الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوظيف السياسي للنبوءات التوراتية: ملاحظات في عبثية خطابنا

مسعد عربيد

2009 / 12 / 28
القضية الفلسطينية


مقدمة
لماذا نناقش الخرافات التوراتية اليهودية؟

لا تكمن جذور الصراع العربي ـ الصهيوني في الابعاد والعوامل الدينية، بل في المصالح والتناقضات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية للاطراف المتصارعة. فلسنا، إذن، امام صراع ديني وإن كان يتخذ لبوس الدين في كثير من الاحيان ولا يخلو من تجليات دينية على مستوى الحدث وتسييس الدين والتفاعلات السياسية والاجتماعية، بل إننا أمام مشهد تتداخل فيه وتتفاعل ديناميكيتان أساسيتان:

1) التوظيف الصهيوني للديانة اليهودية والخرافات الدينية الغيبية (النبوءات التوراتية تأويلاتها اليهودية ـ الصهيونية والمسيحية البروتستانتية )، والتي وُظفت في التأسيس لادعاء "الحق الديني والتاريخي" لليهود في فلسطين؛

2) التلقي العربي لهذ المقولات والتعامل معها عبر الخطاب الديني والاعلامي والسياسي. وسيكون الرد الديني محور النقاش الرئيسي في هذه المقالة لما له من حضور دائم وعميق في مجتمعاتنا وبين جماهيرنا، ومن حيث قدرته على إختراق الوعي الشعبي والتأثير في تكوينه وتحديد مفرداته وأفكاره وأدواته.

في إطار هذا الفهم للابعاد الدينية ودورها في الصراع العربي ـ الصهيوني، فان تناولنا للخرافات الدينية والنبوءات التوراتية، قد يستدعي تلمس بعض الجوانب الدينية واللاهوتية:
□ التي لا نتناولها من منظور ديني، بل من حيث توظيفاتها السياسية، وبقدر ما تعيننا على فهم إستراتيجية العدو التي وظفتها الحركة الصهيونية في كسب الدعم الجماهيري اليهودي (في التجمعات اليهودية الموزعة في أنحاء العالم) والدعم الرسمي والشعبي في الغرب الراسمالي (المجتمعات المسيحية الغربية)؛
□ وبقدر ترابطها بالمشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين والمشروع الامبريالي في فضائه الاوسع ضد الوطن العربي؛
□ وأخيراً، بقدر ما تسهم في إستشراف إستراتجية المقاومة للمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني.
□ وعليه، فلسنا بصدد المعالجة اللاهوتية لهذه النبوءات، لبس إنتقاصاً من أهمية وضرورة هذه البحوث في فهم العدو ومكوناته الثقافية، بل لاننا سنحصر نقاشنا في التوظيف السياسي الصهيوني لهذه الخرافات، من جهة، وتعامل خطابنا الديني في رده عليها، من جهة اخرى.

وتجدر بنا الاشارة، قبل الولوج الى موضوعنا، الى ملاحظة هامة وهي ان الصهيونية لم تُوظف النبوءات التوراتية فحسب، بل سعت، منذ المراحل الجنينية للفكرة الصهيونية السياسية، الى إستخدام كافة الاتجاهات والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية واللاهوتية الاوروبية في خدمة وتبرير سياساتها ولم تتورع، في مسعاها هذا، عن إستغلال الفكر الثوري والاشتراكي وحركاته المتنامية في ذلك العصر. إلاّ أن هذا يجب الا يعمينا عن رؤية الجوهر الاستيطاني والعنصري والفاشي للايديولوجيا الصهيونية.

سنبدي في الجزء الاول بعض الملاحظات النقدية حول عبثية الرد الديني على النبوءات التوراتية، ننتقل بعدها الى محاولة تفسير هذه الخرافات ـ متخذين كذبة "العودة" الى "أرض الميعاد" كنموذج ـ من خلال قراءة هذه النبوءات من منظور توظيفها لخدمة الاهداف السياسية للصهيونية وفي سياق تاريخ الجماعات اليهودية وتطورات حياتهم عبر القرون.
(1)
عبثية الرد الديني

تكمن مواطن الخلل الاساسية في الخطاب الديني حيال المقولات اليهودية ـ الصهيونية في جوانب عديدة، نذكر أهمها:

1) مخاطر هذا النهج على مستقبل الصراع العربي ـ الصهيوني ومشروع مقاومته.
2) عجز الخطاب الديني عن صياغة برنامج عملي: فالخطاب الديني لا يمكن ترجمته الى فعل بشريٍ واعٍ ومنظم، وبالتالي تتعذر صياغة برنامج نضالي عملي.
3) فشله في إحراز نتائج ملموسة على عدة مستويات:
ـ فقد فشل في توعية الجماهير العربية وتعبئتها وتحريضها وتنظيمها في النضال ضد العدو الصهيوني، بل كثيراً ما عمل على إيقاظ المشاعر الدينية العنصرية والنزعات الطائفية.
ـ لم يساهم في التأسيس لمشروع مقاومة للاحتلال والمشروع الصهيوني والراسمالي برمته (دون التنكر لنضال الحركات الاسلامية المقاومة في لبنان وفلسطين، والتي تكافح ضد الاحتلال والمشروع الصهيوني على أسس وطنية وقومية لا على مرتكزات الخطاب الديني).
ـ لم يوفق الخطاب الديني في كسب التأييد العالمي لقضايانا سواء على المستوى الرسمي او الشعبي.

نهج الخطاب الديني

يعجز الخطاب الديني عن تحليل الواقع القائم وتفسير تطوراته ومتغيراته لان التفسير الديني بطبيعته تفسير نصوصي يفتقر الى التحليل المادي التاريخي ويرتكن، في فهم الواقع والطبيعة والمجتمع والتاريخ، الى قوى غيبية ومشيئة ربانية وتفسيرات ميتافيزيقية مثالية. وهي أدوات لاتاريخية تعجز عن فهم الصراع في بلادنا وطبيعة تناقضاته ومكونات العدو الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني.

1) يخفق الرد الديني على الادعاءات اليهودية ـ الصهيونية في فهم وتفسير أوضاع الجماعات اليهودية وتطور الحياة اليهودية في المجتمعات التي عاشوا فيها. ولهذا السبب فانه يخفق أيضاً في فهم السياق الذي نشأت في إطاره الصهيونية وعلاقتها بهذه الجماعات بكافة فئاتها (الفقيرة والبرجوازية، المندمجة في المجتمعات التي كانت تقيم فيها أو المنعزلة عنها، المتدينة أو العلمانية...).

قد يكون الجهل المعرفي لهذه الاوضاع احد الاسباب الهامة وراء ذلك، إلا انه حتى عندما يتوفر الكم المعرفي والمعلوماتي، فان الخطاب الديني لا يرقى الى المنهج التحليلي لفهم التاريخ والقوى المحركة له كديناميكية حيّة والى فهم التناقضات بين القوى الاجتماعية ـ الاقتصادية كعامل أساسي في صنع التاريخ وحركته.

2) كما يخفق الخطاب الديني في فهم الدور الذي لعبته الادعاءات اليهودية ـ الصهيونية في إطار تطور حياة وأوضاع الجماعات اليهودية عبر العصور وعبر المجتمعات. ومن هنا، وللسبب ذاته، فانه يفشل في فهم الدور الذي لعبته الادعاءات اليهودية ـ الصهيونية في نشوء الدعوة الصهيونية وتبلورها كحركة سياسية تدّعي تمثيل المصالح اليهودية وتعمل على حل المسألة اليهودية باقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين، من جهة، وتحالف الصهيونية مع الراسمالية العالمية كوليدة وأداة لها، من جهة اخرى.

3) بالاضافة الى ان الخطاب أو التفسير الديني لا يلتقط ولا يعير الاهمية لتلاقي المصالح وتحالف الصهيونية مع الراسمالية العالمية.

لهذا الاسباب وغيرها، يعجز الرد الديني عن تفسير جذور وأسباب الصراع العربي ـ الصهيوني وحلوله تفسيراً موضوعياً بل نراه ينسج من حوله الاوهام والغيبيات.

مخاطر نهج الخطاب الديني

أ ـ تديين الصراع وتسييس الدين: للاسباب المذكورة، فان الرد الديني يقدم فهماً مشوهاً لاسباب وجذور الصراع ويتوه في مطلقات غيبية تؤدي الى الانزلاق في تديين الصراع أي التأسيس لفهم الصراع في بلادنا على أنه صراع ديني، فيتحول صراعنا مع الصهيونية وكيانها الى صراع مع اليهودية واليهود، أما صراعنا مع الامبريالية الاميركية والراسمالية العالمية فيصبح حرباً ضد النصارى والصليبيين والكفّار. ان السقوط في فخ تديين الصراع في بلادنا لهو كارثة، بل هو أكبر المخاطر التي تحيق بنضالنا ومستقبلنا، ناهيك عن ان الصهيونية والغرب الراسمالي دأبا لعقود طويلة على تغذيه وتسعير مثل هذه المفاهيم.

ما نود ان نخلص اليه هو ان مثل هذا النهج يؤدي الى طمس وتشويه طبيعة الصراع ومعسكر الاعداء؛ والى تشخيص العدو على أساس مكوناته الدينية. ويفضي هذا بدوره الى اعتبار ان صراعنا هو مع اليهودية (كديانة) واليهود (كأتباع لهذه الديانة) مما يحرف بوصلة نضالنا عن العدو الرئيسي: الصهيوني. كما ام مثل هذا الوهم يفرش الارضية للتمييز على أساس الدين وتسعير النزعات والاحقاد الطائفية. وعليه، فانه في أجله البعيد وفي رده الديني على "يهودية" الدولة الصهيونية، يفضي الى طرح الحلول الدينية والطائفية البديلة في بلادنا والدعوة الى إقامة كيانات "دينية" كنقيض للكيان الصهيوني، تقوم هي ايضاً على حوامل دينية ونزعات طائفية. ولا يخفى ان مثل هذه الدعوات تلقى الكثير من "الترحيب" والصدى من العديد من القوى والنزعات كما انها تجد في واقعنا الراهن تربة خصبة لها.

ب ـ عبثية السجال الديني: دون الانتقاص من الجوانب الدينية واللاهوتية والفكرية التي تهم المعنيين والباحثين بهذا الشأن، إلا أن الرد الديني على الادعاءات اليهودية ـ الصهيونية والدحض اللاهوتي للنبوءات التوراتية من منظور توظيفاتها السياسية، يجرنا، بحكم كونه جدلاً دينياً، الى المحاججة الدينية المعاكسة ويوقعنا في فخ السجال الديني العقيم وتصوير صراعنا مع الصهيونية والغرب الراسمالي على أنه صراع ديني.

وتتجلى عبثية مثل هذا النهج في انه يحرمنا من فرصة تقديم نقد موضوعي تاريخي يستند الى وقائع التاريخ وحقائقه، إضافة الى أنه يخلق الانطباع باننا نعادي اليهودية كعقيدة دينية مهما حاولنا تفادي هذا الانطباع الذي تحرص الدعاية الصهيونية دوماً على تعزيزه. ونكون بذلك قد قدمنا للصهيونية سلاحاً مجانياً وإضافياً لإلصاق تهم العنصرية والشوفينية والتعصب الديني بنا وبنضالنا وبقضايانا العادلة. فالعدو الصهيوني غير معني بمثل هذا الجدل الذي مرّ عليه أكثر من قرن، بل لعله معني بالمزيد من إلهائنا وحرفنا عن المعارك الرئيسية.

بالرغم من أن العديد من مفكري الحركة الصهيونية وقادتها السياسيين، بما فيهم مؤسسها ثيودور هرتسل، كانوا من العلمانيين والملحدين، فقد أتقن الصهاينة توظيف الدين ومقولاته في خدمة مشروعهم منذ بداية الفكرة الصهيونية، ولاحقاً في تغذية الهجرة والاستيطان الصهيوني لفلسطين. ولم يتوقف هذا التوظيف يوماً حتى بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، وما زلنا نشهده يومياً في نهب الارض العربية وبناء المستوطنات الصهيونية في مرتفعات الضفة الغربية المحتلة. ولم يتواني الصهاينة وحاخاماتهم يوماً عن إستحضار كل ما اوتوا به من أساطير توراتية لتبرير جرائمهم.

أما دحضنا ومحاججاتنا لمقولاتهم الدينية على مدى قرن من الزمان، فقد ذهبت أدراج الرياح، لانهم لم يأبهوا يوما بها. ولعل ما قاله الحاخام ياكوف سافيرونقلته وكالات الانباء (30 مايو 2009) يعبر عن هذا بجلاء: "ان الانتقادات الدولية للاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية" سخيفة لان الله هو الذي وعد اليهود بهذه الأرض وعلى العرب ان يرحلوا الى مكان آخر"، ثم أضاف: "ان هذه الأرض هي ارض يهودية - انها ديارنا".

أما السجال الديني مع الغرب المسيحي فهو هدر للطاقات لا جدوى منه، بالرغم من الترويج الذي نشهده منذ سنوات ل"حوار" الاديان والثقافات. فرأس المال لا دين له ولا ثقافة سوى الربح والربح الاقصى. أما السياسة، فهي مصالح إقتصادية وسياسية واستراتيجية لا تجدي فيها جلسات الحوار الصوفية. وبعد هذا فانه لا يهمنا الكلام المعسول من مفردات الحوار والتسامح ... الى آخر تلك المعزوفة الممجوجة. الغرب الراسمالي في مستواه الرسمي، مستوى قواه المهيمنة وطبقاته الحاكمة، معني فقط بمصالحه الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية: نهب ثروات الشعوب والهيمنة على مقدراتها. أما على المستوى الشعبي، مستوى الثقافة الشعبية المسيحية الغربية، فان الغرب يصدق ما يقوله الصهاينة وحاخاماتهم. والى أن نعود الى هذه المسألة لاحقاً، نكتفي الآن بالقول بان الغرب قد إستدخل المقولات الدينية اليهودية في معتقداته الايمانية وشعائر عبادته كما في ثقافته ومنظومة قيمه فأصبحت هذه المقولات احدى المكونات الهامة لهويته الثقافية.

ملاحظة في مصطلح "الغرب الراسمالي"

لا ينطلق مفهومنا "للغرب الراسمالي" من مفهوم عرقي او عنصري أو إثني او شوفيني. بل اننا نستخدم مفردة "الغرب الراسمالي" كمصطلح سياسي من منطلق فهمنا للتناقض الرئيسي في بلادنا على انه تناقض بين مشروعين متناحرين: (1) المشروع التحرري ـ التنموي ـ القومي العربي، و(2) والمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني الذي يسعى منذ ما ينوف على قرنين من الزمن الى الهيمنة على بلادنا وشعوبنا بمقدراتها وثرواتها. وعليه، فان استخدامنا لمفردة الغرب الراسمالي يدلل الى مستويين:
أ ـ الغرب الرسمي: بطبقاته الحاكمة وقواه المهيمنة التي تقود مشروع الهيمنة على بلادنا وشعوب العالم الثالث والعالم باسره.
ب ـ الغرب الشعبي: ولا نقصد الانسان والفرد الغربي، بل ما يتضمنه ذلك من ثقافة شعبية ودينية ونظم قيمية وتاريخ وتراث ...الخ. وهذا التحديد لا يعني معاداة الآخر الغربي المسيحي ولا يلغي وجود فئات وقوى سياسية واجتماعية مؤيدة لنضالنا وقضايانا، بل هو يبقي الباب مفتوحاً كي نلتقي مع هذه القوى ونحاورها ونناضل معها ولكن على ارضية برنامج مشترك يقوم على مبادئنا وثوابتنا الوطنية والقومية ويخدم قضايانا العادلة.

تحديات التعامل مع الغرب الراسمالي
مركزية اليهود واليهودية في الثقافة الغربية

بدءً، تجدر الاشارة الى ضرورة التمييز بين المقولات التوراتية لدى اليهود كما وردت في الديانة اليهودية، والمقولات الانجيلية (المسيحية) أي تلك التي تشمل التأويلات والتفسيرات (الحَرْفية) للمقولات التوراتية لدي المسيحيين وعلى وجه الخصوص أتباع الحركات والطوائف البروتستانتية.

وتنبع أهمية المقولات الانجيلية هذه من أنها تُعتبر أحد المنابع الرئيسية للثقافة السائدة في الغرب. وقد تغلغلت هذه المقولات، على مدى قرون طويلة، الى الوجدان الغربي ووعيه وثقافته الشعبية السائدة وأصبحت، في نظر الاغلبية الشعبية من المواطنين، "مسلمات" لا يرقى اليها الشك والتشكيك وليست قابلة للجدل أو التساؤل. ومن أهم تجليات هذه المقولات في العقلية والوعي الغربي هو تفرد اليهود وخصوصياتهم كشعب الله المختار وحقهم في العودة الى الارض التي وعدهم الله بها.

من هنا ندرك ان "مركزية" الموقع الذي يحظى بها اليهود والادعاءات اليهودية في الخطاب والثقافة الغربيين، تعود في جزءٍ هامٍ منها، الى العقيدة المسحية في المجيء الثاني للمسيح من أجل الخلاص البشري وإشتراط مجيئه هذا بعودة اليهود الى "أرض الميعاد" وفق المشيئة الربانية لتحقيق هذه النبوءة. بهذا المعنى، فان خرافة العودة توضح أهمية هذه المقولة ودورها المركزي الذي يحظى به اليهود في الوجدان الغربي، وسيظل اليهود يحتلون هذا الموقع في الثقافة الغربية الى أمدٍ طويل، حيث ان المجيء الثاني للمسيح مرتبط بعودتهم الى فلسطين.

من هذا المنطلق فان الغرب يرى الصهيونية كحركة يهودية جاءت لإحياء الدين والتراث اليهوديين، وكآلية ووسيلة لتحقيق النبوءات التوراتية وتجسيد الحلم اليهودي في العودة. ومن هنا فان الغرب يرى ان الصهيونية فكرة وحركة قديمة قدم التاريخ.

هذا هو باختصار تفسير المسيحية وخصوصاً البروتستانتية لمقولات جاءت في التوراة ثم تكررت بمجملها في العهد القديم من الكتاب المقدس للمسيحيين.

خطابنا وخطابهم:
أين نجحوا وأين أخقفنا؟

لقد أتقن الخطاب الصهيوني استخدام وتجيير المفاهيم الغيبية والاساطير التوراتية لتحقيق مشروعه فأدخلها الى وعي اليهودي وإستدخلها هذا الاخير كوسيلة للخلاص اليهودي (الفردي والجماعي)، وتحقيق "الحلم اليهودي" في اقامة "الوطن القومي" في فلسطين، والتخلص من الاضطهاد "الازلي" لليهود. ولم تنجو من هذا الوعي المشوه سوى القلة القليلة التي تعارض الصهيونية على خلفيات متعددة من لاهوتية الى علمانية وسياسية وايديولوجية. أما الكثرة فقد إبتلت بهذا الوعي المشوه وتجسيده المادي في الكيان الصهيوني ومقولة "حق اسرائيل في الوجود"، فعجزت دون إستثناء عن تجاوز هذا "الخط الاحمر" بغض النظر عما أتت به من تبريرات وفذلكات تقدمية ويسارية وإشتراكية وماركسية وتروتسكية وغيرها. لقد فرشت الدعوة والدعاية الصهيونية في ذهن ووعي اليهودي، والى حد ما وعي المسيحي الغربي، (1) الارضية لفهم براجماتي لمصالحهم إستدخله كل من اليهودي والغربي المسيحي، كل في سياقه، حتى بلغ مواطن الوعي والوجدان (سواء كانت هذه المصالح شخصية أو جمعية، طبقية او أجتماعية أو اقتصادية، او تلبية لرغباتهم او قناعاتهم العقائدية والدينية، أو دغدغة لمشاعر النفي والمنفى والحنين الى صهيون...الخ)، (2) كما ان الصهيونية قدمت لهم مشروعاً وبرنامجاً (سياسياً وتنظيمياً وعملياً) لتجسيد هذه المصالح.

نخلص من هذا ان الصهيونية نجحت عبر سنوات الاستيطان وبناء الكيان الصهيوني، في المقاربة المستديمة بين الفكرة والمشروع الصهيونيين من جهة، ووعي اليهود من جهة اخرى (من حيث انها رأت فيهم مادة الاستيطان ووقود المشروع الصهيوني)، وخلقت الآليات لتضليل أتباعها وصهرهم في تنظيمات وجمعيات شحذت جهودهم في خدمة المشروع وأفكاره "ومثله" (نموذج الكيبوتس والهستدروت وغيرهما من آليات التلقين والعمل التنظيمي والدعاوي).

ولعله من نافلة القول تكرار مقولة ان المشروع الصهيوني لم يكن ليحظى بالنجاح دون توظيف العوامل المحلية والاقليمية (في اوروبا الشرقية والغربية) والدولية، ودون التحالف والتلاقي المصلحي (الطبقي والاقتصادي والسياسي) بين القوى البرجوازية اليهودية والحركة الصهيونية من جهة، ومثيلاتها من القوى الاستعمارية والحاكمة في اوروبا الغربية والولايات المتحدة من جهة اخرى. إلا انه هذا لا ينفي، وينبغي الا يقلل من أهمية الحقيقة الملازمة للصهيونية وهي انها قدمت نفسها كممثلة "للمصالح القومية اليهودية" (الفردية والجمعية)، وهكذا إستدخلها الوعي اليهودي والمسيحي الغربي، ودأبت منذ بداية فكرتها على مقاربة هذه المصالح مع المشروع الصهيوني عبر:
1) تحقيق مصالح البرجوازية اليهودية (المندمجة والمتحالفة مع البرجوازية الاوروبية)؛
2) الإدعاء بالعمل على تحقيق مصالح فقراء اليهود (البروليتارية اليهودية) في إنقاذهم من الاضطهاد والتمييز وإيصالهم الى شاطىء الامان في الدولة الموعودة و"طنهم القومي"؛
3) وأخيراً، وهو ما يهمنا، الولوج الى وعي اليهودي عبر توظيف الدين والتراث اليهوديين، ومن ثم إستدخاله للصهيونية، فكرة ومشروعاً، كمشروع خلاص من الاضطهاد و"كحركة تحرر وطني يهودية" و"كحل" نهائي للمسألة اليهودية عن طريق بناء "الوطن القومي لليهود"، وكذلك إستدخال المشروع الصهيوني كتجسيد للنبوءات التوراتية والمشيئة الربانية وتحقيق الحلم الذي طال إنتظاره.

* * *
الآن يمكننا الانتقال الى السؤال الثالي، وإن لم نكن في معرض المقارنة مع الصهيونية:
إذا كان الخطاب الصهيوني (من حيث توظيفه للدين) قد نجح في تضليل وكسب الجماعات اليهودية والمجتمعات الغربية لاكثر من قرن من الزمان، فهل إستطاع ردنا الديني، وهل يقوى، على مقارعة الخطاب الصهيوني؟
وهل تمكن هذا الخطاب من إدخال مشروع تحرير فلسطين الى الوعي العربي صاحب الارض والقضية، على غرار ما فعل الخطاب الصهيوني في وعي اليهودي المستوطن القادم من بولندا او روسيا، على سبيل المثال، في مطلع القرن المنصرم؟
هل توفرت لدينا آليات النضال وعوامل الانجاز (التنظيم السياسي والبرنامج السياسي والعملي والقيادة والرؤية والقدرة على إستخدام الاوضاع المحلية والاقليمية والدولي)؟ وهل بوسع الخطاب الديني ان يخلق الوعي العربي بالمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني وفهم مراميه ومخاطره فهماً مادياً وموضوعياً؟
وبالمحصلة، هل يستطيع الخطاب الديني ان يحرض الجماهير وينظم فعلها؟

لقد جاء خطابنا الديني في مجمله، (والعلماني في بعض الاحيان)، كرد فعل على الخطاب الصهيوني وغرق في إستنباط الآيات والاقوال القرآنية والانجيلية لدحض الخطاب اليهودي ـ الصهيوني. وبالرغم من الاهيمة البحثية لمثل هذه الشؤون الدينية، فاننا لا نبالغ إذا قلنا أن جلَّ ما قيل وكُتبَ في معرض هذا الدحض الديني وما شق طريقه الى وعي المواطن العربي (في مرحلة يكسوها إستدخال الهزيمة وهيمنة الفكر الغيبي)، لم يتجسد في فهم موضوعي للخطاب الصهيوني المعادي ولم يترجم الى آليات عملية نضالية لمكافحته والرد عليه، ولم يخرج عن آفاق الطروحات الدينية الميتافيزيقية الملقنة. لقد جاء هذا الرد في مجمله، كما أسلفنا، من قبيل السجال الديني والمحاججة واللاهوتية وإستخراج الاقتباسات والاستشهادات القرآنية والانجيلية. وكثيراً ما تم هذا السجال في فضاءِ مشحون بالتعصب الديني وخلط الاوراق والمفاهيم ومعاداة اليهودية والمسيحية أو اليهود والمسيحيين الغربيين كأتباع لهذا الديانات، بدلاً من ادارة الصراع مع القوى والمشاريع والمخططات الاقتصادية والسياسية الراسمالية الغربية والصهيونية.

رب قائل بان للدين والمحاججة الدينية دور فعال في مجتمعاتنا وفي التأثير على المواطن والرأي العام، وهو ما يجيز إستخدامهما كأدوات تثقيف للمواطنين وتوعيتهم وتحريضهم على النضال ضد العدو المحتل. ويتابع أصحاب هذه الحجة، إذا كان الصهاينة والغرب الراسمالي قد سخروا الدين في خدمة أهدافهم على مدى عقود من الزمن، فما الذي يعيب علينا ان نستخدم الادوات ذاتها؟

لا شك في ان إستخدام الدين، كعاملٍ وفاعلٍ واحدى مكونات الهوية الثقافية، يلعب دوراً هاماً وفعالاً في المجتمعات والتقليدية منها على وجه الخصوص، وفي عملية خلق وتكوين الوعي والوجدان، إلا انه لا يؤسس لمشروع تحرير وطني إبتلى بهذا المعسكر من الاعداء وبعوامل التعقيد والتعثر ما لم تواجهه حركة تحرير وطنية في التاريخ. كما ان توظيف الدين لا يؤسس لفهم موضوعي لطبيعة ومكونات الصراع القائم بين مشروعنا العربي (التحريري ـ النهضوي ـ التنموي) من جهة، والمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني من جهة أخرى. إذ إننا نقف امام صراع يكاد يكون أزلياً، إحتدم على ارضنا لما ينوف على قرنين من الزمن، وكان من أهم عبره ودروسه أنه ليس صراعاً دينياً، وإن إتخذ لبوس الدين وإحتقن بالكثير من المظاهر والتجليات الدينية، بل هو مشروع هيمنة راسمالية ـ امبريالية يقع الاحتلال الصهيوني لفلسطين في القلب منه بهدف تجزئة الوطن العربي والهيمنة عليه، ومن هنا كانت الصهيونية وكيانها وليدة راس المال العالمي وأداة وظيفية في خدمته.

ما نريد ان نخلص اليه هو انه ما لم يتوفر لدينا الفهم الموضوعي للنبوءات التوراتية ولتوظيفاتها السياسية، فان ردنا الديني الداحض، ومجمل خطابنا الدعاوي والاعلامي، لن يعدو كونه جدلاً لاهوتياًً عقيماً لا طائل تحته. وفي هذا، فهو يخدم الدعاية الصهيونية ويغريها الى المزيد من إلهائنا وهدر جهودنا، ناهيك عن مخاطر الانزلاق في الصراع والتعصب الديني والتأسيس لاصولية دينية أضحت منفلته في مجتمعاتنا. لن يكتب لنا النصر في نضالنا العادل إذا قام هذا النضال على عكازات دينية دون التأسيس لوعي نقدي جذري وثوري.

لذا نرى أن البحث في حقيقة الصهيونية وتعرية أكاذيبها والرد على النبوءات التوراتية، التي إستغلتها أفضل إستغلال، لا يتسنى بالرد الديني، بل يجب ان يتجه نحو فضح الصهيونية في مفاهيمها السياسية والاستعمارية والاستيطانية وتحالفها مع راس المال العالمي، وتجليسها بدقة في الثالوث المعادي: الراسمالية والامبريالية والصهيونية. اما الخرافات الدينية والتوراتية فيجب فهمها من خلال توظيفها لخدمة الاغراض السياسية للصهيونية والامبريالية الغربية.

ولعل المحك التاريخي الاكثر مصداقية يكمن في السؤال التالي: فماذا حقق الرد الديني حتى يومنا هذا وما هي إنجازاته؟
(2)
النبوءات التوراتية:
عقيدة "العودة" نموذجاً

"العودة": كذبة تفرخ مسلسلاً من الاكاذيب

الكذب والتزوير ضرورة وسمة أساسية ملازمة لكافة الايديولوجيات العنصرية والفاشية والاستعمارية، وخاصة الاستيطانية والصهيونية. والكذب في هذه الايديولوجيات يتعدى كونه مجرد وسيلة بل يصبح جزءً من طبيعتها وبنيتها، وهو لا يعني لوي عنق الحقيقة فحسب، بل إختلاق وفبركة الحقائق والوقائع وإبتداع المزاعم وتكرارها الى أن تتحول الى مسلمات.

في البدء، كما يوافينا السرد الصهيوني، كان "شعب الله المختار"، ثم كان "المنفى" الذي ولّد حنين اليهود ورغبتهم الازلية في "العودة" الى فلسطين. كانت تلك اولى أكاذيب التلفيق والتزوير، التي إضحت إحدى المسلمات التي يكاد يصدقها العالم باسره، كما يصدق الاكاذيب التي تفرعت عنها. فطالما ان الله قد إختار اليهود ليكونوا "شعبه المختار"؛ فلا بد، ان يكون لهذا الشعب "بلداً"، فكان أن وعد الله هذا الشعب بالعودة الى وطنه ـ "أرض الميعاد" ـ والتي ستبقى بانتظاره. ويسهل بعد ذلك الاسترسال في مسلسل الاكاذيب لتتصب في غاية واحدة: إستدامة وتأبيد "الحلم الصهوني".

ولم تتوقف الخرافات عند هذا الحد من "النبواءت" التوراتية بل تعدته الى بث التلفيقات التي ادعت ان اليهود سعوا خلال الاف السنين للعودة الى فلسطين. وفي أحشاء هذه الاكاذيب ولدت كذبة اخرى مؤداها انه بفضل الحلم اليهودي القديم والازلي في العودة فان حلم إنشاء الدولة اليهودية قديم أيضاً، وان الصهيونية ـ حاملة فكرة العودة وممثلة تلك الرغبة اليهودية، هي قديمة قدم التاريخ.

هكذا، بايجاز شديد، توالت مشاهد الاكاذيب الصهيونية واحدة تلو الاخرى.

نشأة فكرة "العودة" في العقيدة اليهودية
التزامن بين العودة والصهيونية

يدعي المؤلفون والمؤرخون الصهاينة انه من أجل فهم "العودة" (التي جاءت الصهيونية لتعبر عنها) ينبغي الرجوع الى قديم التاريخ، الى القرن الثامن ق. م. حين سقطت اسرائيل امام هجوم قوات الملك الاشوري سرجون الثاني، في حين يذهب بعضهم الى ان "العودة" رأت النور في مرحلة سبي اليهود بعد هدم الهيكل من قبل نبوخذنصر أي في القرن السادس قبل الميلاد. ومهما تنوعت الاجتهادات، فليس لهذه الاكذوبة سوى غاية واحدة: عقد التزامن والتطابق بين "فكرة العودة" من جهة، والصهيونية من جهة ثانية، من حيث ان هذه الاخيرة جسدت فكرة ومشروع عودة اليهود الى ارضهم الموعودة، فلسطين. وعلى الرغم من سخافة هذا الافتراض، إلا انه نجح في تكريس وتصديق الزعم القائل بقدم رغبة اليهود في العودة الى فلسطين وولادة الصهيونية كفكرة تجسد هذه الرغبة. بعبارة اخرى، فان ما يريد ان يؤكده لنا السرد الصهيوني هو تزامن نشوء "العودة" و"الصهيونية" عبر التاريخ، وهو ما يؤسس لإبتداع "تاريخ يهودي في النضال نحو تحقيق الحلم". والادلة على هذا الابتداع كثيرة عبر تاريخ الصهيونية، نورد فيما يلي بعضاَ منها:

□ يقول ناحوم سوكولوف: "إنها حقيقة بسيطة.... بدأ تاريخ اسرائيل بالصهيونية. ويبين هذا التاريخ في الازمنة السحيقة طريق تحقيق الصهيونية... فالخروج من مصر كان مثلاً للجمع بين الهجرة والكولونيالية [أي أستعمار الارض ]... والعودة من بابل كانت حدثاً صهيونياً عظيماً".

□ أما بن غوريون، فيقول يوم إعلانه تأسيس الكيان الصيوني، 15 أيار 1948، ما يسميه الاسرائيليون "اعلان الاستقلال": "لقد كانت ارض اسرائيل، اريتس اسرائيل، مسقط راس الشعب اليهودي. هنا صاغ اليهود هويتهم الروحية والدينية والسياسية. وهنا اقاموا دولتهم للمرة الاولى، وشكلوا القيم الثقافية ذات الاهمية الوطنية والانسانية ومنحوا العالم كتاب الكتب الازلي". ويتابع بن غوريون قائلا: "وعليه، فنحن اعضاء مجلس الشعب وممثلو اليهود في اريتس اسرائيل والحركة الصهيونية، الملتئيمن في هذا اليوم، يوم جلاء الانتداب البريطاني عن اريتس اسرائيل، واستنادا الى حقنا الطبيعي والتاريخي، وبموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة، نعلن هنا تأسيس الدولة اليهودية في اريس اسرائيل لتعرف باسم دولة اسرائيل".

□ أما نتنياهو فيعود ليؤكد على المقولة اليهودية- الصهيونية، قائلا: "لكن حقنا بإقامة دولتنا هنا، في أرض إسرائيل، ينبع من الحقيقة البسيطة: هذا وطن الشعب اليهودي، وهنا تَشكَلّ وعيه".

معنى "العودة" في العقيدة اليهودية

لم تكن "أرض الميعاد"، حسب المعتقدات الدينية اليهودية، تعني جغرافية فلسطين، بل كانت مفهوماً يعبر، من منظور تلك العقيدة، عن ارض لاهوتية إفتراضية لا جغرافية. وعليه، فان العودة في اليهودية لا تعني العودة الى فلسطين. ناهيك عن ان اليهود يؤمنون بان العودة الى "ارض الميعاد" ستتحقق عند "مجيء المسايا" (المسيح المخلص) وبمشيئة ربانية.

صحيح أن الانبياء تحدثوا عن تجميع بقايا اليهود من شتى بقاع الارض، وادعوا بان الرب سيعيد شعبه الى أرضهم في جبل صهيون، إلا ان ذلك ارتبط عبر الاجيال بالمعنى الديني بقدوم المسيح وحلول الآخرة. إلا انه "بمرور الاجيال وإخفاق حسابات المتدينين لتحديد موعد "اليوم الآخر" ساد إقتناع الطوائف اليهودية ان معجزة قدوم المسيح المرتقب ستحل في موعدها بارادة الرب ولذلك فمن التطاول والتجديف السعي للاسراع بها، ولم يتخل المتدينون عن هذا الرأي وقاوموا الصهيونية حتى وقت متأخر جداً." وجدير بالذكر، في هذا المقام، ان الراب منشي بن اسرائيل الذي سافر الى إنجلترا في القرن السابع عشر ليسترحم حاكمها كرومويل كي يسمح باستيطان اليهود في تلك البلاد، كان يعلن ان على اليهود ان ينتشروا في اربعة أطراف المعمورة قبل ان يعيدهم الرب الاله الى "ارض الميعاد".

وإعتماداً على تراث القرن التاسع عشر، لاحظ الباحثون "ان الوعد بقدوم المسيح إفترض ان لا يقوم اليهود باي عمل لاعادة سيادتهم (القومية)، فعليهم ان يواصلوا رسالتهم بين الامم على إعتبار ان الخلاص سيأتي من جرّاء تدخل إلهي". ويرى د. إميل توما ان التدقيق التاريخي يكشف "ان ترقب المسيح بين الطوائف اليهودية، الذي كان يقترن طبيعيا بالعودة الى صهيون، كان يشيع في اقطار عينية وفي تواريخ محددة (في سورية في القرنين السابع والثامن، وفي إسبانيا في القرن الحادي عشر). في حين كانت الطائفة اليهودية في ذلك القطر أو ذاك وفي التاريخ المعين، تعيش في ظروف صعبة، تتوق الى الخلاص فتتشبث بالمسيحية [أي فكرة قدوم المسيح المخلص ـ م.ع.] وفكرة العودة الى صهيون". ويتابع توما: "ولكن هذه الفكرة كانت دينية ولذلك لم تتجسم تنظيمياً الا في حالات قليلة جداً وفي أقاليم عينية. وهكذا تجسمت في سورية تنظيماً في القرنين السابع والثامن، وكانت إشتياقاً دينياً شائعاً في إسبانيا في القرن الحادي عشر، وهذا الشكل التنظيمي لم يتجاوز بضع حالات إندثرت عبر القرون وإنتهت في القرن السابع عشر."

أما المرحوم د. عبد الوهاب المسيري فيخلص الى انه رغم الاختلافات في وجهات النظر والتأويلات اليهودية والحاخامية لعقيدة العودة، "على وجه العموم، يمكن القول بان أعضاء الجماعات اليهودية قد قبلوا وجودهم في الاوطان التي كانوا يعيشون فيها، وان الحديث عن المنفى أصبح جزءً من الخطاب الديني، وأصبحت العودة تطلعاً دينياً وتعبيراً عن حب صهيون أي تعبيراً عن التعلق الديني بالارض المقدسة وهو تعلق ذو طبيعة مجازية، لا يترجم نفسه الى عودة حرفية الى فلسطين، حتى وان خلق إستعداداً كامناً لذلك".

يتضح من هذا، وهو ما نود الاشارة اليه، الفرق بين الشوق والحنين الديني الى صهيون، من جهة والصهيونية كايديولوجية وحركة سياسية تسعى الى إقامة مستوطنة يهودية في فلسطين، من جهة ثانية. ولا يغير في الامر شيئاً ان الصهيونية السياسية إقتبست هذا الشوق او الحنين، بل يؤكد انها إستخدمت الدين اليهودي والنبوءات التوراتية في أغراضها السياسية وسخرتها في إبتداعها لفكرة "الشعب اليهودي" وعودته.

التأويل البروتستانتي "للعودة"

ظل مفهوم العودة في العقيدة اليهودية، كما رأينا، مقتصراً على "الحنين الى اوراشليم" و"الشوق الى صهيون" "والى مجيء المسايا" بدلالاته الايمانية واللاهوتية، حتى مجىء الجماعات الانكليزية البيوريتانية والحركات البروتستانتية، التي شاعت في اوروبا وخاصة في انكلترا ثم هاجرت لاحقا الى اميركا الشمالية، والتي إبتدعت تأويلات الخرافات والاساطير التوراتية واستدعت التفسيرات الحرفية لها، فتحولت فكرة العودة من "تطلع ديني روحاني" الى عودة فعلية أي إستيطانية الى فلسطين تبلورت لاحقاً، بعد ما ينوف على ثلاثة قرون، في المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.

ومع ان الصهيونية السياسية فكرة غير يهودية في جذورها ونشأتها، إلاّ أن هذا لا ينفي ان الديانه اليهودية قد زودتها (الصهيونية) بالعودة كعقيدة دينية إيمانية، ثم قامت الصهيونية بنسج حبال الاكاذيب والاوهام حول هذه الكذبة فإبتدعت "القومية اليهودية" على اسس دينية خرافية، بغية إيقاظ الحنين لصهيون وارض الميعاد وإجتذاب اليهود الفقراء وتهجيرهم الى فلسطين، مستغلة أوضاعهم البائسة في بناء القاعدة الاستيطانية هناك.

أما المفارقة التاريخية اللافتة فهي انه فيما غرق مسيحيو الحركات البيوريتانية والبروتستانتية في هذه الخرافات والخزعبلات، كانت الجماعات اليهودية تجهد في البحث عن الاستقرار والاندماج في المجتمعات التي تواجدت فيها، ولم يشهد تاريخهم، حتى ولادة الصهيونية الهرتسلية (1897)، أن قامت بينهم حركات سياسية تطالب بالعودة الى فلسطين. وحتى عبر فترات الاضطهاد الذي عانت منه الطوائف اليهودية، لم تنشأ ايديولوجيا صهيونية ولا حركة تدافع عن اليهود أو تدعو الى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أو في غيرها، بل ظلت فكرة العودة الى ارض الميعاد محصورة في إطارها "الالهي" اللاهوتي وإقتصرت على مشاعر الحنين الدينية.

وعليه، فبالاضافة الى إنتفاء الدعوة الدينية اليهودية (التي كانت تنتظر قدوم المسايا حسب المشيئة الربانية) وغياب المطالبة السياسية (التنظيم السياسي والبرنامج الذي يضطلع بانجازها)، فان اليهود لم يسعوا، عبر محطات تشردهم للعودة الى فلسطين، ولم يقصدوها عبر موجات ترحلهم وهجراتهم على مدى القرون المديدة.

المعارضة اليهودية لفكرة "العودة"

كان من الطبيعي ان تواجه الصهيونية في المراحل المبكرة عداءً سافراً من فئات وتيارات يهودية متعددة شملت المتدينين والليبراليين والثوريين والاشتراكيين وقطاعات كبيرة من الجماهير اليهودية الفقيرة، حيث لم يقتنع هؤلاء بان الخرافات التوراتية كفيلة بان تشكل اساسا للوطن القومي او ان ذلك الوطن المنشود سينهي الاضطهاد ويوفر لهم الأمن والاستقرار.

لقد ألمحنا ان الكثيرين من اليهود الارثودوكس عارضوا (وما زالوا يعارضون) فكرة الصهيونية ومشروعها لانهم رأوا فيها تحدياً للارادة الالهية وتدخلاً بشرياً بغية التعجيل بقدوم النبوءة. إضافة الى أن الكثير من الباحثين والحاخامات أكدوا انه لا وجود لاية اشارة "لمبدأ أو عقيدة العودة الى فلسطين" في "كافة المحاولات التي تمت في العصور الوسطى لصياغة عقيدة يهودية".

إشتبك أصحاب الحركات الاندماجية والتنويرية اليهودية، في معارضتهم للصهيونية، ورأوا في "العودة الى صهيون" مجرد فكرة روحية دينية لا رغبة حرفية، ونادوا بان ازالة "واقع المنفى المؤلم والمؤقت" يجب أن تكون من خلال الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود.

أما فقراء اليهورد فقد رأوا مهمتهم في الانخراط في النضال الثوري والاشتراكي من أجل تحقيق العدالة ومحو الاستغلال سوية مع القوى الثورية الساعية الى التغيير في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها.
(3)
العودة:
من مشيئة ربانية الى مشروع استيطاني

ظهرت الصهيونية في اواخر القرن التاسع عشر في سياق إجتماعي وتاريخي اوروبي إتسم بالصفات الرئيسية التالية:

1) صهينة فكرة "العودة": ذكرنا سابقاً أن فكرة "العودة" بتفسيرها المتصهين أصبحت تعني العودة الى "ارض الميعاد" أي فلسطين، وانها لم تكن يهودية في الاصل بل مسيحية بروتستانتية، ولم تولد في ألمانيا أو بولاندا أو روسيا حيث كانت تقيم أغلبية يهود اوربا والعالم ، بل كانت قد نمت أولاً في انجلترا والتي لم يكن فيها آنذاك سكان يهود، ثم إرتحلت عبر الاطلسي مع الحركات البيوريتانية والبروتستانتية الى المستوطنة الاوروبية البيضاء حديثة العهد آنذاك: الولايات المتحدة الاميركية والتي لم يكن فيها يهود أيضاً.

إنتقل تفسير "العودة"، بفضل تسييس المعتقدات الدينية الذي بشرت بها ودعت اليها الحركات المسيحية البروتستانتية، من فكرة يرتهن تحقيقها بالمشيئة الالهية الى مشروع بشري (سياسي) مرهون بالارادة والفعل البشريين، وبهذا يكون الاصلاح البروتستانتي قد كرس التأسيس الديني ومهد السبيل للمشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.

2) أوضاع الجماعات اليهودية في اوروبا: شهدت الجماعات اليهودية المقمية في اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر العديد من المخاضات والمتغيرات العميقة كان أهمها:
ـ تحالف البرجوازية اليهودية وإندماجها وتلاقي مصالحها مع البرجوازيات الاوروبية الحاكمة والمهيمنة؛
ـ صعود الحركات الاندماجية اليهودية وحركات الاصلاح الديني اليهودية الداعيتين الى رفض فكرة المنفى؛
ـ إنخراط فقراء اليهود في نشاط الحركات الثورية والاشتراكية في المجتمعات التي كانوا يقيمون فيها.

3) المعارضة اليهودية للصهيونية: رفض دعاة حركة التنوير اليهودية (الهاسكالا) التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر والحركات اليهودية الاندماجية فكرة القبول "بالمنفى" ونادوا بالكف عن الانتظار السلبي "للماشيح" ، وحثوا اليهود على ان يحصلوا على الخلاص بانفسهم.

ومع الارهاصات الاولى للحركة الصيونية كانت مسألة "العودة" في التجمعات اليهودية الاوروبية قد حسمت بين:
ـ اليهود "الاندماجيين" الذين نادوا بانصهار اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها واعتبروا العودة فكرة لاهوتية مثالية؛
ـ "والانفصاليين" الذين دعوا الى ان يعمل اليهودي بنفسه للعودة الى ارض الميعاد دون انتظار الامر الالهي.

4) الاوضاع الاوروبية: إتسمت الاوضاع الاجتماعية والسياسية في اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بإحتدام المعارك الطبقية للحركة البروليتارية العاليمة وتحول الفكر القومي الاوروبي الى حركات عنصرية واستعمارية وشوفينية، وإنتقال النظام الراسمالي الى حقبة الامبريالية. ففي خضم هذه الارهاصات، ولدت الفكرة الصهيونية السياسية وإتخذت من التراث الديني اليهودي ما يتفق وغاياتها السياسية وأوَّلت المفاهيم اللاهوتية والدينية المجازية الى مفاهيم حَرْفية تستدعي التنفيذ الفعلي هادفة الى ترسيخ الادعاتءات التالية:

أ ـ ترسيخ الافضلية والاستثنائية اليهودية ("إستثنائية الشعب اليهودي") كشعب مختار على السكان الاصليين للمستوطنة الموعودة في فلسطين.

ب ـ ترسيخ كذبة اخرى كامنة في كذبة العودة، ان اليهود أينما كانوا وبالرغم من تعدد خلفياتهم الثقافية والحضارية والعرقية، هم شعب واحد تشتت وإبتلى بامراض المنفى. وعليه فحل مشكلته، تقول الكذبة، يكون في إقامة وطن قومي يهودي، يعيد لهذا الشعب وحدته المهدورة ويشفي اليهود من أمراض وتشوهات المنفى.

في هذا السياق جاء ثيودور هرتسل، في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، ليأخذ معنى العودة بدلالاتها السياسية البراغماتية ويوظفها في خدمة الحركة الصهيونية. وبالرغم من هيمنة الاثرياء اليهود على المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية (بازل، سويسرا عام1897)، وإعتماد هرتسل على دعم البرجوازية اليهودية، فانه كان يدرك إن إقامة "الدولة اليهودية" المزعومة كان يتطلب اكثر من مجرد أموال روتشيلد وغيره من أثرياء اليهود (والتي بلغت ما يكفي لبناء عشرات الدول مثل فلسطين). فقد تطلب مشروع استيطان فلسطين، بالاضافة الى أموال البرجوازية اليهودية، إستعداد ولو قسم من اليهود للانتقال الى هذا البلد، ناهيك عن الدعم العسكري الذي سعى هرتسل لتأمينه من الدول الامبريالية.

لقي هذا التوجه إرتياحاً لدى البرجوازية اليهودية، وتحقيقاً لمصالحها، فقد أدركت هي
الاخرى أن النجاح لن يكتب للمشروع الصهيوني إلا اذا إنتشرت الدعوة بين فقراء اليهود ولقيت دعمهم لانهم يشكلون موضوعياً مادة الهجرة اليهودية والوقود البشري للمشروع الصهيوني الاستيطاني.

كان لابد لهرتسل ومنظمته الناشئة المتحالفة مع البرجوازية اليهودية، ان يقدموا مشروعاً لحل المسألة اليهودية وإقامة الدولة اليهودية الموعودة يجمع بشكل متكامل كلاً من المكونات الدينية/التراثية اليهودية من جهة، والاهداف السياسية من جهة أخرى. هكذا كانت ولادة الصهيونية الهرتسلية التي جمعت "المشترك" الديني/التراثي والسياسي في تنظيم ومشروع سياسي واحد:

○ فعلى المستوى الدين/ التراثي إدعت الصهيونية بانها جاءت لتجديد العقيدة والتراث اليهوديين وإحياء الحلم اليهودي في العودة الى الارض الموعودة؛

○ وعلى المستوى السياسي بلورت برنامجاً سياسياً وظف الادعاءات الدينية والتراثية، مما ضمن للبرنامج الصهيوني القبول والدعم الواسعين بين الجاليات اليهودية في اوروبا وخاصة الشرقية منها.
(4)
التوظيف السياسي لعقيدة "العودة"

نستعرض في الجزء الاخير من هذه المقالة، أهم التوظيفات السياسية لعقيدة العودة من خلال المنظور الصهيوني.

1) ثنائية المنفى والعودة: ركيزة "الاستثنائية اليهودية"

كان من أهم وظائف خرافة "العودة" التأسيس لفكرة واسطورة "الاستثنائية اليهودية" أو كما يسموها "خصوصيات الشعب والتاريخ اليهودي" أو "إستثنائية الشعب اليهودي"، والتي كانت بدورها ركيزة للعديد من الاكاذيب والفبركات التي أتت بها الصهيونية وإستند عليها مشروعها الاستيطاني في فلسطين. وتأسس هذه الاسطورة لفرضية "إحساس اليهود الدائم بالنفي ورغبتهم في العودة الى ارض الميعاد"، والذي يتم تصويره على انه جزء ثابت من المكونات الاساسية لطبيعة اليهود البشرية.

يمكننا إيجاز ثنائية "النفي/المنفى ـ العودة"، وفق السرد الصهيوني، على النحو التالي: لقد حكم الله (إله اليهود) على شعبه المختار بالنفي والتشتت في بقاع الارض، وسوف يستمر هذا التشتت الى أن يعود الماشيح المخلص. وعلى هذه الركيزة قامت الاساطير وتوالت الخرافات التوراتية اليهودية في مختلف مشاهدها المتلاحقة: مقولة "شعب الله المختار"، وأن نفيهم كان حكماً إلهياً؛ مما أسس لاحساس اليهودي بالنفي إحساساً دائماً وازلياً سيلازم اليهود الى يوم مجيء الماشيح المخلص. هكذا تم نسج مقولة "التاريخ اليهودي" حيث يتخذ السرد اليهودي ـ الصهيوني خصوصية يهودية اخرى تتميز بثنائية المنفى ورغبة اليهود الدائمة للعودة (العودة الملاصقة باستمرار للمنفى). ويتفرد اليهود بهذا الاحساس الذي يقتصر عليهم دون غيرهم. وبما ان تميز اليهود هذا، يرتكز على إدعاءات دينية توراتية تمنحه المصداقية والحصانة، فان الامر يصبح مغلقاً على العقل ويستعصي على الحجة والمنطق وحق التسائل والشك.

ولكن اذا كان اليهود "شعب الله المختار"، فلماذا أراد الله ان ينفيهم؟ ولماذا شاء ان يدوم هذا النفي حتى "عودة الماشيح المخلص"؟

تتعدد الاجابات وتتباين، إلا انها على وجه العموم، تتمحور في ان الله نفى اليهود تمهيداً لخلاص البشر من خطاياهم، مما يؤكد مجدداً الاستثنائية اليهودية. وهو ما يؤسس لمقولة ان اليهود، وفق هذا السرد، هم "الشعب المختار" لاداء هذه المهمة الجليلة، خلاص البشر. وهنا نجد انفسنا من جديد أمام تجليات لا نهاية لها من التميّز والفرادة.

وبالاضافة الى ان ثنائية "النفى ـ والعودة"، تشكل ركيزة أساسية لفرادة اليهود او إستثنائيتهم، فانها تعتبر ايضاً احدى المقولات المحورية في الرواية اليهودية وتأويلاتها البروتستانتية (منذ القرن السادس عشر) والصهيونية (لاحقاً في القرن التاسع عشر)، والتي صيغ "التاريخ اليهودي" من حولها وعلى اساسها. كما ان العقائد اليهودية الدينية الاخرى ترتبط بهذه الثنائية وفرادة اليهود أوثق إرتباط، مثل عقيدة الماشيح والشعب المختار وعودته الى أرض الميعاد. ومن هنا أهمية فهم "إستثنائية اليهود" في أطار مناقشة الخرافات التوراتية.

من الواضح ان إستثنائية اليهود هذه تمهد الارضية لتوظيفها في خدمة الغايات السياسية الصهيونية وترسيخ إدعاءاتها وتبرير جرائمها. وفي غياب (وتغييب) العوامل الطبقية (الاجتماعية ـ الاقتصادية) تصبح مسألة الاسثنائية اليهودية هذه متروكة للتفسيرات الغيبية. بعبارة أخرى، حين يغيب التحليل المادي لحياة الجماعات اليهودية في اوروبا وللمجتمعات التي عاشوا فيها عبر القرون، وتطورات اوضاعهم، فان الامر يصبح متروكاً للتفسيرات التوراتية ويتعذر إنتاج فهم موضوعي للظروف الموضوعية التي عاش اليهود في ظلها ولاسباب وجذور ما حلّ بهم من إضطهاد وتمييز وإنغلاق في المنعزلات (الجيتوات) في اوروبا؛ كما يتعذر إنتاج فهم موضوعي لنشوء الفكرة والمشروع الصهيونيين، لا كحركة "تحرير قومي" لليهود جاءت لانقاذهم من الاضطهاد، كما إدعت بل من خلال السياق الطبقي (الاجتماعي ـ الاقتصادي) للحقبة الاوروبية التي ولدت فيها وعلاقة ذلك بمصالح البرجوازية اليهودية والبرجوازيات الاوروبية، وإرتباطها منذ ولادتها كحركة سياسية منظمة بمصالح وتطور الراسمالية والامبريالية كنظام عالمي.

2) العودة والصهيونية "كحركة تحرر وطني"

كان لاختراع خصوصية اليهود إفرازات كثيرة. فقد شكل إستغلال إضطهاد اليهود ركيزة لفكرة ان هذا "الشعب الفريد" يحتاج الى حركة تمثله وتذود عن مصالحه، مما مهد لمقولة "الصهيونية كحركة تحرير وطنية للشعب اليهودي". واذا أقرينا "بخصوصية الشعب اليهودي"، فانه يصبح تحصيل حاصل ان نضال اليهود "يتميز" عن نضال الشعوب التي عاش بينها، مما يودي الى إستثنائية وخصوصية أخرى مفادها ان نضال الجماعات اليهودية لا تشكل جزءا من المجتمعات التي تعيش فيها. ومن هنا عملت الصهيونية على ضرب النضال الثوري لفقراء اليهود والحيلولة دون إنخراطهم في الحركات الثورية والاشتراكية المتصاعدة آنذاك، وتحويل إنظارهم نحو الهجرة وإستيطان فلسطين حيث شاطىء الامان وحيث "الحلم اليهودي" في الوطن القومي.

3) هل اليهود وحدهم ضحايا الاضطهاد؟
أم أن ما حلّ باليهود حلّ بغيرهم؟

كانت مقولة العودة ضرورية لتكريس وتجذير إستثنائية اليهود وصولاً الى تعزيز وتصديق كذبة فرادة اليهود من حيث انهم كانوا الوحيدين ضحايا الاضطهاد عبر التاريخ البشري. وهو ما أسس أيضاً لتوظيف الصهيونية وإستثمارها السياسي والاقتصادي والتاريخي المعروف للمحرقة النازية حتى يومنا هذا، في حين تم التعتيم على ضحايا الحروب والمذابح النازية من الشعوب والاثنيات الاخرى.

إلا ان وقائع التاريخ تشير الى ان اليهود لم يكونوا وحدهم الذين واجهوا الاضطهاد والتمييز، وأن ما حلّ بهم منذ رحيلهم من بلاد ما بين النهرين عبوراً الى فلسطين ـ أرض كنعان، وإقامتهم فيها وما تلى ذلك من إنهيار مملكتهم وسقوط القدس عام 70 م، يشابه على وجه العموم ما حلّ بالشعوب والاقوام التي كانت تقطن فلسطين وذلك الجزء من العالم في تلك الحقبة. لم يكن الاضطهاد والسبي والترحل الذي حلّ باليهود أمراً محصوراً عليهم، بل لعله كان سمة ذلك العصر. فقد تعرضت فئات إجتماعية وجماعات إثنية ودينية وقومية لاضطهاد فاق ما تعرض له اليهود. وعليه، فان تاريخ اليهود لم يختلف عن تاريخ الشعوب والاثنيات والجماعات التي سكنت تلك الاراضي. وربما، حسب ما ترى الباحثة بديعة أمين "اذا كانت هناك ظاهرة متفردة تميز بها اليهود القدماء فهي ميلهم للهجرة والاستيطان في مناطق مختلفة من العالم القديم" وأن هذه الميزة هي "حصيلة ظروف حسيّة ومادية عاش قي ظلها اليهودي".

أما في اوروبا، فلم يكن اليهود وحدهم هو الذين واجهوا الاضطهاد، فقد شهدت تلك القارة عبر العصور العديد من الصراعات الطبقية والدينية العنيفة المصحوبة بالمذابح الدموية والممتزجة بالتعصب الديني الاعمى طالت الطوائف المسيحية وغيرها (كالكاثوليك في انكلترا والبروتستانت في فرنسا على سبيل المثال). وكذلك فان النازية لم تضطهد اليهود وحدهم بل استهدفت قائمة طويلة من القوميات والاثنيات ليس أقلهم الغجر والشعوب السلافية.

4) "العودة": آلية لتحفيز الغزوة الصهيونية لفلسطين

تعددت مشاريع الاستيطان الصهيونية الساعية "لحل المسألة اليهودية وتخليص اليهودية من وباء العداء للسامية"، إلا ان الرأي إستقر في المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية (1987) ، على "أرض الميعاد"/فلسطين حيث وجدت الحركة الصهيونية في خرافة العودة، الحافز والآلية الرئيسيين لاقناع اليهود بالهجرة الاستيطانية الى فلسطين. لقد أدرك هرتسل والقيادات الصهيونية آنذاك بانه سيتعذر كسب الراي العام والدعم الجماهيري اليهودي لبرنامجها الاستيطاني وتنظيم الهجرة اليهودية الى فلسطين، اذا ما افتقر هذا البرنامج للعامل الديني والتراثي وإيقاظ "الحنين الى صهيون" وخرافات عودة "شعب الله المختار" الى "ارض الميعاد" وتحقيق "الوعد الالهي" والنبوءات التوراتية.

5) العودة وتضليل الجماهير اليهودية الفقيرة

إنعكس الاستهداف الصهيوني لفقراء اليهود في تضليلهم وإجهاض دورهم في الحركات الثورية في تلك الحقبة، من خلال التعبئة بالمقولات الدينينة والتراثية اليهودية. ويتضح هذا الاستهداف إذا ما نظرنا في المنبت الطبقي للمستوطنين اليهود في فلسطين خاصة في موجات الهجرة المبكرة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين:

ـ فاننا نجد ان العودة كانت للفقراء فقط، وأن معظم المستوطنين الاوائل كانوا من اليهود الفقراء القادمين من اوروبا الشرقية كي تتخلص المجتمعات الاوروبية من فقرائها ومشاركتهم في النشاط الثوري الذي إحتدم في تلك الحقبة.

ـ اما الاغنياء فقد اقتصرت مشاركتهم على تمويل المشاريع الاستيطانية والدعم السياسي ولم يهاجروا الى الدولة المنشودة لتحقيق طموحاتهم القومية وتجسيد هويتهم القومية المزعومة.

6) العودة وفبركة "قاعدة الانتاج"
كيف أصبح الاستيطان الاستعماري"مهمة بروليتارية"؟

جهد الصهاينة في تحريف الماركسية وفكرها لخدمة أهداف الحركة الصهيونية. فنظَّروا ان ظروف الانتاج (والمقصود هنا البيئة الجغرافية التي تعمل عليها مجموعة من الناس) تشكل أساساً لتطوير "نظرية مادية بحتة حول المسألة القومية"، وأن هدف الصراع الطبقي هو انتزاع الممتلكات والسيطرة على وسائل الانتاج المادية. وكي يتم تسخير فقراء اليهود في خدمة المشروع الاستيطاني ـ الامبريالي وإجهاض الصراع الطبقي وتزييف طبيعته وأطرافه المتصارعة، كانت المزاوجة بين مصالح الطبقتين، البرجوازية والبروليتاريا اليهوديتين، بطرح الاوهام والادعاء بان إقامة المستوطنات في فلسطين تضمن مصلحه كل من هاتين الطبقتين كما توفر الفرصة للنمو الطبيعي للصراع الطبقي بين اليهود وتأمين الظروف المناسبة للانتاج. كان لا بد، إذن، من البحث عن قاعدة ما، عن أرض ما، يجري عليها هذا الانتاج. هكذا تمت فبركة "قاعدة الانتاج" بتوظيف مقولة "العودة.

وفي رحاب هذا التنظير "الماركسي" التقت (1) المصالح الصهيونية في خلق الارض ـ قاعدة الانتاج ـ وإقامة "الوطن اليهودي القومي" في فلسطين، و(2) مصلحة البرجوازية اليهودية التي تمثلت في تهجير البروليتاريا اليهودية الى خارج اوروبا وإبعادها عن الحركات الثورية والاشتراكية التي كانت تناضل ضد مصالح البرجوازية اليهودية والاوربية و(3) المصلحة الاستعمارية في الوطن العربي. وعليه، أضحى الهدف في إستيطان أرض فلسطين، كم كمظور المحرفين الصهاينة، "واجباً بروليتارياً" تُرجم في الهجرة الصهيونية لبناء "قاعدة الانتاج" التي تمثل مصلحة البروليتاريا اليهودية، ناهيك عن ان هذه القاعدة/الارض المستعمَرة توفر الظروف المناسبة لعملية الانتاج وإستثمار الراسمال اليهودي والغربي في فلسطين والتوسع الى كافة أرجاء الوطن العربي مستقبلاً.

7) جدلية "العودة" والاندماج:
ضرب الحركة الاندماجية بين اليهود

وقفت الصهيونية ضد اندماج اليهود في المجتمعات الاوروبية، ونظرّت لاستحالة هذا الاندماج نظرياً وتاريخياً وعملياً:

1) فهي لم ترى في الاندماج خلاصاً من الاضطهاد ولا حلاً للمسألة اليهودية لانه (الاندماج) لا يعدو كونه إحراز بعض الحقوق المدنية والحريات الديمقراطية ومساواة اليهود مع كافة المواطنين الاوروبيين، بل نظّرت لكون المسالة اليهودية في جوهرها مسألة قومية ولذا فان الحل لا يقوم إلا بإنشاء وطن قومي لليهود.

2) إدعت الصهيونية أن المجتمعات الاوروبية، على الرغم مما يبدو من مظاهر الاندماج، ستعود الى إضطهاد اليهود والتمييز ضدهم لان "معاداة السامية أزلية"، لذا فليس هناك حلاً امام اليهود سوى فصلهم جغرافياً وإجتماعياً في دولة يهودية خاصة بهم ولهم فقط. وفي سبيل هذا المسعى، التخلص من الاضطهاد الازلي، جاءت ضرورة "العودة" كركيزة ايديولوجية ولاهوتية في المشروع الصهيوني.

أما اليهود الاندماجيون فقد عارضوا الصهيونية، كما أسلفنا، منذ مراحلها المبكرة ورأوا في دعوتها لتهجير اليهود تنازلاً عن حقوقهم وتخلياً بل هدراً لانجازاتهم في المجتمعات التي عاشوا فيها لقرون، كما وجدوا في تلك الدعوة رضوخاً لللاسامية لان هجرة اليهود بمدلولها العملي كانت تعني إستجابة الصهيونية لشرعية ومصداقية دعوة اللاسامية للتخلص من اليهود وطردهم. وعليه، ولضمان نجاح الفكرة والمشروع الصهيونيين بين الجماعات اليهودية في اوروبا، كان لا بد من إعاقة الاندماج والقضاء على كافة أشكاله وتسعير حملات القمع والاضطهاد المعادية لليهود وتسخيرها (خاصة في اوروبا الشرقية وروسيا) لاثبات فشل وإستحالة الاندماج وتعزير مشروعها في تهجير اليهود الى فلسطين.

خاتمة
الهجرة اليهودية: تحقيق للنبوءات التوراتية أم بحث عن لقمة العيش؟

منذ أخذ اليهود يغادرون فلسطين في اواسط القرن العاشر ق.م.، ومنذ سبي بابل ومروراً باضطهاد اليهود في الاندلس وطردهم منها بعد إنهيار الدولة الاسلامية وسقوط غرناطة عام 1492، وصولاً الى سنوات الاضطهاد والقمع في القرن التاسع عشر في اوروبا، فان وقائع التاريخ تشهد بان اليهود ترحلوا بدوافع إقتصادية وإجتماعية اوضاعهم وبسبب مواقعهم الاقتصادية والمزاحمة بين القوى المتنافسة في المجتمعات الاوروبية. فاليهود لم يواجهوا الاضطهاد لدوافع دينية، وان لم تخلوا حملات الاضهاد والتمييز هذه كغيرها من الازمات التي تمر بها المجتمعات البشرية، من دوافع التمييز الديني والشوفينية والعنصرية والعرقية. فقد كانت العوامل الاقتصادية (الحرف التي تعاطتها أغلبية اليهود كالتجارة والربا والصيرفة)، والبحث عن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، من الاسياب الرئيسية في موجات هجرة اليهود المتلاحقة الى عواصم الامبراطوريات القديمة. ويشهد التاريخ بان "أرض الميعاد" لم تكن قبلة ملايين اليهود المتطلعين للهجرة، بل نراهم قد إتجهوا نحو اميركا المزدهرة حيث توفرت عوامل الاستقرار الاقتصادي والامن الاجتماعي.

هاجر اليهود، إذن، عبر العصور، كما كافة الشر طلباً للرزق وبحثاً عن لقمة العيش والامن الاجتماعي والاقتصادي. وللتدليل على ما نقول، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نقدم مقارنة موجزة بين حالتين: هجرة اليهود الى فلسطين بعد ظهور الدعوة الصهيونية، من جهة، وهجرتهم الى الولايات المتحدة في فترة تاريخية مشابه، من جهة اخرى.

الهجرة الى فلسطين: بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1880، قبل الغزوة الصهيونية لفلسطين، (23) ألفاً، إلا انه ارتفع بعد موجتي الهجرة الاولى (1882 ـ 1903) والثانية (1903 ـ 1913) حتى وصل في عام 1914، عام إندلاع الحرب العالمية الاولى، الى (85) الف. وما أن حلّت الحرب العالمية الاولى وما تسببت به من تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد حتى إنخفض عدد اليهود في فلسطين من 85 ألف عام 1913 الى 66 الف عام 1918. وحتى بعد صدور وعد بلفور عام 1917 أخفقت الصهيونية في إقناع اليهود بالهجرة الى فلسطين حيث "وطنهم القومي" الموعود، بل إتجهت الهجرة اليهودية وخاصة الروس منهم نحو الاميركيتين واستراليا وكندا وجنوب افريقيا بدل الهجرة الى فلسطين.

الهجرة الى الولايات المتحدة: مقابل معطيات الهجرة اليهودية الى فلسطين، نرى أن الولايات المتحدة إستقبلت في فترة مشابهة (بين عامي 1880 ـ 1924) ما يقارب 2و2 مليون يهودي، أغلبيتهم من فقراء الريف الروسي، من أصل 24 مليون مهاجر دخلوا الولايات المتحدة في تلك الفترة قادمين من كافة أنحاء العالم. ولا يخفي ما بين هاتين الحالتين من فارق كبير:
ـ ففي حين كانت فلسطين آنذاك تحت الاحتلال العثماني وتعاني من مخلفات قرون من الفقر والتخلف وويلات الحرب العالمية الاولى؛
ـ كانت الولايات المتحدة الاميركية تشهد إزدهاراً إقتصادياً وصناعياً لا يضاهى.

وبعد، فأين هي "عودة" اليهود الى ارض اليمعاد في واحدة من أكبر موجات الهجرة في التاريخ؟ وهل كانت الهجرة اليهودية تنفيذاً لعقيدة "العودة" وتحقيقاً للنبوءات التوراتية، أم بحثاً عن لقمة العيش؟

بعض المراجع الهامة

كتب:
1) يوسف ايّوب حداد، "هل لليهود حق ديني او تاريخي في فلسطين"، في جزئين، بيسان للنشر والتوزيع والاعلام، بيروت، يناير 2004.
2) عبد الوهاب المسيري: "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، دار الشروق، القاهرو، 1999:
ـ مجلد 2، الجزء الثاني: يهود أم جماعات يهودية؟ ص ص 125 ـ 130 و الخزر 149 ـ 153
3) آرثر كوستلر: "امبراطورية الخزر وميراتها: القبيلة الثالثة عشرة"، ترجمة حمدي متولي مصطفى صالح، منشورات "فلسطين المحتلة"، بيروت، 1978.
4) يوري إيفانوف، "إحذروا الصهيونية"، منشورات وكالة أنباء نوفوستي، موسكو، 1969.
5) مجموعة من الكتاب السوفييت، "الصهيونية: نظرية وممارسة"، ترجمة يوسف سلمان، دار الطليعة، بيروت، 1974.
6) هاني الهندي، "حول الصهيونية واسرائيل"، دار الطليعة، بيروت، 1971.
7) د. أمين عبد الله محمود، "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الاولى"، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، شباط 1984.
8) بديعة أمين، المشكلة اليهودية والحركة الصهيونية، دار الطليعة، بيروت 1974.
9) د. إميل توما، جذور القضية الفلسطينية، مركز الابحاث في منظمة التحرير الفلسطينيةن، بيروت، 1973.
10) د. يوسف هيكل، فلسطين: قبل وبعد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الاولى، 1971.
11) إلياس سعد، الهجرة اليهودية الى فلسطين المتحلة، مركز الابحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1969.

دراسات:
1) محمد ولد المى ألياسينى: "الأصل غير اليهودي للصهيونية"، ترجمة مسعد عربيد، مجلة "كنعان"، العدد 113، نيسان 2003.
2) عادل سمارة: "علاقة الصهيونية بالإمبريالية والنظام العالمي الجديد"، في موقع "كنعان":
http://kanaanonline.org/ebulletin-ar/?p=1220
3) أديب ديمتري: "العرقية الصهيونية وتيار القومية الرجعية"، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 94، سبتمبر 1979.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر