انحطاطها فقد افرد لها كاتب هذه السطور عدة دراسات خاصة مترجمة الى كل لغات العالم المتقدم تقريبا. و لكننا سنذكر ان البيروقراطية السوفياتية بوصفها قائدة للاممية الشيوعية قد سببت بجهلها و عدم تحملها اعباء المسؤولية و ميولها المحافظة تشبعها بروح قومية قصيرة النظر كثيرا من الكوارث للحركة العمالية العالمية. و كما لو كان يدفع الاتحاد السوفياتي اليوم نوعا من الفدية التاريخية اذ يتاثر وضعه الحاضر بعزيمة البروليتاريا العالمية اكثر بكثير مما يتاثر بنجاحات الاشتراكية في بلد منعزل. و يكفي ان نتذكر ان هزيمة الثورة الصينية في اعوام 1925 –1927 التي اطلقت يدي العسكرية اليابانية في الشرق الاقصى و انهيار البروليتاريا الالمانية الذي قاد هتلر الى النصر و حمى التسلح في الرايخ الثالث هما من ثمار سياسة الاممية الشيوعية ايضا. ان البيروقراطية التريموديرية التي خانت الثورة العالمية في حين اعتبرت انها ضحية خيانة تلك الثورة تحدد لنفسها هدفا رئيسيا هو "تحييد" البرجوازية. هكذا تجد لزاما عليها ان ترتدي مظهرا معتدلا قوميا و كانها حارس حقيقي للنظام. لكن من اجل ان تتخذ هذا المظهر باستمرار لا بد ان يصبح جوهرها مع مرور الوقت و قد ساعدها في ذلك التطور العضوي للاوساط الحاكمة. ان البيروقراطية التي تراجعت خطوة اثر خطوة بنتيجة فداحة اخطائها اصبحت تتصور ان تامين سلامة الاتحاد السوفياتي كامن في ضم الاتحاد السوفياتي الى نظام "الوضع الراهن" في اوروبا الغربية. و هل هنالك افضل من معاهدة عدم اعتداء دائمة بين الراسمالية و الاشتراكية؟ ان الصيغة الحالية للسياسة الخارجية الرسمية التي تنشرها الديبلوماسية السوفياتية بشكل واسع و يسمح لها هكذا ان تتكلم اللغة المتعارف عليها في المهنة كما تنشرها كذلم الاممية الشيوعية فيتعين عليها التعبير عن نفسها بلغة الثورة هذه الصيغة تقول: " نحن لا نريد شبرا من الارض الاجنبية و لكننا لن نتخلى عن شبر واحد من ارضننا" و كان الامر صراع على الارض لا صراع عالمي لنظامين لا يمكن ان يلتقيا! عندما اعتقد الاتحاد السوفياتي ان من التعقل التخلي عن سكك حديد الصين الشرقية لصالح اليابان اظهرت الدعاية هذا العمل المستخذي الذي حضرت له هزيمة الثورة الصينية و كانه مظهر من مظاهر القوة و الحفاظ على السلام. علما بان اعطاء هذا الطريق الاستراتيجي بالغ الاهمية للعدو سهل مهمته و ساعده في معاركه و انتصاراته في شمال الصين و في اعتداءاته على منغوليا. و لم تؤد هذه التضحية الاجبارية الى تحييد الخطر و لكنها منحت الاتحاد السوفياتي في احسن الاحوال استراحة مؤقتة و اثارت في الوقت ذاته اطماع الطغمة العسكرية في طوكيو.
ان قضية منغوليا هي قضية المواقع الاستراتيجية اليابانية الامامية في وجه الاتحاد السوفياتي. لذا اعلنت الحكومة السوفياتية انها سترد على اجتياح منغوليا بالحرب و الحال ان الامر لا يتعلق هنا بالدفاع عن "ارضنا" فمنغوليا دولة مستقلة5.
كان الدفاع السلبي عن الحدود السوفياتية يبدو كافيا حين لم يكن هنالك من يهدد هذه الحدود جديا. و الدفاع الحقيقي هو اضعاف مواقع الامبريالية و تقوية مواقع البروليتاريا و الشعوب المستعمرة في العالم الاجمع. ان اضطراب ميزان القوى ضد مصلحتنا يمكن ان يؤدي الى تخلينا عن العديد من اشبار الارض كما حدث اثناء معاهدة بريست – ليتوفسك ثم اثناء توقيع معاهدة ريغا او عندما اضطررنا للتخلي عن سكك حديد الصين الشرقية. ان النضال من اجل ميزان القوى العالمية يفرض على الدولة العمالية ضرورة مساعدة الحركات التحررية في مختلف البلدان بشكل متواصل و هذه مهمة رئيسية تتناقض كليا مع سياسة "الوضع الراهن" المحافظة.
عصبة الامم و الاممية الشيوعية
ان التقارب مع فرنسا العائد الى انتصار النازية و الذي تحول فيما بعد الى اتفاق عسكري يؤمن لفرنسا حارسة "الوضع الراهن" الرئيسية مزايا و مكاسب اكبر بكثير مما يقدمه للاتحاد السوفياتي. اذ يقدم السوفيات المساعدة العسكرية لفرنسا عند الضرورة دون شروط وفقا لبنود المعاهدة بينما لا تقدم فرنسا اية مساعدة للاتحاد السوفياتي دون الموافقة المسبقة من جانب انجلترا و ايطاليا الامر الذي يفتح مجالا واسعا ﻠﻸلاعيب ضد الاتحاد السوفياتي. و لقد اثبتت احداث اجتياح القوات الهتلرية منطقة الراين انه كان بامكان موسكو لو هي تصرفت بحزم ان تحصل من فرنسا على ضمانات في عصر انعطافات مفاجئة و ازمات ديبلوماسية دائمة و عمليات تقارب و تباعد بين الدول. كما اثبتت الاحداث المتتالية ان الديبلوماسية السوفياتية تتصرف ضد عمال بلدها بشدة تفوق شدتها خلال المباحثات مع الديبلوماسيين البرجوازيين. اما الحجة القئلة بان مساعدة الاتحاد السوفياتي لفرنسا ستكون قليلة الفاعلية نظرا لعدم وجود حدود مشتركة بين الاتحاد السوفياتي و الرايخ فقول عديم الاهمية . فاذا اراد الالمان الاعتداء على الاتحاد السوفياتي وجدوا دون صعوبة الحدود اللازمة لذلك. اما اذا ما اعتدى الالمان على النمسا او تشيكوسلوفاكيا او فرنسا فان بولونيا لا تستطيع الالتزام بالحياد يوما واحدا: فاما ان تنفذ واجباتها نحو فرنسا فتفتح حدودها للجيش الاحمر فورا او تمزق المعاهدة فتصبح تابعة لالمانيا و يجد الاتحاد السوفياتي بذلك "حدودا مشتركة". و من المتوقع ان تلعب "الحدود" البحرية و الجوية في الحرب المقبلة دورا هاما لا يقل عن دور الحدود البرية. ان الدعاية السوفياتية الجديرة بغوبلز و التي تقدم عملية انضمام الاتحاد السوفياتي الى عصبة الامم كانها انتصار للاشتراكية و نتيجة "لضغوطات" البروليتاريا العالمية لم تصبح مقبولة لدى البرجوازية الا بعد ان ضعف الخطر الثوري بصورة قصوى و هذا الانضمام ليس انتصارا للاتحاد السوفياتي انه استسلام البيروقراطية التريميدورية امام مؤسسة جنيف التي يعتبر البرنامج البلشفي انها "تكرس جهودها الفورية لوقف اندفاعة الحركات الثورية". فما الذي تبدل جذريا منذ اصدار دستور البلشفية؟ هل تغيرت طبيعة عصبة الامم؟ ام وظيفة الدعوة الى السلام في العالم الراسمالي؟ ام تبدلت سياسة السوفياتات؟؟ ان طرح هذه الاسئلة يعني الاجابة عنها.
لقد اظهرت التجربة ان الاشتراك في عصبة الامم لا يضيف شيئا الى المنافع العملية التي كان يمكن تامينها عن طريق الاتفاقات المنفصلة مع الدول البرجوازية و لكنه يفرض على العكس قيودا وواجبات ينفذها الاتحاد السوفياتي بدقة ليحافظ على سمعته الجديدة كدولة محافظة. فلكي يستطيع الاتحاد السوفياتي ملائمة سياسته مع سياسة فرنسا و حلفائها اضطر الى اتخاذ موقف غامض خلال الصراع بين ايطاليا و الحبشة. ففي الوقت الذي عبر فيه ليتفينوف6 الذي لم يكن في جينيف غير ظل لافال7 عن عرفانه بجميل الديبلوماسيين الفرنسيين و الانجليز لجهودهم "من اجل السلام"، تلك الجهود التي تكللت باحتلال الحبشة تابع الاسطول الايطالي الحصول على تموينه من بترول القفقاس. و قد نفهم رغبة حكومة موسكو بالمحافظة على اتفاق تجاري ما و لكن النقابات السوفياتية لم تكن ملزمة اطلاقا بالاخذ بالاعتبار التزامات مفوضية التجارة الخارجية.
و لو اوقفت النقابات السوفياتية تصدير البترول السوفياتي الى ايطاليا بقرار منها لكان عملها نقطة انطلاق لحركة مقاطعة عالمية اكثر فعالية من "العقوبات" المنافقة المترددة المحسوبة مسبقا من قبل الديبلوماسيين و القانونيين المتفقين في الاصل مع موسوليني. ان النقابات التي جمعت في عام 1926 ملايين الروبلات لدعم اضراب عمال المناجم البريطانيين علنا لم تحرك هذه المرة ساكنا و هذا لان البيروقراطية حرمت عليها مثل هذه الاعمال مرضاة لفرنسا. الا انه لن يعوض اي تحالف عسكري يعقده الاتحاد السوفياتي في الحرب القادمة خسارته ثقة شعوب المستعمرات و الجماهير الكادحة اجمالا.
فهل يعقل ان يجهل الكرملين هذا؟ تقول الجريدة شبه الرسمية في موسكو: "ان الهدف الرئيسي للفاشية الالمانية كان عزل الاتحاد السوفياتي... و ما معنى هذا الكلام...؟ ان للاتحاد السوفياتي الان في العالم اجمع اصدقاء اكثر من اي وقت مضى" (ازفستيا 17-9-1935). ان البروليتاريا الايطالية مسحوقة تحت عقب الفاشية و الثورة الصينية المهزومة و البروليتاريا الالمانية مغلوبة على امرها الى حد انها لا تبدي اية مقاومة تجاه الاستفتاءات الهتلرية و البروليتاريا النمساوية مقيدة باقسى القيود و الاحزاب الثورية في البلقان مطاردة مضطهدة و يسير العمال في فرنسا واسبانيا وراء البرجوازية الراديكالية. و مع ذلك تدعي حكومة السوفيات ان لديها منذ انضمامها لعصبة الامم "اصدقاء اكثر من اي وقت مضى"! ان هذا التبجح الذي يبدو غريبا للوهلة الاولى لا يعود تبجحا اذا لم ننسبه الى الدولة العمالية بل الى قيادييها. لان هزائم البروليتاريا العالمية القاسية هي التي سمحت للبيروقراطية السوفياتية باغتصاب السلطة داخل بلادها و بكسب مودة "الراي العام" في البلدان الراسمالية. و كلما ضعفت امكانيات الاممية الشيوعية و قدرتها على تهديد راس المال كلما بدت حكومة الكرملين مقبولة في اعين البرجوازية الفرنسية و التشيكية و غيرهما. ان قوة البيروقراطية في الداخل و الخارج تتناسب عكسا مع قوة الاتحاد السوفياتي من حيث هو دولة اشتراكية و قاعدة الثورة البروليتارية العالمية. و لكن هذا وجه واحد للمسالة. و هنالك وجه اخر يستحق الدراسة.
في تشرين الثاني / نوفمبر 1934 وقف لويد جورج8 الذي لا تخلو تذبذباته و صراعاته المثيرة من ومضات فطنة فخطب في مجلس العموم محذرا و ناصحا بعدم ادانة المانيا الفاشية لانها ستكون اصلب حاجز يحمي اوروبا من الخطر الشيوعي. ثم قال " سوف نحييها في يوم من الايام كصديقة لنا". و لكلامه هذا معنى كبير! ان المديح نصف الابوي نصف الساخر الذي تكيله البرجوازية العالمية للكرملين لا يضمن السلام ابدا و لم يقلل خطر الحرب. ان تطور البيروقراطية السوفياتية يهم على وجه الخصوص البرجوازية العالمية من زاوية تعديل اشكال الملكية. لقد قطع نابليون الاول الخيوط التي تربطه مع تقاليد اليعاقبة و ليس التاج و اعاد الدين الكاثوليكي و لكنه بقي مع هذا هدفا لحقد الدول الاوروبية نصف الاقطاعية لانه استمر في الدفاع عن الملكية الجديدة الناجمة عن الثورة. و مادام احتكار الدولة للتجارة قائما و ما دام راس المال فاقدا لحقوقه فان الاتحاد السوفياتي سيبقى بنظر برجوازية العالم رغم كل ميزات زعمائه عدوا لدودا لا صلح معه بينما تبقى الاشتراكية الوطنية الالمانية صديقة اذا لم يكن اليوم فعلى الاقل غدا. و ابان المفاوضات التي قام بها بارتو و لافال مع موسكو رفضت البرجوازية الفرنسية الكبيرة رفضا قاطعا ان تلعب بالورقة السوفياتية رغم جسامة الخطر الهتلري و اهتداء الحزب الشيوعي الفرنسي الى النزعة الوطنية. و بعد توقيع المعاهدة الفرنسية – السوفياتية اتهم اليساريون لافال بانه فيما كان يلوح امام برلين بشبح موسكو سعى في الواقع للتقارب مع برلين و روما ضد موسكو. و هذا استباق للحوادث و لكنه استباق لا يتعارض مع ذلك مع مجراها العادي.
و مهما يكن راينا في محاسن و مساوئ المعاهدة الفرنسية – السوفياتية فليس لاي سياسي ثوري جدي ان ينكر على الدولة السوفياتية بحثها عن دعم اضافي في اتفاقات مؤقتة مع هذه الدولة الامبريالية او تلك. و لكن يجب مصارحة الجماهير بكل وضوح حول موقع المعاهدات التكتيكية الجزئية وسط مجموع القوى التاريخية. كما انه ليس من الضروري ان تدفعنا الرغبة في استغلال الصراع بين فرنسا و المانيا الى جعل الحليف البرجوازي المؤقت او المحاولات الامبريالية المخفية تحت ستار عصبة الامم مثلا اعلى. و الحال ان الديبلوماسية السوفياتية التي تتبعها في هذا المجال الاممية الثالثة تحول حلفاء موسكو المؤقتين الى "اصدقاء للسلام" و تخدع العمال بالحديث عن "الامن الجماعي " و "نزع السلاح" فتصبح مذ ذاك فرعا سياسيا للشركة الامبريالية الام وسط الجماهير العمالية.
في اول اذار/ مارس 1935 ادلى ستالين بحديث صحفي ماثور للسيد روي هوفر رئيس صحيفة سكريب – هوفر. و يعتبر هذا الحديث وثيقة ثمينة تدل على العمى البيروقراطي في القضايا الكبرى للسياسة العالمية. فعندما سئل ستالين: هل يتعذر تلافي الحرب..؟ اجاب قائلا: "ان مواقع اصدقاء السلام تزداد قوة و يمكنهم ان ينشطوا في وضح النهار فهم يتمتعون بدعم الراي العام العالمي علاوة على امتلاكهم وسيلة مثل عصبة الامم". و ليس في هذا الكلام ادنى اقتراب من الواقعية! ان الدول البرجوازية لا تنقسم اطلاقا الى "اصدقاء" و الى "اعداء" للسلام لا سيما انه ليس هناك سلام لذاته. فكل بلد امبريالي يهتم بدعم سلامه وهو يهتم به بقدر ما يكون قاسيا على اعدائه. اما الصيغة التي يشارك بها ستالين و بالدوين و ليون بلوم و التي تقول: "سوف يتحقق السلام حقا اذا انضمت جميع الدول الى عصبة الامم للدفاع عنه" فلا يعني الا ان السلام سيتحقق اذا لم يكن هنالك ما يستوجب خرقه. ان الفكرة في حد ذاتها صحيحة و لكنها بدون معنى عملي. فالدول العظمى التي بقيت بعيدة عن عصبة الامم تهتم بحرية حركتها اكثر من اهتمامها بفكرة "السلام" المجردة. فلماذا تبحث عن حرية حركتها؟ هذا ما سيكشفه المستقبل. ان الدول التي تنسحب من عصبة الامم كالمانيا و اليابان او "تبتعد" عنها مؤقتا كايطاليا تملك اسبابا كافية لمثل هذا التصرف. و هجرها عصبة الامم هو في الحقيقة تعديل للشكل الديبلوماسي للصراعات الحاضرة لا يمس اعماقها و لا يغير طبيعة عصبة الامم بالذات. اما الاستفادة منها للمحافظة على سلامهم دون ان يكون هنالك بينهم اي اتفاق. فانجلترا راضية باطالة السلام مع التضحية بمصالح فرنسا في اوروبا و افريقيا. اما فرنسا فجاهزة للتضحية بسلامة المواصلات البحرية للامبراطورية البريطانية بغية الحصول على دعم ايطاليا. و كل دولة مستعدة للجوء الى الحرب دفاعا عن مصالحها و هذه الحرب ستكون في نظرها اعدل الحروب بالطبع. و تبحث الدول الصغيرة التي لا تملك و سيلة افضل من عصبة الامم عن امنها تحت سقف هذه المؤسسة العالمية. و لكنها ستجد نفسها في النهاية مدفوعة الى جانب التجمع الحربي الاقوى لا نحو السلام.
ان عصبة الامم تدافع عن "الوضع الراهن" و ليس هذا تنظيما للسلام و لكنه تنظيم للعنف الامبريالي من جانب الاقلية ضد الاكثرية العظمى للبشرية. هذا"النظام" لا يمكن المحافظة عليه الا بحروب صغيرة و كبيرة لا تنتهي تبدا اليوم في المستعمرات و تنتقل غدا الى الحاضرات. فالاخلاص الامبريالي "للوضع الراهن" اخلاص مؤقت و محدود. لقد وافقت ايطاليا البارحة على "الوضع الراهن" في اوروبا دون ان توافق عليه في افريقيا و من يدري ماذا ستكون سياستها غدا في اوروبا؟ ليس هنالك من يعرف. و لكن تعديل الحدود في افريقيا بدا ينعكس الان في اوروبا. فهتلر لم يجرؤ على ادخال جيوشه في منطقة الراين الا بعد ان اجتاح موسوليني الحبشة. و من الصعب اعتبار ايطاليا من "اصدقاء " السلام و لكن فرنسا تفضل حاليا الصداقة الايطالية على الصداقة الروسية. و تحاول انجلترا تمتين الصداقة مع المانيا. تتبدل التجمعات في ما تستمر المطامع. و مهمة انصار "الوضع الراهن" تكمن في الواقع في الوقوع داخل عصبة الامم على مزيج القوى الاكثر ملاءمة و على التمويه الافضل من اجل تهيئة الحرب المقبلة. فمن سيبداها و متى؟ ان هذا يتوقف على ظروف ثانوية و لكن لا بد من ان يبداها احدهم فما "الوضع الراهن" سوى برميل من البارود لا نهاية له.
و برنامج "نزع السلاح" في حد ذاته خداع واضح ما دام هنالك تنقاضات امبريالية. حتى و لو تحقق نزع السلاح هذا عن طريق اتفاقيات – وهذه فرضية خيالية حقا! – فلن يكون ذلك عائقا في وجه الحرب. فالامبرياليون لا يشهرون الحرب لانهم يمتلكون اسلحة بل يصنعون الاسلحة عندما يكونون بحاجة الى الحرب. و التقنية الحديثة قادرة على تسهيل اعادة التسلح بسرعة كبيرة. و كل اتفاقيات نزع او تحديد السلاح عاجزة عن منع المصانع الحربية و المختبرات و الصناعات الراسمالية بمجموعها من ان تحتفظ بقدرتها. و هكذا تصبح المانيا بفضل قوتها الصناعية قلعة العسكرية الاوروبية رغم انها منزوعة السلاح و خاضعة لمراقبة المنتصرين الصارمة (وهي الشكل الحقيقي الوحيد ﻟ نزع السلاح ). كما انها تستعد بدورها لتجرد بعض جيرانها من سلاحهم. و ما "فكرة نزع السلاح بالتدريج" سوى محاولو لتخفيض النفقات العسكرية الباهظة زمن السلم وهي تتعلق بالميزانية لا بحب السلام كما انها فكرة متعذرة التنفيذ! و بسبب التفاوتات في الاوضاع الجغرافية و القوة الاقتصادية و الاشباع الاستعماري فان اي قاعدة لنزع السلاح تؤدي لتعديل ميزان القوى لمصلحة البعض ضد البعض الاخر. و من هنا جاء عقم محاولات جنيف فبعد 20 سنة من الوفاوضات و المباحثات حول نزع السلاح عاد العالم لسباق التسلح من جديد بسرعة لم يعهدها قبل الان. ان بناء السياسة الثورية البروليتارية على اساس برنامج نزع السلاح لا يعني حتى ارساءها على الرمال بل يعني تاسيسها على شاشة الدخان التي تموه النزعة العسكرية.
و يتعذر كبت صراع الطبقات لمصلحة الحرب الامبريالية الا بمساعدة زعماء المنظمات العمالية الجماهيرية. و في عام 1914 استخدم الامبرياليون لهذا الغرض شعارات براقة مثل "اخر الحروب" و "الحرب ضد العسكرية البروسية" و "حرب الديمقراطية" و لكن تاريخ السنوات العشرين الماضية كشف زيف هذه الشعارات مما اضطرهم الى استخدام شعارات جديدة مثل "الامن الجماعي" و "نزع السلاح الشامل". و يحاول زعماء المنظمات العمالية في اوروبا تحت ستار دعم عصبة الامم تحضير نسخة جديدة من الاتحاد المقدس الذي يعتبر لازما للحرب مثل الدبابات و الطيران و الغزات الخانقة "الممنوعة".
لقد ولدت الاممية الثالثة كاحتجاج صارخ على فكرة الاشتراكية – الوطنية. و لكن المحتوى الثوري اليذ استمدته من ثورة اوكتوبر استنزف منذ زمن بعيد. و الاممية الشيوعية تعمل الان تحت راية عصبة الامم كالاممية الثانية و لكن مع درجة اكبر من القحة السافرة. عندما سمى الاشتراكي الانجليزي ستافورد كريس عصبة الامم: "الاتحاد الدولي لقطاع الطرق و هي تسمية جارحة و لكنها لا تخلو من الحقيقة تساءلت التايمز بسخرية: "كيف يمكن ان نفسر في هذه الحالة انضمام الاتحاد السوفياتي الى عصبة الامم؟" ان من الصعب الاجابة على هذا السؤال. و هكذا تقدم البيروقراطية الروسية دعما قويا للاشتراكية – الوطنية التي سددت لها ثورة اوكتوبر في ايامها ضربة قاصمة.
و لقد حاول السيد روي هوفارد ان يحصل على تفسير بهذا الصدد من ستالين و دار بينهما الحديث التالي نذكره حرفيا:
- "ما هو مصير مخططاتكم و نواياكم حول الثورة العالمية؟"
-"اننا لم نحمل ابدا افكارا كهذه".
–"ولكن ..." "هذه ثمرة سوء تفاهم".
– "سوء تفاهم ماساوي؟"
- "كلا بل هزلي او قل ماساوي-هزلي".
ثم تابع ستالين قائلا: "ما هو الخطر الذي يمكن ان تراه الدول المجاورة في افكار المواطنين السوفيات اذا كانت هذه الدول ثابتة الاركان؟". و لو اراد السائل لساله هنا: و اذا لم تكن ثابتة؟ و على كل حال قدم له ستالين حجة اخرى مطمئنة بقوله: "ان تصدير الثورة نكتة تافهة فكل بلد قادر على القيام بثورته ان اراد ذلك. فاذا لم يرغب تعذرت الثورة. و لقد ارادت بلادنا تفجير الثورة و فجرتها..." و هكذا كان الطبيعي الانتقال من نظرية الاشتراكية في بلد واحد الى نظرية الثورة في بلد واحد. فلماذا اذن توجد الاممية؟ لقد كان روي قادرا على طرح هذا السؤال و لكنه يعرف حدوده فلا يتجاوزها. و تحتوي تفسيرات ستالين المطمئنة التي يقراها العمال كما يقراها الراسماليون كثيرا من الثغرات. لقد استحضرت "بلادنا" قبل تفجير ثورتها افكارا ماركسية من بلاد اخرى. كما استخدمنا خبرة و تجارب الاخرين. و جاءنا خلال عشرات السنين كثير من المهاجرين الثوريين الذين قادوا الصراع في روسيا. و دعمتنا المنظمات العمالية في اوروبا و امريكا ماديا و معنويا. ثم انشانا فور انتصارنا عام 1919 الاممية الشيوعية. لقد قلنا اكثر من مرة ان على البروليتاريا في البلاد الثورية المنتصرة مساعدة الطبقات المسحوقة الثائرة على صعيد الافكار و حسب بل كذلك باستخدام السلاح اذا امكن. و لم نكتف بهذا الكلام بل دعمنا عمال فنلندا و استونيا و ليتوانيا و جيورجيا بقوة السلاح كما دفعنا الجيش الاحمر نحو فرصوفيا9 لنعطي البروليتاريا البولونية فرصة الثورة و ارسلنا المنظمين و المدربين العسكريين الى الثوار الصينيين. و جمعنا في عام 1926 ملايين الروبلات لمساعدة العمال الانجليز المضربين. و الان يبدو ان هذا لم يكن سوى سوء تفاهم. محزن؟ كلا بل مضحك.. ان ستالين لم يخطئ عندما قال ان الحياة في الاتحاد السوفياتي غدت "مرحة": فالاممية الشيوعية نفسها قد انقلبت من شخص جدي الى اخر هزلي.
و لو ان ستالين ابتعد عن هجاء الماضي و اكتفى بتاكيد تعارض السياسة التيرميدورية مع سياسة ثورة اوكتوبر لكان اكثر اقناعا. كان في وسعه ان يقول: "كانت عصبة الامم بنظر لينين منظمة لاعداد حروب امبريالية جديدة و لكننا نرى فيها وسيلة للسلام. و كان لينين يعتبر الحروب الثورية لا بد منها و نحن نجد ان تصدير الثورة نكتة تافهة. و يعتبر لينين تحالف البورليتاريا مع البرجوازية الامبريالية خيانة و نحن ندفع البروليتاريا العمالية بكل قوتنا نحو هذا التحالف. ويسخر لينين من شعار نزع السلاح في النظام الراسمالي و يرى فيه اسلوبا لخدع العمال و لكننا نبني سياستنا على هذا الشعار". كما و كان يمكن لستالين ان يختم حديثه مع محاوره بالاستنتاج التالي: "ان سوء فهمكم الماساوي- الهزلي ناجم عن اعتقادكم باننا نتابع سير البلشفية في الوقت الذي نقوم فيه بدفنها".
الجيش الاحمر و عقيدته:
قديما كان الجندي الروسي الناشئ في جو عائلي محافظ وسط السلام القروي يتصف بروح الطاعة العمياء. لذا كان سوفوروف في عهد كاترين الثانية و بولس الاول سيد جيوش الاقنان بلا منازع. ثم جاءت الثورة الفرنسية الكبرى فصفت بلا رجعة الفن العسكري لاوروبا القديمة و روسيا القيصرية. و لا شك ان امبراطورية القياصرة اضافت بعد ذلك الى تاريخها انتصارات كبيرة و لكنها لم تنتصر على اي جيش من جيوش البلاد المتقدمة. و كان لا بد من الهزائم الخارجية و الانتفاضات الداخلية لاعادة بناء الشخصية القومية للجيوش الروسية. و كان الجيش الاحمر بحاجة لقاعدة اجتماعية و سيكولوجية جديدة من اجل ان يبصر النور. و جاءت الاجيال الجديدة فتركت صفات المسالمة والطاعة العمياء و الخضوع الى الطبيعة و تحلت بالجراة و الرغبة في تعلم التقنية الحديثة. و في حين كان يستيقظ الفرد كان المستوى الثقافي يتحسن. وبدا عدد المجندين الاميين يقل باستمرار. فالجيش الاحمر لا يقوم بتسريح الاميين من الخدمة قبل تعلمهم القراءة و الكتابة. كل انواع الرياضة تمارس فيه بحماس و تنشر خارج الجيش. و انتشرت بين الموظفين و العمال و الطلاب مدالية مهرة الرماة. و اعطى التزحلق على الثلج للوحدات العسكرية قدرة جديدة على الحركة شتاء و اعطت تدريبات القفز بالمظلات و الطيران الشراعي و الطيران العادي نتائج مرموقة و اخذت عمليات الطيران فوق القطب و في الاجواء العالية تحتل اذهان الجميع و ظهر التقدم و الحماس في كل مجال. لم يكن تنظيم الجيش الاحمر و قدرته على العمليات في الحرب الاهلية مثاليين و كانت سنوات الحرب بالنسبة للكادرات الشابة سنوات عماد كبير. و تكشف جنود عاديون و ضباط صف و ملازمون عن كفاءات جعلت منهم منظمين و قادة. و تصلبت ارادتهم خلال الصراع الطويل. و هزم هؤلاء العصاميون مرارا و لكنهم انتصروا في النهاية. ثم بدا افضلهم بمتباعة الدراسة و التحصيل. لقد مر كافة قواد اليوم بمدرسة الحرب الاهلية ثم تابع معظمهم بعد ذلك الدراسة في الاكاديمية العسكرية و تلقوا دورات تدريبية خاصة لتحسين المعلومات. و يتمتع نصف الضباط الكبار تقريبا بتثقيف عسكري جيد بينما يتمتع النصف الاخر بتثقيف متوسط. و لقد منحتهم النظرية انضباطا فكريا ضروريا دون ان تقتل فيهم الجراة التي حفزتها عمليات الحرب الاهلية الماساوية. و يتراوح سن هذا الجيل الان بين 40 و 50 سنة وهو سن اتزان القوى الفكرية و الجسمية حيث تعتمد المبادرة الجريئة على التجربة دون ان تكون التجربة عبئا ثقيلا عليها.
و يتولى الحزب و الشبيبة الشيوعية و النقابات – بغض النظر عن اسلوبها في تطبيق الاشتراكية – تكوين كادرات ادارية باعداد كبيرة معتادة على استخدام الجماهير البشرية و كتل البضائع و التماثل مع الدولة: تلك هي الاحتياطات الطبيعية لكادرات الجيش. كما ان اعداد الشبيبة للخدمة العسكرية يشكل احتياطا اخر و يؤلف الطلاب كتائب مدرسية قادرة على التحول الى مدارس ضباط احتياطي في حالة التعبئة. و يكفي لتقدير اهمية هذه الامكانيات ان نعرف ان عدد المتخرجين من المعاهد العالية يبلغ سنويا 80 الف خريجا و ان عدد طلاب هذه المعاهد يزيد عن نصف المليون و عدد الدارسين في جميع المؤسسات التعليمية حوالي 27 مليونا. لقد حققت الثورة الاجتماعية في حقل الاقتصاد و خاصة الصناعة تقدما كبيرا على مستوى الدفاع عن البلاد لم تكن روسيا القديمة تحلم به. و تعني طرائق التخطيط في الواقع تعبئة الصناعة و تسمح باستخدام المشاريع الجديدة منذ انشائها لصالح الدفاع. و يمكن اعتبار العلاقة بين القوة الحية و القوة التقنية للجيش الاحمر في المستوى ذاته لافضل الجيوش الغربية المتقدمة. و لقد تم تجديد المدفعية خلال الخطة الخمسية الاولى بنجاح منقطع النظير كما خصصت اموال كثيرة لصنع العربات المدرعة و سيارت النقل و الدبابات و الطائرات. و تملك البلاد اليوم نصف مليون جرار و ستصنع في عام 1936 60 الف ذات قوة اجمالية تعادل 8.5 مليون حصان بخاري. و يتم صنع الدبابات الهجومية بصورة متوازية مع الجرارات. و يتوقع المراقبون ان يكون نصيب كل كيلومتر من الجبهة العاملة في حالة التعبئة 30 – 40 دبابة.
و بعد الحرب الكبرى انخفض الاسطول السوفياتي من 548.000 طن في عام 1917 الى 82.000 طن في عام 1928 اعلن توخاتشيفسكي11 امام المجلس التنفيذي: "نحن نبني اسطولا قويا مركزين جهودنا الرئيسية على بناء الغوصات". و قيادة الاسطول الياباني تدرك هذا التقدم. و يشكل بحر البلطيق في الوقت الحاضر هدف اهتمام مشابه. مع الاخذ بعين الاعتبار ان مهمة اسطول لعالي البحار ستكون في السنوات المقبلة مقتصرة على القيام بادوار ثانوية للدفاع عن الحدود البحرية.
اما الاسطول الجوي فقد تقدم بسرعة اكبر. و منذ اكثر من سنتين صرح وفد عسكري فني فرنسي للصحافة عن "استغرابه و اعجابه" بهذا التقدم و اقتناعه بان الجيش الاحمر يبني عددا كبيرا من قاذفات القنابل الثقيلة التي تعمل الى مدى 1200 و 1500 كيلومتر. و في حالة صراع مقبل في الشرق الاقصى سوف تتعرض المراكز السياسية و الاقتصادية اليابانية دون شك لضربات طيران تنطلق من القاعدة البحرية في فلاديفستوك. و تتوقع الخطة الخمسية انشاء 62 لواء جويا تستخدم 500 طائرة عام 1935 و لا شك ان الخطة قد نفذت في هذا الصدد بكل دقة لا بل تم تخطيها.
و يرتبط الطيران بفرع من الصناعة لم يكن في الماضي موجودا في روسيا و لكنه تقدم تقدما كبيرا خلال السنوات الاخيرة وهو فرع الكيمياء. و الحكومة السوفياتية كغيرها من الحكومات لم تؤمن بمنع الحرب الغازية ايمانا كاملا. و لقد اظهر عمل اغلمحضرين الايطاليين في الحبشة مرة اخرى قيمة وضع الحدود الانسانية للقرصنة العالمية. و الجيش الاحمر مستعد دون شك ضد المفاجات الكارثية للحرب الكيميائية و الجرثومية مثل جيوش البلاد الغربية.
ان نوعية منتجات الصناعة الحربية تثير بالضرورة شكوكا مشروعة. و لنذكر في هذا المجال ان وسائل الانتاج في الاتحاد السوفياتي افضل من المنتجات الاستهلاكية. و كلما مرت الطلبات بالتجمعات البيروقراطية الحاكمة كان نوع المنتجات مرتفعا بشكل ظاهر عن مستواها العادي المنخفض. و مصالح الجيش هي اكثر زبائن الصناعة سلطة. فلا ندهشن اذا كانت معدات التخريب احسن نوعا من المنتجات الاستهلاكية او وسائل الانتاج. و لكن تبقى صناعة الحرب مع ذلك جزءا من الصناعة بصورة عامة و تعكس كل اخطاء هذه الصناعة و ان مع التقليل من مخاطرها. و لا يترك فورشيلوف و توخاتشيفسكي فرصة دون ان يذكرا المدراء بصورة علنية: "اننا غير راضين دائما عن نوعية الانتاج المقدم للجيش الاحمر". و يمكن الاعتقاد ان قادة الدفاع يعبرون عن افكارهم بصراحة اكبر فيما بينهم. و مستوى التجهيزات عادة ادنى من مستوى التسليح و الذخيرة. و الاحذية اسوا نوعا من الرشاشات. و محركات الطائرات رغم التقدم الكبير متخلفة عن افضل المحركات الغربية الحديثة. و الهدف القديم – التقرب ما امكن من مستوى العدو المقبل – لا يزال قائما بالنسبة للتقنية الحربية.
ان وضع الزراعة اشد سوءا. و غالبا ما يسمع في موسكو ان دخل الصناعة قد تجاوز دخل الزراعة و ان الصناعة تحتل اليوم المركز الاول. و الحقيقة ان الفرق بين الصناعة و الزراعة لا يتعلق بتقدم الصناعة (رغم كبر هذا التقدم) قد تعلقه بمستوى الزراعة المنخفض جدا. و من الاسباب التي دفعت الديبلوماسية السوفياتية الى المرونة و التساهل طيلة سنوات مع اليابان سبب وجيه هو صعوبات التموين. و لقد تحسن الموقف في السنوات الثلاث الاخيرة مما سمح بانشاء قواعد تموين كافية لمتطلبات الدفاع عن الشرق الاقصى.
انها لمفارقة ان يشكل النقص في عدد الجياد بالنسبة للجيش نقطة الضعف الاهم اذ سببت الجماعية الكاملة خسارة 55 بالمائة من الخيول. و الجيش بحاجة رغم استخدام الاليات الى حصان لكل ثلاثة رجال كما كانت الحالة ايام نابليون. و لقد طرا على الموقف تحسن في السنة الماضية و بدات الخيول تتزايد. و على كل حال فان بلد تعداده 170 مليون نسمة قادر حتى و لو اندلعت الحرب خلال عدة اشهر على استنفار قوى كبيرة و خيول كافية للجبهة على حساب مجموع الشعب. و الجماهير الشعبية في جميع البلدان لا تتوقع عموما من الحرب الا الجوع و الغازات و الاوبئة. لقد خلقت الثورة الفرنسية الكبرى جيشها بمزج التشكيلات الجديدة مع وحدات الجيش الملكي. و لكن ثورة اوكتوبر حلت جيش النظام القديم بكامله و اسست الجيش الاحمر من جديد بادئة من القاعدة. و لقد ظهر هذا الجيش مع النظام السوفياتي بان واحد فقاسمه متاعبه. و يعود امتيازه غير المحدود على الجيش القيصري الى التطور الاجتماعي العميق الذي اصاب البلاد.. و الحقيقة ان الجيش لم ينج من الانحطاط الذي اصاب النظام السوفياتي بل وجد الانحطاط تعبيره الاكمل في الجيش. و علينا قبل تحديد الدور المحتمل للجيش الاحمر في الزلزال القادم دراسة تطور افكاره الرئيسية و بنيته.
ففي 12 كانون الثاني / يناير 1918 اصدر مجلس مفوضي الشعب مرسوما بتاسيس جيش نظامي حددت مهمته بما يلي: "ان انتقال السلطة الى الطبقات الكادحة و المستغلة يجعل من الضروري وجود جيش جديد يعمل كحاجز لحماية سلطة السوفيات...و كساد للثورة الاشتراكية المقبلة في اوروبا". و في اول ايار / مايو يقسم الجنود الحمر الشباب "القسم الاشتراكي" الذي حوفظ على نصه منذ عام 1918 الى الان و يتعهدون بموجب هذا القسم "امام الطبقة العاملة الروسية و العالمية" بالقتال "في سبيل الاشتراكية و اخوة الشعوب باذلين كل قوتهم و حياتهم". و عندما يقول ستالين ان اممية الثورة عبارة عن "سوء تفاهم مضحك" فانه يخرق القرارات التي لم تلغ حتى الان. و عاش الجيش بعد انشائه على افكار الحزب و الدولة. كما استوحت القوانين و الصحافة و التحريض بالصورة ذاتها من الثورة العالمية المعتبرة هدفا اساسيا. و قد اتخذ برنامج الاممية الثورية في كثر من الاحيان مظهرا مبالغا به في مصالح الحرب. و في 1921 كتب غوسييف الذي تراس ردحا من الزمن المصلحة السياسية في الجيش ثم اصبح احد القمربين لستالين: "اننا نجهز جيش الطبقة البروليتارية..لا لمجابهة الثورة المضادة البرجوازية و الاقطاعية فحسب بل للقيام كذلك بحروب ثورية (دفاعية و هجومية) ضد القوى الامبرالية". و كان غوسييف ياخذ على قادة الجيش الاحمر12 تقصيرهم في تحضير هذا الجيش لمهماته العالمية. و قد شرح الكاتب للرفيق غوسييف عن طريق الصحافة ان القوة المسلحة مدعوة لتلعب في الثورات الاجنبية دورا ثانويا لا رئيسيا. وهي عاجزة عن تسريع الحل و تحقيق النصر اذا لم تتوفر لها الظروف الملائمة. "ان التدخل العسكري مفيد مثل اجهزة التوليد لان هذه الاجهزة تخفف الام الوضع اذا استخدمت في الوقت المناسب. فاذا ما استخدمت قبل الاوان ادت الى الاجهاض" (كانون الاول / ديسمبر 1921). اننا لا نستطيع مع الاسف ان نطرح هنا كما يجب تاريخ الافكار حول هذا الموضوع الهام. و لكن علينا ان نذكر ان توخاتشيفسكي وهو اليوم مارشال اقترح على مؤتمر الاممية الشيوعية في عام 1921 تشكيل اركان حرب عالمية تعمل بالتنسيق مع مكتب "الاممية الشيوعية": و نشرت رسالته الهامة انذاك مع مجموعة مقالات تحت اسم "حرب الطبقات ". و لقد اعلمت توخاتشيفسكي القائد الناجح المتهور احيانا بخطاب موجه اليه بانه "يمكن تاليف هيئة اركان حرب عالمية من هيئات الاركان القومية لمختلف البلدان البروليتارية. و طالما ليس الامر هكذا تصبح هيئة الاركان الاممية كاريكاتورية بالضرورة". و لم يكن ستالين يتخذ انذاك موقفا تجاه الامور المبدئية لا سيما الجديدة منها و لكن عددا ممن اصبحوا رفاق طريقه بعد ذلك كانوا في ذلك الوقت "الى يسار" قيادتي الحزب و الجيش و كان في افكارهم العديد من المبالغات الساذجة او اذا شئتم من "سوء التفاهم المضحك". و هل يمكن القيام بثورة عظيمة من غير ذلك؟ لقد قاومنا "كاريكاتور" الاممية المتطرف مدة طويلة قبل ان نضطر الى توجيه اسلحتنا نحو نظرية لا تقل عنه سخفا وهي نظرية "الاشتراكية في بلد واحد".
لقد كانت الحياة الايديولوجية للبلشفية غنية متفاعلة و خاصة في اقسى مراحل الحرب الاهلية و ذلك على نقيض المفاهيم التي تم ارساؤها فيما بعد، هذه المفاهيم المنكفئة الى الماضي. و قد كانت هناك مناقشات طويلة تتواصل في كل مستويات الحزب و الدولة و الجيش و خاصة في المواضيع العسكرية كما تعرضت سياسة المسؤولين مرات عديدة لنقد حر كثيرا ما كان مريرا قاسيا. و قد كتب قائد الجيش انذاك13 في المجلة العسكرية الاكثر نفوذا مقالا ينقد فيه المبالغة في الرقابة: "انني ارى ان الرقابة قد ارتكبت عددا كبيرا من الاخطاء و اعتبر من الضروري تنبيهها لتخفف من غلوائها. فمهمة الرقابة المحافظة على الاسرار الحربية و اما ما عدى ذلك فلا يدخل ضمن اختصاصها" (22 شباط / فبراير 1919).
لم يكن لفكرة اركان الحرب العالمية اهمية كبرى في الصراع الايديولوجي الذي في حين بقي في الحدود التي يرسمها انضباط العمل شجع في الوقت نفسه على تشكيل تكتل معارض في الجيش او في قياداته على الاقل. و كانت مدرسة "العقيدة الحربية البروليتارية" التي يؤمن بها فرونتزه14 و توخاتشيفسكي و غوسييف و فورشيلوف و اخرون تعتقد مسبقا بضرورة ان يكون الجيش الاحمر مختلفا في اهدافه السياسية و تكوينه و استراتيجيته و تكتيكه عن الجيوش القومية في البلاد الراسمالية و ترى ان على الطبقة الحاكمة الجديدة خلق نظام سياسي جديد مختلف تماما عن انظمة تلك البلاد. و كان خلال الحرب الاهلية قد اكتفينا بالاحتجاج المبدئي ضد استخدام الجنرالات اي الضباط القدامى في الجيش القيصري15 كما اكتفينا بالصراع ضد القيادة العليا التي كانت هي نفسها في صراع دائم مع الارتجالات المحلية و الاساءات المتواصلة الى الانضباط. لقد حاول مطلقو الاطروحة الجديدة الاكثر حماسا ان يدينوا ايضا باسم مبادئ "المناورة" و "الهجوم" المعتبرة امورا لا جدال فيها التنظيم الرمزي للجيش الذي قد يعيق المبادهة الثورية في حقول المعارك الاممية في المستقبل. كانت تلك محاولة لرفع اساليب حرب العصابات المستخدمة في بداية الحرب الاهلية الى مستوى نظام دائم شامل. و اظهر بعض القادة حماسة للعقيدة الجديدة منعتهم من دراسة القديمة. و كانت تزاريتسين (فولغاغراد اليوم) المركز الرئيسي لهذه الافكار و لقد بدا فيها بوديني و فورشيلوف (وبعد ذلك ستالين) حياتهم العسكرية.
و عندما حل السلام جرت محاولات اكثر جدية لصياغة هذه الاتجاهات الجديدة في المذهب. و ابتدا هذا العمل و تابعه قائد من قواد الحرب الاهلية الممتازين و سجين سياسي قديم هو فرونتزه و دعمه في اتجاهه فورشيلوف و الى حد ما توخاتيشفسكي. و في الحقيقة كان المذهب البروليتاري الحربي يشبه الى مدى بعيد مذهب "الثقافة البروليتارية" فلكليهما طابع تخطيطي و ميتافيزيقي واحد. و لا تحتوي المؤلفات التي كتبها مؤلفوه سوى جزء يسير من الوصفات العملية التي لا شيء جديد فيها و المستوحاة من تعريف نموذجي للبروليتاريا بانها طبقة عالمية في حالة الهجوم اي المستنتجة من تجريدات سيكولوجية غامضة لا من الظروف الحقيقية للزمان و المكان.
و تصر هذه المؤلفات في كل سطر من سطورها على تاكيد ماركسيتها و لكنها تترك هذه الماركسية في الحقيقة لتقع في احضان المثالية البحتة. لقد كانت هذه الاعمال في الحقيقة مخلصة و لكن ليس من الصعب ان تكتشف فيها بذرة غرور البيروقراطية تلك البيروقراطية التي تفكر و تجبر الاخرين على التفكير بانها قادرة على تنفيذ معجزات تاريخية في جميع المجالات دون تحضير خاص و بدون قاعدة مادية.
و قد اجاب قائد الجيش16 انذاك على اقوال فرونتزه: " انني لا اشك بانه اذا اضطر بلد يتمتع باقتصاد اشتراكي متقدم للقيام بحرب ضد بلد برجوازي فان استراتيجيته ستاخذ شكلا اخر. و لكن ليس معنى ذلك اننا نرغب اليوم بتخيل استراتيجية بروليتارية... اننا اذا طورنا الاقتصاد الاشتراكي و رفعنا مستوى الجماهير الثقافي اغنينا الفن العسكري بمضامين و اساليب جديدة". لهذا علينا ان نتبع بصورة منهجية مدرسة البلاد الراسمالية المتقدمة دون ان نحاول ان نستنتج بعمليات منطقية استراتيجية جديدة من طبيعة البروليتاريا الثورية". (اول نيسان / ابريل 1922). لقد وعد ارخميدس بان يقلب الارض اذا توفرت له نقطة ارتكاز. و قد كان ذلك كلاما جميلا الا انه لو حصل على هذه النقطة للاحظ ان الرافعة تخونه. لقد اعطتنا الثورة المنتصرة نقطة ارتكاز جديدة و لكن قلب العالم بحاجة لرافعات ينبغي بناؤها. لقد رفض الحزب "العقيدة الحربية البروليتارية" رغم وصول مطلقيها القدامى الى سدة الحكم بسرعة. و الاختلاف بين مصيري هاتين العقيدتين مميز جدا للمجتمع السوفياتي. فلم تكن "الثقافة البروليتارية" تحتوي افكارا هامة لذا لم تجد البيروقراطية باسا من تقديمها للبروليتاريا كتعويض في حين كانت تنحيها بفظاظة عن السلطة. اما العقيدة العسكرية فكانت تصيب في العمق المصالح الدفاعية و مصالح الشريحة الحاكمة و لا تترك حيزا للحذلقة الايديولوجية. لقد وصل الاعداء القدامى لفكرة استخدام "الجنرالات" الى مرتبة الجنرالات في غضون ذلك: غدا المطالبون باركان حرب عالمية اكثر تعقلا و ارتدوا رداء "اركان حرب بلد واحد". و حلت موضوعة "الامن الجماعي" محل "حرب الطبقات" و اخلى منظور الثورة العالمية الساحة لعبادة "الوضع الراهن". و كان من الضروري لكسب ثقة الحلفاء المحتملين و عدم استثارة غضب الاعداء التشبه ما امكن بالجيوش الراسمالية لا التميز عنها مهما غلا الثمن. و اخفت التعديلات في العقيدة و الواجهة سيرورات اجتماعية ذات اهمية تاريخية. و كانت سنة 1935 سنة تغيير جذري مزدوج لنظام الميلشيا و للكادرات.
تصفية الميليشيا و اعادة الرتب
هل تشبه القوات السوفياتية المسلحة بعد الثورة بعشرين عاما الشكل الذي رسمه لها برنامج الحزب البلشفي و الى اي درجة؟
يحدد برنامج الحزب ان على جيش ديكتاتورية البروليتاريا "ان يتسم بطابع طبقي واضح اي ان يتكون من عمال و فلاحين ينتمون الى الشرائح الريفية الفقيرة نصف البروليتارية. و لا ينقلب جيش الطبقة هذا الى ميليشيا اشتراكية للشعب اجمع الا بعد الغاء الطبقات". ان التجاهل المؤقت لفكرة جيش يمثل كل الشعب لا يعني استغناء الحزب عن نظام الميليشيا. و لقد اصدر المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي على العكس قرارا يقول: "اننا نبني الميليشيا على قاعدة طبقيةو نحولها الى ميليشيا اشتراكية". و كان الهدف هو خلق جيش "بلا ثكنات قدر الامكان اي جيش يعيش في ظروف مشابهة لظروف الطبقة العاملة خلال العمل". و كان على كافة الوحدات ان تتناسب في النهاية مع المعامل و المناجم و القرى و الكومونات الزراعية و تشكيلات عضوية اخرى يكون لها "قيادة محلية و احتياطات محلية من السلاح و التموين" و ان يحل التماسك على مستوى المنطقة و المدرسة و الصناعة و الرياضة محل الروح العسكرية التي تنمو في الثكنة. و ان يتم خلق الانضباط الواعي دون الاستعانة بضباط محترفين يسيطرون على الجيش.
و لما كانت الميليشيا تتناسب افضل ما يكون مع طبيعة المجتمع الاشتراكي فهي تتطلب اقتصادا متقدما. ان جيش الثكنات موضوع في ظروف مصطنعة بينما يعكس الجيش الاقليمي وضع البلاد الحقيقي. و كلما كانت الثقافة بدائية و الفرق بين القرية و المدينة واضحا ظهرت الميليشيا اقل تجانسا و تنظيما. و يؤدي النقص في السكك الحديدية و الطرق و المواصلات النهرية و الافتقار الى طرق واسعة و ضعف النقل بالسيارات الى الحكم على الجيش الاقليمي باقصى البطء في الحركة في الاسابيع و الاشهر الحرجة الاولى للحرب. لذا يجب تشكيل جيش دائم الى جانب الميليشيا بغية تغطية الجبهة خلال التعبئة و تامين النقل الاستراتيجي و تجميع القوى. و لقد بني الجيش الاحمر كحل وسط ضروري بين النظامين مع التاكيد على اهمية الجيش النظامي الخاصة.
في عام 1924 كتب قائد الجيش17 ما يلي: " يجب ان نتمثل دائما الاعتبارين التاليين: اذا كان ارساء النظام السوفياتي يؤمن لاول مرة امكانية انشاء نظام الميليشيا فالوقت اللازم لهذه العملية يتوقف على الحالة العامة لثقافة البلاد – تقنية، مواصلات، تعليم...الخ - لقد انشانا القواعد السياسية للميليشيا و لكن قواعدها الاقتصادية و الثقافية لا تزال متخلفة جدا". فاذا ما توفرت الظروف المادية المطلوبة فان الجيش الاقليمي سيتفوق على الجيش النظامي الدائم بدل ان يبقى دونه. ان الاتحاد السوفياتي يدفع غاليا ثمن دفاعه لانه فقير لدرجة لا تسمح له بتغطية تكاليف انشاء جيش اقليمي رخيص. و ليس ما في هذا الامر ما يدعو للعجب: فبسس فقر الاتحاد السوفياتي بالذات يرزح يرزح هذا البلد تحت عبء بيروقراطية مكلفة. و تعرض لنا المشكلة ذاتها دائما و في كل مجالات الحياة دون استثناء و هي مشكلة عدم التناسب بين القاعدة الاقتصادية و البناء الاجتماعي الفوقي. ففي المصنع و الاسرة و الكولخوز و المدرسة و الادب و الجيش تعتمد كل العلاقات على التناقض بين مستوى قوى الانتاج المنخفض (حتى من وجهة نظر راسمالية) و اشكال الملكية التي هي اشتراكية من حيث المبدا.
و ترفع العلاقات الاجتماعية الجديدة من مستوى الثقافة. و لكن الثقافة الناقصة تخفض مستوى الاشكال الاجتماعية. و تتارجح الحقيقة السوفياتية بين هذين الميلين. اما بالنسبة للجيش بفضل بنية هياكله العام الواضحة كليا يتم قياس المحصلة بارقام صحيحة بما فيه الكفاية. و يمكن لنسب الوحدات الدائمة و الاقليمية ان تلعب دور مؤشرات و تقيس درجة التقدم نحو الاشتراكية.
لقد منحت الطبيعة و التاريخ الاتحاد السوفياتي حدودا طويلة مفتوحة تبعد الواحدة عن الاخرى10 الاف كيلومتر و شعبا موزعا و طرقا سيئة. و في 15 تشرين الاول / اوكتوبر 1924 حثت القيادة القديمة للجيش و هي في اواخر ايام نشاطها على عدم نسيان الموضوعة التالية: "لا يمكن لاي تنظيم للميليشيا في المستقبل القريب الا ان يكون له طابع تحضيري و كل تقدم في هذا الصدد ينبغي ان يمليه علينا التحقق الدقيق من النتائج المكتسبة". و في عام 1925 جاء عهد جديد و تولى انصار "العقيدة الحربية البروليتارية" السلطة. و في الحقيقة ان الجيش الاقليمي كان متناقضا تماما مع مبدا "الهجوم" و "المناورة" الخاص بالمدرسة المذكورة. الا انه كان قد بدا تناسي الثورة العالميةحيث عمل الزعماء الجدد على تحاشي اندلاع الحرب "بتحييد" البرجوازية. و انتقل 74 بالمائة من وحدات الجيش في السنوات التالية الى نظام الميليشيا!
طالما كانت المانيا مجردة من السلاح و "صديقة" ايضا كانت القيادة العامة في موسكو تاخذ بالحسبان بصدد الحدود الغربية قوى جيران الاتحاد السوفياتي: بولونيا، رومانيا، ليتونيا، ليتوانيا، استونيا، فنلندا. علما بان هؤلاء الخصوم كانوا يعتمدون على دول عظمى من مثل فرنسا على وجه الخصوص التي لم تكن انذاك صديقة للسلام (انتهى هذا العهد في عام 1922) و كانت الدول المجاورة قادرة على تجنيد 120 الف فرقة مشاة اي 3.5 مليون رجل. و كانت خطة تعبئة الجيش الاحمر مبنية على تجميع قوى مماثلة تقريبا على الحدود الغربية. اما في الشرق الاقصى فقد كانت ظروف مسرح العمليات تفرض ان يؤخذ بالحسبان مئات الالوف من المقاتلين. و نحن نعلم ان 100 رجل في الجبهة بحاجة كل سنة ﻠ 75 اخرين من اجل استبدالهم بهم. و تحتاج سنتا حرب بين 10 – 12 مليون رجل اذا لم ندخل في حسابنا الجرحى الذين سيذهبون الى الجبهة فور خروجهم من المستشفى. و لم يكن الجيش الاحمر حتى 1935 يضم سوى 563.000 رجل عامل. و كان تعداده مع وحدات البوليس السياسي 620.000 رجل منهم 40 الف ضابط. و كان 74 بالمائة من مجموع هذه القوى تابعا للفرق الاقليمية بينما يتبع 26 بالمائة فقط للوحدات المعسكرة في الثكنات. و هذا في الحقيقة انتصار لنظام الميليشيا "بشكل نهائي اكيد" و بنسبة 74 بالمائة لا 100 بالمائة.
و منذ وصول هتلر الى الحكم اصبحت هذه الحسابات، سريعة العطب بحد ذاتها، موضع تساؤل. اندفعت المانيا في التسلح المحموم ضد الاتحاد السوفياتي قبل كل شيء و اختفت فورا فكرة التعايش السلمي مع الراسماليين و ظهر خطر الحرب واضحا. الامر الذي حدا الحكومة السوفياتية لاعادة النظر جذريا في بنية الجيش الاحمر رافعة تعداده الى 1.300.000 رجل. و غدا 77 بالمائة من فرق الجيش نظامية بينما لم يبق في الفرق المحلية سوى 23 بالمائة. و هذا يشبه الى حد بعيد التخلي عن نظام الميليشيا اذا فكرنا ان ما يجعل الحرب لا بد منها ليس سلام لا شائبة فيه بل احتمال الحرب. و هكذا تؤكد لنا التجربة التاريخية اننا لا نكسب بشكل "نهائي اكيد" الا المكاسب المستندة الى قاعدة المجتمع الانتاجية لا سيما في ميدان لا مزاج فيه.
ان خفض نسبة الميليشيا من 74 بالمائة الى 23 بالمائة يبدو مبالغا به رغم كل شيء و نحن لا نعتقد انه حصل من غير ممارسة هيئة الاركان الفرنسية ضغطا "وديا". و من المرجح ايضا ان البيروقراطية وجدت في ذلك فرصة ملائمة للتخلص من هذا النظام لاسباب سياسية الى حد بعيد. فالفرق الاقليمية تابعة مباشرة للاهالي و هذه ميزة الميليشيا الكبرى من وجهة النظر الاشتراكية. و لكنها في الوقت نفسه ميزة سيئة من وجهة نظر الكرملين. ان البلاد الراسمالية المتقدمة قادرة على تنفيذ نظام الميليشيا من الناحية التقنية و لكنها ترفضه خوفا من تلاحم الجيش و الشعب. و لا شك ان التفاعلات داخل الجيش الاحمر خلال تنفيذ الخطة الخمسية الاولى كانت سببا اضافيا لتعديل فكرة الفرق الاقليمية.
و لو ان عندنا خطا بيانيا يبين تشكيل الجيش الاحمر قبل التعديل و بعده لتاكدت فرضيتنا. و لكنه ليس في متناول ايدينا، و لو كان ذلك لما سمحنا لانفسنا بشرحه هنا. و هنالك حقيقة لا بد من ذكرها: هي ان الحكومة السوفياتية انقصت نسبة الميليشيا بنسبة 51 بالمائة في الوقت الذي اعادت به تنظيم وحدات القوزاق و هي الوحدات الاقليمية الوحيدة في النظام البائد!.. و تعتبر الخيانة دائما عنصرا متميزا و محافظا في كل جيش و قد شكل القوزاق في الماضي اكثر عناصر الخيالة محافظة. استخدمهم القياصرة كقوة بوليسية خلال الحرب و الثورة ثم عملوا في خدمة كيرنسكي بعد ذلك. و يمكن اعتبارهم داخل النظام السوفياتي اكثر العناصر رجعية و تحجرا. ان عملية التجميع التي تم تنفيذها بينهم تحت ضغط العنف الشديد لم تبدل تقاليدهم او ذهنيتهم بل تم منحهم على العكس حقا استثنائيا بامتلاك الخيول و بعض المزايا الاخرى. سوف يجد خيالة البراري انفسهم من جديد في صف المتميزين ضد الناقمين. هل ثمة شك في ذلك؟ و في خضم تدابير القمع الموجهة ضد العمال الشباب المعارضين ظهرت الرتب العسكرية و القوزاق بقبعاتهم الكريهة فكان هذا مظهرا من مظاهر التيرميدور الاكثر صدما! و يعتبرالقرار باعادة تنظيم ملاك الضباط بكل ابهته البرجوازية ضربة قاسية لمبادئ ثورة اوكتوبر. فقد تشكلت كادرات الجيش الاحمر بمحاسنها و مساوئها خلال الثورة و الحرب الاهلية كما لا تزال الشبيبة المحرومة من النشاط السياسي الحر تعطي قادة حمرا ممتازين. ان انحطاط الدولة المستمر انتقل من جهة اخرى الى اعلى الرتب القيادية. و عندما تحدث فورشيلوف في محاضرة سياسية عن المثل الذي يتحتم على القادة اعطاؤه لمرؤوسيهم وجد نفسه مضطرا لان يعترف: "انني لا استطيع مع الاسف ان اهنئ نفسي"، "ان الكادرات لا تتمكن غالبا من متابعة التقدم" الذي يتم داخل الوحدات "فالقادة عاجزون غالبا عن التصرف امام الاوضاع الجديدة"...الخ. و تقلقنا اعترافات فورشيلوف المريرة و لكنها لا تثير استغرابنا فما يقوله عن القيادة ينطبق على البيروقراطية باجمعها. و قد لا تقبل الخطيب ان يكون ممكنا وضع المسؤولين في صفوف المتاخرين" لانهم ينتقدون الجميع باستمرار و يطلبون من الجميع ان يرتفعوا الى المستوى اللائق. و الحقيقة ان جماعة "الرؤساء" التي لا تخضع للمراقبة و التي يعتبر فورشيلوف منها هي السبب الرئيسي للوضع المتخلف و الروتين و اشياء اخرى ايضا.
ان الجيش الاحمر جزء من المجتمع و يشكو ما كل امراضه وهو يعاني منها على وجه الخصوص عندما ترتفع الحرارة. ان مهنة الحرب قاسية لدرجة لا يمكن ان نقبل فيها اشياء خيالية او مغشوشة و جيش الثورة بحاجة الى حرية النقد الواسعة و القيادة بحاجة لمراقبة ديمقراطية. و لقد راى منظمو الجيش الاحمر ذلك منذ البدء اقتنعوا بضرورة الاعداد لانتخاب القادة و يقول القرار الرئيسي للحزب في هذا الموضوع: "ان ارتفاع روح الوحدة في القطعات العسكرية و بذر فكرة النقد الذاتي لدى الجنود لينتقدوا انفسهم و رؤساءهم يؤمنون الظروف الملائمة لتطبيق اوسع فاوسع لفكرة انتخاب القيادة". و لكن بعد خمسة عشر عاما من تبني هذا القرار – و هذا وقت كاف لتاكيد روح الوحدة و فكرة النقد الذاتي – يسير المسؤولون السوفيات على الطريق المعاكس.
في ايلول / سبتمبر 1935 علم الاصدقاء و الاعداء بكل استغراب عودة الجيش الاحمر الى اعتماد نظام التراتب على صعيد الضباط بحيث نبدا بالملازم و ننتهي بالمشير. و صرح توخاتشيفسكي و هو القائد الحقيقي للجيش: "ان اعادة الرتب العسكرية تخلق قاعدة امتن لكادرات الجيش الفنية و القيادية". و هذا تفسير غامض. فالقيادة تتقوى قبل كل شيء بثقة الرجال. و لهذا السبب نفسه قام الجيش الاحمر في الماضي بتصفية فئة الضباط. و لا تعتبر اعادة فئة تسلسلية ضرورية لمتطلبات الدفاع فوظيفة القيادة هي الاساس لا رتبتها. و لا يحمل الاطباء و المهندسون رتبا و مع هذا يجد المجتمع طريقة لوضعهم في اماكنهم. و ياتي الحق في القيادة عن طريق المعرفة و الموهبة و الشخصية و الخبرة وهي عوامل تتطلب تقديرا دائما و بما يخص كل فرد. ان رتبة رائد لا تضيف شيئا لقائد الكتيبة. و نجوم المشير الممنوحة للقادة الخمسة الكبار في الجيش الاحمر لا تضفي على هؤلاء القادة مواهب جديدة او سلطة اكبر. ان الجيش لم ياخذ "قاعدة متينة" و انما اخذ الضباط هذه القاعدة و دفعوا ثمنها بابتعادهم عن بقية افراد الجيش. و لهذا التعديل هدف سياسي بحت: هو اعطاء الضباط وزنا اجتماعيا. ان مولوتوف يعترف بذلك في معرض تبريره هذا القرار بضرورة "زيادة اهمية الكادرات التي تقود الجيش". و لا يقتصر الامر على اعادة الرتب بل يتعداه الى بناء مساكن للضباط. ففي عام 1936 سيتم تسليمهم 47 الف غرفة. و سيخصص لرواتبهم مبلغ يزيد بنسبة 57 بالمائة عن تسليفات السنة الماضية. ان "زيادة اهمية الكادرات التي تقود الجيش" تعني ربط الضباط بشكل امتن بالاوساط الحاكمة عبر اضعاف علاقتهم بالجيش. و هناك ظاهرة تستدعي الانتباه وهي عدم استخدام اسماء جديدة لرتب الجيش و الاصرار على تقليد جيوش الغرب وع حذف رتبة الجنرال لانها تعتبر في روسيا رمزا للسخرية. و عندما علقت الصحافة الروسية على تسمية خمسة مشيرين – تم اختيارهم لولائهم الشخصي لستالين لا لمواهبهم و خدماتهم – لم تنس التذكير بجيش القياصرة القديم المعروف "بروح الفئة المغلقة التي كان يتصف بها و تقديسه للرتب و عبوديته امام التسلسل" لماذا تقلده اذن بهذه الخساسة؟ ان البيروقراطية التي تخلق الامتيازات تختلق دائما حججا استخدمت في الماضي لتدمير الامتيازات القديمة. انها لوقاحة مقرونة هكذا بالجبانة مع درجة عالية من النفاق.
مهما بدت غير متوقعة اعادة "روح الفئة المغلقة و تقديس الرتب و العبودية امام التسلسل" فلقد اقدمت الحكومة على هذا التصرف مضطرة لان تعيين القادة حسب ميزاتهم الشخصية يتطلب سيادة النقد و البداهة بحرية في جيش يخضع رقابة الراي العام. ان الانضباط الحازم لا يتعارض مع الديمقراطية بل يجد فيها سندا و لكن ديمقراطية الجيش من ديمقراطية النظام الذي يغذيه. و ليست النزعة البيروقراطية بروتينها و غرورها ناجمة عن الحاجات الخاصة بالتنظيم العسكري بل عن الحاجات السياسية للقادة. هذه الحاجات تجد في الجيش على وجه الحصر تعبيرها الاكثر اكتمالا. ان اعادة فئة الضباط المغلقة بعد 18 سنة من الغاء الثورة لها تشهد على مدى اتساع الهوة بين الحاكم و المحكوم و الى اي حد فقد الجيش الصفات الاساسية التي كانت تسمح باطلاق تسمية الجيش الاحمر عليه و على مقدار وقاحة البيروقراطية التي تجعل من نتائج هذا التثبيط للمعنويات قانونا. و لقد فهمت الصحافة البرجوازية هذا الاصلاح – المضاد على حقيقته. و كتبت صحيفة الزمن في 25 ايلول / سبتمبر 1935: "هذا التبديل الخارجي هو احد الدلائل على التبديل العميق الذي يجري حاليا في الاتحاد السوفياتي كله. ان النظان الذي توطدت دعائمه نهائيا بدا يميل للاستقرار بصورة تدريجية. و ها هي العادات و التقاليد الثورية تترك مكانها في الاسرة السوفياتية و المجتمع للعواطف و العادات السائدة في البلاد الراسمالية. ان السوفياتات "تتبرجز". ليس لدينا ما نضيف على هذا التقدير.
الاتحاد السوفياتي و الحرب:
ان استمرار خطر الحرب من الشواهد الدالة على ارتباط الاتحاد السوفياتي بالعالم و حجة ضد طوباوية مجتمع اشتراكي معزول، حجة مرهوبة تقف الان في الطليعة.
و محاولة توقع كل العوامل المؤثرة على تطاحن الشعوب في المستقبل محاولة غير مجدية. و لو كانت مثل هذه المحاولة ممكنة لامكن حل صراع المصالح عبر مساومة يقوم بها بعض المحاسبين. و لكن هنالك كثيرا من المعميات الغامضة في معادلة الحرب الدموية. و يملك الاتحاد السوفياتي على كل حال ميزات كبيرة بعضها موروث من الماضي و بعضها ناجم عن النظام الجديد. و لقد اثبتت تجربة العدوان و التدخل المسلح في الحرب الاهلية ان اتساع روسيا يمنحها كما في الماضي تفوقا لا يستهان به. ان هنغاريا السوفياتية الصغيرة لم تصمد امام الامبريالية الاجنبية، التي وفر لها حظوظ الانتصار الديكتاتوري المشؤوم بيلاكون، سوى عدة ايام. بينما قاومت روسيا السوفياتية المقطوعة منذ البدء عن محيطها التدخل المسلح مدة 3 سنوات. و لقد تضاءلت ارض الثورة في بعض الاوقات الى حدود دوقية موسكو الكبرى القديمة. و لكن هذا كان كافيا لتصمد و تنتصر في النهاية.
و الاحتياط البشري ميزة اخرى هامة. ان الشعب السوفياتي الذي يتزايد بمعدل 3 ملايين شخص في السنة تجاوز تعداده 170 مليون نسمة. ان طبقة تضم حاليا 1.300.000 و لا يمكن للاختيار الاكثر صرامة على المستويين المادي و السياسي ان يستبعد اكثر من 300 الف. ان احتياطي الرجال المقدر ب 18 – 20 مليون رجل هو احتياطي يتعذر استهلاكه.
و لكن الطبيعة و الرجال لا يشكلان سوى المادة الاولية للحرب. اما "المقدرة" العسكرية فتتوقف قبل كل شيء على قدرة الدولة الاقتصادية. و لقد تقدم الاتحاد السوفياتي كثيرا في هذا المجال بالنسبة لروسيا القديمة. و كنا قد ذكرنا سابقا ان الاقتصاد السوفياتي المخطط هو الذي اعطى احسن النتائج في الحقل العسكري. و لقد ادى تصنيع المناطق النائية و في سيبيريا بصورة خاصة الى اعطاء مساحات الغابات و البراري الشاسعة اهمية جديدة. و مع هذا يبقى الاتحاد السوفياتي متخلفا. و لا يعوض عن ضعف مردود العمل و سوء نوعية المنتجات و ضعف وسائل النقل سوى الاتساع و الثروات الطبيعية و عدد السكان و ذلك بصورة جزئية. ان مقارنة القوى الاقتصادية لانظمة اجتماعية متخلفة في زمن السلم امر غير ملح و يمكن تاجيله – فترة طويلة و لكنها لا تدوم الى الابد – يتصرفات سياسية معينة و باحتكار الدولة للتجارة الخارجية على وجه الخصوص. اما في زمن الحرب فالامتحان يجري على ارض المعركة مباشرة و هنا يكمن الخطر. و تؤدي الهزائم عادة الى تبديل سياسي كبير و لكنها تعجز عن القيام دائما بانقلابات اقتصادية. و لا يمكن قلب نظام اجتماعي يتسم بمستوى رفيع من الثقافة و بثراء عظيم بواسطة اسنة الحراب. و كثيرا ما نرى المنتصرين على العكس يستخدمون اساليب و عادات المنهزمين عندما يكون هؤلاء اكثر منهم تطورا. و لا يمكن تبديل اشكال الملكية بالحرب الا اذا كانت متناقضة بشكل خطير مع قواعد البلاد الاقتصادية. و ستؤدي هزيمة المانيا في حرب مقبلة ضد الاتحاد السوفياتي الى سقوط هتلر و زوال النظام الراسمالي و لا يمكن ان نشك لحظة ان هزيمة تلحق بالاتحاد السوفياتي سوف يكون لها نتائج مشؤومة بالنسبة لقادته و نظامه الاجتماعي. ان عدم ثبات النظام الحالي في المانيا ناجم عن ان قواها الانتاجية تجاوزت منذ امد بعيد شكل الملكية الراسمالية اما عدم ثبات النظام السوفياتي فناجم عن ان قواه الانتاجية منخفضة جدا عن مستوى الملكية الاشتراكية. و قواعد الاتحاد السوفياتي الاجتماعية تهددها الحرب للاسباب ذاتها التي تجعلها ايام السلم بحاجة الى البيروقراطية و احتكار التجارة الخارجية اي لما تعانيه الى الان من ضعف.
فهل سيخرج الاتحاد السوفياتي من الحرب المقبلة دون هزيمة؟ لنجب بصراحة على هذا السؤال الواضح! لو كانت الحرب مجرد حرب عادية فان هزيمة الاتحاد السوفياتي اكيدة لان الامبريالية اقوى منه بكثير في مجالات التقنية و الاقتصاد و الفن العسكري. فاذا لم تشلها الثورة في الغرب فسوف تدمر النظام الذي ارسته ثورة اوكتوبر. ان الامبريالية تجريد عام لانها ممزقة بتناقضاتها الخاصة و لولا هذه التناقضات
هوامش:
1. حل ستالين الاممية الشيوعية في عام 1924.
2. الجمهورية الثالثة الفرنسية. و هي الجمهورية التي بدات عام 1870 و انتهت عام 1940. (المعرب)
3. لورد كورزون جورج ناتانيل (1859 – 1925) سياسي انجليزي وزير الخارجية من 1919 حتى 1923 وهو الذي خطط في 1919 الحدود الشرقية لبولونيا وهي الحدود الحالية ذاتها تقريبا. (المعرب)
4. تشيتشرين جورج فاسيليفيتش (1872- 1939) سياسي روسي و ديبلوماسي كان منشفيا في عام 1905 و طرد من روسيا عام 1908 ثم عاد اليها عام 1917 و انضم للبلاشفة. مساعد تروتسكي عندما كان مفوض الشعب للخارجية ثم حل مكانه.
5.جمهورية منغوليا الشعبية و تشمل اقليم منغوليا الخارجية. وهي جمهورية مستقلة منذ 1921. (المعرب)
6. ليتفينوف مكسيم مكسيموفيتش (1876 – 1951) سياسي روسي. مفوض الشعب للشؤون الخارجية من 1930 الى 1939 و سفير الاتحاد السوفياتي في الولايات المتحدة من 1941 الى 1943. (المعرب)
7. لافال، بيير(1883 – 1945) سياسي فرنسي تراس حكومة فيشي (1942 – 1944) ثم اعدم بتهمة الخيانة العظمى. (المعرب)
8. لويد جورج دايفد (1863 – 1945) سياسي انجليزي زعيم الاحرار. كان خلال الحرب العالمية الاولى وزير التسليح ثم رئيسا للوزارة. لعب دورا هاما في مباحثات معاهدة جنيف. كما كان من كبار منظمي التدخل ضد السلطة السوفياتية و ضرب الحصار على روسيا السوفياتية. (المعرب)
9. كان ذلك في عام 1920.
10. سوفوروف الكسندر (1729 – 1800) جنرال روسي ولد في موسكو قام بسحق الثورة البولونية و حارب ضد جيوش الثورة الايطالية.
11. توخاتشيفسكي ميخائيل (1893 – 1927) مارشال سوفياتي. قاد جيشا ضد البولنيين في 1920 ثم عين رئيسا للاركان العامة. و كان في الحقيقة من مؤسسي الجيش الاحمر. اتهم بالخيانة و اعدم رميا بالرصاص. (المعرب)
12. كان تروتسكي في ذلك الحين مفوض الشعب لشؤون الحرب و رئيس المجلس الاعلى للحرب.
13. تروتسكي بالذات. 14. فرونتزه ميخائيل (1885 – 1925) سياسي سوفياتي استلم مناصب عسكرية هامة و كان احد منظمي الجيش الاحمر. اظهر براعة في محاربة الروس البيض في عام 1919 – 1920. (المعرب)
15. في عام 1913 كان النبلاء يشكلون نسبة 89 بالمائة من الجنرالات الروس و 72 بالمائة من ضباط الاركان و 50 بالمائة من الضباط القادة. اما بقية الضباط فكانوا من الطبقة البرجوازية. (المعرب)
16. تروتسكي
17. مؤلف هذا الكتاب.
http://www.marxist.com/arabic/
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم
.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة
.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.
.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة
.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال