الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيران الانفتاح تسطو على وطن ما بعد العبور

ممدوح رزق

2009 / 12 / 26
الادب والفن


الكتابة عن حدث تاريخي بارز ستظل دائما نوعا من المغامرة تفرضها المقارنة الحتمية المنتظرة بين هذه الكتابة وبين الكم الهائل والمتنوع من الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت هذا الحدث من أجل تحديد إلى أي مدى حققت اختلافها وتجاوزها لما هو منجز فعلا .. لكنني في المقابل أرى أن المعايير المختصة بالوقوف على ما هو تقليدي وما هو مبتكر هي في الأساس معايير نسبية وشخصية بحتة وناتجة بالأساس عن رؤية صاحبها وخبرته الذاتية ووعيه بالعالم الذي شكلته تجاربه المختلفة وهذا ما يقودني بالضرورة للتأكيد على فكرة أن هناك دائما احتمال للدهشة تحمله كل كتابة تقارب موضوعا سبق مقاربته ربما آلاف المرات .

الحدث التاريخي في رواية ( فيران شارع سعادة ) للروائي ( عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل ) والصادرة مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب هو حرب أكتوبر وما تبعها من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية قادت مصر للدخول في ما يسمى ( عصر الانفتاح ) ، أما عن المغايرة فمن أهم مظاهرها في تصوري هي تخلص بطل الرواية الحاج ( سمير ) من الغضب الانفعالي الزاعق الذي تحول إلى سمة رئيسية معتادة لدى شخصية الجندي الذي عاد من الحرب ليصطدم بمتغيرات شرسة لم يتمكن من التعامل معها بأي قدر من الاستيعاب والتصديق .. بطل هذه الرواية شخص متأمل لا يتوقف عن المراقبة والتفكير ومن ثم طرح الأسئلة .. يترك أزمته الشخصية تقوده لاكتشاف أزمة الوطن الذي حارب من أجله ثم عاد ليجد نفسه غريبا عنه .. مقهى ( حريتي ) كان بالنسبة للحاج ( سمير ) نقطة اتصاله بواقع ما بعد الحرب والتعرف عليه ومحاولة فهمه حيث يجلس هناك عم ( زغلول حمام ) العجوز بالمعاش و( سعيد السلكاوي ) أحد سماسرة المرحلة المتاجرين بكل شيء .

ظلت ذاكرة المعركة نشطة وحاضرة على خلفية التتابع السردي الذي تحركت في أعماقه مسيرة الحاج ( سمير ) بدءا من متابعته لمشهد اغتيال السادات مرورا بإنصاته لحكايات عم ( زغلول حمام ) عن الانجليز الذين عمل معهم بالقنال في الأربعينيات وكذلك مراقبة ( نبيل ) الجالس في المقهى لكتابة الروشتات التي يسرح بها المتسولون وبيع عقود عمل وجوازات سفر مضروبة وتأشيرات مزورة وأيضا مراقبة الشابين الذين خرجا من السجن بعد أن عجزا عن سداد قروض بنوك التنمية ليشغلا أوقات فراغهما بكتابة القصص والشعر واحتراف سرقة الكتب من المكتبات العامة ومعرض الكتاب ثم زواجه من ابنة عم ( سعيد السلكاوي ) التي عجز عن التواصل الإنساني والعاطفي معها وانتهاء باحتلال الفئران لشارع سعادة .. تدخل مشاهد المعركة كان أشبه بانتزاع فوري وتلقائي للمرآة التي تليق بمعطيات اللحظة الحاضرة والتي تسمح لها بتفحص امتدادها القادم من الماضي .. الامتداد الذي لا يعني هنا الملائمة المنطقية بين تفاصيل تتقدم باتساق طبيعي عبر الزمن بل على العكس يقوم بتعرية القطيعة والانفصال بين ما كان وبين ما لم يكن يجب أن يحدث :
( ثم تملكه شعور بأن تصديها ـ من وراء الباب ـ لهجومه ليس فيه رائحة الخجل ، بل ولا أخلاق فيه ، ومع استمرارها في الدفع من وراء الباب ، واستمراره في الدفع من أمام ، فجرت الحركة في ذهنه صورا من المواقع الثابتة ، والمواقع المتحركة ، والعديد من وجوه الجنود الذين كانوا يحفرون بأظافرهم أسماء من يحبون على جدران الخنادق ، كأنها أجنة ، تعرف أنها ستشب في ميلاد يخرج من وراء الستائر الرملية ، ملامح عديدة ، أشلاء جثث لا تزال عالقة ببصره ، مشكلة أخرى ، ليته يعرف إذا كان موقف زوجته سيغوص في الذاكرة أم سيظل عالقا ببصره ؟ )

حملت الفيران في الرواية قيمة رمزية موفقة للغاية وتكمن في إجادة اختيار كائن بارع في التسلل والاختباء والتسلق والتناسل في الخفاء والالتهام والتخريب كي يكون المعادل الموضوعي للصوص وسماسرة وأثرياء التهريب الجدد الذين كونوا ثرواتهم بأسهل وأسرع الطرق وعلى هذا تجاوزت الفيران حدود الرمزية الشخصية إلى أن تصبح أيضا رموزا للتشوه والفساد الاجتماعي والثقافي ولانهيار القيم الأخلاقية لصالح السلطة الجشعة للمستثمرين واستغلالهم لكل شيء ولمقتضيات المصالح المادية وحسابات الربح والخسارة التي تأكل في طريقها أي اعتبار إنساني :
( ما كان يخشاه الحاج " سمير " أن تمر دورة صغيرة من الزمن ثم تلد الأرض جرذانا أخرى تغذيها رغبة السطو في أثناء كمونها في الجحور قبل أن تجري عمليات استكشاف واسعة بإخراج رؤوسها من الشقوق ودون أن يفطن أحد إلى أنها تستند إلى رصيد الخبرات الموروثة ، ثم يفاجأ أهالي شارع سعادة بنسل جديد يعرف جيدا ممارسة الطموح وتسلق الجدران )

أكثر ما استمتعت به شخصيا هي تلك الصفحات الرائعة التي راح خلالها عم ( زغلول حمام ) يستعيد التاريخ الإنساني الغاية في الحميمية والدفء لمقهى ( حريتي ) حيث الحنين الذي أنجذب إليه دائما بنشوة خالصة خصوصا لو كان يسترجع ذكريات تتعلق بمكان يعرفه كل من يعيش في مدينة ( المنصورة ) وهو مقهى ( حريتي ) :
( أغمض عينيه هنيهة ، استجاب لما تفرزه شعيرات الذهن وهي تضع أمامه عصارة من ماضيه ، زبائن الزمن القديم ، في الخمسينيات ، كانوا يجمعون بين حب الحياة والناس واللوحات ، وبين حبهم للطيور الملونة والحيوانات الأليفة ، دائما ، طاقة لا تنفد من الحب ، في مكان ظل من الطبيعي ، يتجدد كل يوم بالنضارة والنظافة )

ثمة علاقة فجرتها صدمة اكتشاف الحاج ( سمير ) لاحتفاظ زوجته بالهيكل العظمي لأمها في دولاب .. علاقة بين هذه المفاجأة وبين الكلب الذي كان يجري في السوق من صاحبه وتمنى الحاج ( سمير ) لحظتها صداقته وهو سائر بصحبة ( السلكاوي ) ، وبين مدرس اللغة الفرنسية الذي رأى حبيبته تنام في أحضان ابن عمها فذهب عقله وراح يمشي عاريا في الشوارع ، وبين ( نفيسة ) شقيقة الحاج ( سمير ) التي أخفى عنها خبر زواجه خوفا على قلبها المريض من الفرح .. العلاقة التي تربط بين هذه الأشياء هي التواطوء القدري بين سطوة الموت وغياب الأمان وحضور الخيانة والخوف باعتبارك مهددا من كل شيء حتى البهجة .. أن تظل زوجة الحاج ( سمير ) محتفظة بالهيكل العظمي لأمها لأنه لا يمكنها التفريط فيه وهو موقف نادر في الرواية العربية في رأيي فهذا يرشدك بالتالي لمصير الأمنية الإنسانية البسيطة التي احتوتها روح ذلك العائد من قسوة الحرب وآلامها ومراراتها الوحشية ويريد أن يعوّض أي مما فقدته نفسه وأن يلحق عمره بأي سعادة في الدنيا عبر زوجة تشاركه الحياة .. الزوجة التي جلبها له ( السلكاوي ) سمسار أو فأر الانفتاح والتي لا تكتفي بجفاءها وقطع الطريق بينه وبين السكينة الجسدية والنفسية بل وتحتفظ أيضا بالموت كتذكار ثمين أو كعضو أسري :
( أيوجد إنسان سوي يفتقد صبيحة يوم فرحه حفار القبور ؟ .. امرأة لا تهمل طقوس الموت في ليالي الفرح .. امرأة تخلط الليل بالنهار .. امرأة تغطي على أجراس الرغبة بأصوات الخداع )
هذا ما يمثل سطوة الموت التي ستحرم من كان يحارب من أجل الحياة من الحياة التي كان ينشدها ويقاتل في سبيل تحقيقها .. لم يعد باقيا لديك سوى أن تتمنى صداقة كلب ليقينك بأنه سيكون قطعا أكثر وفاء وإنسانية من بشر هذا الزمن .. أن تراقب نفسك في مأساة الآخرين الذين لا يختلفون عنك في شيء .. لافرق بينك وبين ذلك الذي يسير في الشوارع عاريا بسبب الخيانة .. أنت تعرضت للخيانة أيضا وبالتأكيد أنت عاري أمام الناس بطريقة أو بأخرى .. آخر ما تبقى لك في العالم وآخر ما ينتمي إلى ماضيك ويربطك ببداية وجودك ومتجذر في تكوينك الشخصي أصبح أشرس تهديد تواجهه .. تواجه فقدانه الذي يعني ضياعك بالضرورة ولهذا هو الخطر الأكبر بسبب قيمته التي لم تعد تملك قيمة آخرى سواها : الشقيقة المريضة التي تعود دائما إليها بعد كل إنكسار والتي لا يمكنك أن تشفيها أو تجعلها تشاركك مناسباتك الهامة .. التي لا تعرف كيف تخبرها بأنك لا تفهم ماذا حدث كي لا تحزن عليك وتتركك ميتة .

* * *
أخبار الأدب
20 / 12 / 2009









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي