الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضائعة بين عالمين

نضال الصالح

2009 / 12 / 26
الادب والفن


إتصلت بي مديرة قسم رعاية الشابات والشباب في وزارة التربية والتعليم السلوفاكية ورجتني أن أزورها في مكتبها. القسم يرعى طالبات وطلاب المدارس ويقوم على حل مشاكلهم النفسية في المدرسة وفي البيت. العاملون في القسم، جلهم إختصاصيون في علم نفس وعلم إجتماع، يقومون بزيارة المدارس وبالتعاون مع المدرسة والأهل يقومون بمحاولة حل مشاكل الطلاب ذوي السلوك الشاذ مثل المشاغبة في الصف وخارجه وعدم التركيز والتشويش على الآخرين وإلى آخره من المشاكل الطلابية.
قمت بزيارتها في الوقت واليوم الذي إتفقنا عليه. إستقبلتني المديرة في مكتبها وكان معها في الغرفة رجل وإمرأة غريبان وصديقة لي، إخصائية علم نفس، تعمل في نفس القسم. رحبت بي المديرة وشكرتني على تلبية دعوتها ثم قدمت لي الغريبين. عرضت علي القهوة أو الشاي فطلبت كأسا من الماء.
قالت المسؤولة موجهة الكلام لي:" عندنا مشكلة نريد أن تساعدنا في حلها وسأدع الوالدين،وأشارت إلى الرجل والمرأة الغريبين، بأن يشرحاها لك. إنها قضية تتعلق بالدين ولا يسع قسمنا المساعدة في هذا المجال ولذلك وبناء على إقتراح صديقتك دعوناك للمساعدة."
نظر الزوج إلي وقال:" عندنا إبنة وحيدة، كانت دائما قرة أعيننا ومصدرا لفخرنا. دراستها في المدرسة وسلوكها جيدان ومحل تقدير من المعلمين والمعلمات. قبل عدة أشهر تعرفت على مجموعة من المسلمين، أثروا فيها فتحولت إلى الإسلام وما كنا سنعارض ذلك لو بقي الأمر عند ذلك. أصبحت تعادينا، تتهمنا بالإلحاد والكفر، لا تأكل أكلنا ولا تشرب شربنا. لبست الحجاب وتحولت إلى مشاكسة وعنيدة، ليس في البيت فقط ولكن في المدرسة أيضا وتأخرت في دروسها حتى أصبحت مزعجة للمعلمات والطالبات وبلغ الأمر حدا أنها إستلمت من المدرسة إنذارا. لم نعد نستطيع الحديث معها، إنها تصرخ في وجهنا وتعاملنا معاملة سيئة. ترفض الإحتفال معنا في عيد الميلاد وتعتبره كفرا، ترفض الجلوس معنا وتعزل نفسها عنا. لم نترك وسيلة إلا وجربناها معها ولكننا فشلنا ولا ندري ماذا نفعل. إنها إبنتنا الوحيدة."
بعد مداولة بيننا إتفقنا على أن أزورهم في البيت وإتفقنا على موعد تكون فيه البنت موجودة. ذهبت مع صديقتي الإخصائية النفسية. إستقبلنا الوالدان ودعونا إلى غرفة الجلوس. كان يبدوا عليهما التعب والحيرة. جاءت الفتاة، أومأت برأسها وجلست بعيدا عنا. كانت تلبس حجابا يغطي شعرها ورقبتها ولكنه لم يخف جمالها. مددت يدي لها فرفضتها وجلست صامته وفي عيونها علامات التحدي. أخبرتها بأنني مسلم فأجابت بأنها تعرف وعلقت بأن الشباب أخبروها أنني خرجت عن الإسلام الصحيح، فلم أعلق على ذلك.
سألتها إن كانت قد قرأت القرآن فأجابت، قليلا. قلت لها هل تعلمين بأن إطاعة الوالدين فرض من فروض الإسلام وأن إطاعتهما تأتي بعد إطاعة الله، والقرآن يقول:" ولا تقل لهما أف" وهي أبسط العلامات على الرفض والإستنكار؟" أجابت بأنه لا طاعة لكافر. فشرحت لها بأن القرآن يعتبر المسيحيين أهل كتاب ولا يعتبرهم كفار والنبي محمد تزوج مسيحية. قالت بأن والداها لا يحترمان دينها وضربت مثلا بأنهما يمسكان القرآن وهما غير طاهرين. طلبت منها أن تحضر القرآن فأحضرت واحدا باللغة العربية وآخر مترجم باللغة التشيكية. قلت لها مشيرا إلى القرآن: "إنه كتاب مطبوع في مطبعة، يطبعه ويصف حروفه ويقوم على تجليده عمال، بشر، فهل تعتقدين بأنهم أثناء عملهم يقومون بالإغتسال والتطهر؟ ثم أضفت قائلا:" يا بنيتي: " أنا أعلم أن بعض الدول العربية كانت تطبع القرآن في بلاد غربية ومنها التشيك."شرحت لها بأن معنى "ولا يمسه إلا المطهرون" أنه لن يفهمه ويتقبله إلا طاهرو القلب والنفس."
تطرقنا إلى رفضها الإشتراك مع العائلة في عيد الميلاد فسألتها: " ما الكفر في أن تجلس العائلة في جو هادئ عائلي بجانب شجرة خضراء تدل على الخير الدائم مزينة بالشموع والرذاذ الأبيض ليدل على الشتاء والثلوج، يأكلون مع بعضهم البعض في جو عائلي ويتبادلون الهدايا؟" ثم تابعت:" عيد الميلاد ليس له علاقة بالمسيحية لأننا لا نعرف متى ولد المسيح وهو عيد قديم أخذته روما عن الفرس ثم حولته إلى عيد مسيحي. لقد إحتفل الشيوعيون به أيام النظام الإشتراكي ودعوه عيد العائلة، عيد المحبة والهدوء وهو فعلا كذلك ولا يوجد فيه أي طقوس تدل على الكفر والإلحاد.
تحدثت عن أكل الخنزير فعلقت والدتها بأنهم لم يجبروها على أكله، حتى أنهم عرضوا عليها أن يشطبوه من قائمة طعامهم وأن لا يطبخوه إكراما لها.
تحدثنا وتحدثنا وشعرت كأنها إسطوانة تدور على نفسها وحاسوب مبرمج بنظام يرفض قبول أي من المعلومات المعارضة أو الجديدة. كلما خرجنا من موضوع ظننت أنه قد فند وحل، خرجت علينا بآخر جديد. والداها بالنسبة لها "هم"، وهم هذه تعني المجهول، الآخر، المرفوض، الكافر. كان والدها يقاطعنا ويقول: " إن كان الإسلام كما يقول الدكتور نضال فأنا أول المسلمين." ولكن لا شيئ نفع، فهي آمنت بما قاله له "الشباب" في حلقاتهم التدريسية.
أنهيت حديثي معها ببعض الكلمات، قلت لها:" لم آت هنا لأقنعك بشيئ. إنخفاض مستواك الدراسي في المدرسة وشكوى إدارة المدرسة منك بعد أن كنت في الطليعة يدل على عطل ما وحتى هذا هو من شأنك، ولك أن تؤمني بأي شيئ تريدين وأنت حرة ولا أحد يستطيع أن يضغط عليك، ولكنني حضرت لأخبرك بأن إرضاء الوالدين هو فرض عليك وإن قمت بإغضابهم فلا بك ولا بإسلامك، وإذا قال الشباب لك غير ذلك فأنا لست من دينهم ولا على إسلامهم". ثم نهضت فقدمت لها يدي مودعا فترددت في أخذها ثم صافحتني بخجل وإرتباك.
خرجت مع صديقتي الإخصائية في علم النفس وتوجهنا نحو السيارة وإذا بالفتاة تلحق بنا وتطلب مني كلمة على إنفراد. قالت بصوت خافت متردد: " أنا ضائعة بين عالمين ولا أدري ماذا أعمل." قلت لها:" إستعملي عقلك وأسألي قلبك ثم قرري، ولكن مهما قررت فتذكري ما قلته لك،" إن إرضاء الوالدين هو من إرضاء الله." ثم جلسنا وصديقتي في السيارة ورحلنا وهي ما زالت واقفة ضائعة على عتبة عالمين.

د. نضال الصالح/ فلسطين









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال