الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من حكمة غاندي الى شجاعة صونيا ... معجزة الديمقراطية الهندية

جمعة الحلفي

2004 / 6 / 22
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


قبل نحوٍ من ستين عاماً، سأل أحد الضباط الإنجليز، الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي، عن محتوى الخطاب، الذي كان يريد أن يلقيه في حشد من الهنود المتظاهرين ضد الاحتلال البريطاني لبلادهم، فقال له: سأتحدث عن قيمة حليب الماعز في الغذاء اليومي! ولم يكن غاندي، في واقع الأمر، يسخر من الضابط الإنجليزي، أو يريد أن يوحي له بأن خطابه لا يحتوي على التحريض السياسي، بل هو كان صادقاً تماماً، لأن سياسته، في الأصل، كانت تقوم على مقارعة الاحتلال بطرق وأساليب لم تكن تخطر على بال مخططي الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية في ذلك الوقت. فإلى جانب نهج اللاعنف، كانت تلك السياسة تقوم على مقاطعة مختلف البضائع البريطانية، بما في ذلك القماش، الذي كان الهنود ينسجون منه وزراتهم البيضاء الشهيرة، ولهذا كان غاندي يجلس ساعات لينسج، من خيوط دودة القز "الوطنية!" ثيابه الخاصة، مثلما كان يعتمد على حليب الماعز في غذائه اليومي، فسارت خلفه الملايين، من أبناء شعبه، مقتفية أثر سياسته الحكيمة تلك، حتى اضطرت الإمبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، الى مغادرة الهند، صاغرة، في نهاية المطاف.
لكن إذا كانت هناك من معجزة تركها المهاتما غاندي لشعبه، وللبشرية كلها، عدا سياسة اللاعنف، فهي معجزة الديمقراطية، التي أنقذت ثاني اكبر دولة في العالم، من ناحية عدد السكان، من احتمالات ومخاطر التطاحن والتقاتل الطائفي والقومي والديني والإثني، ونقلتها الى بلاد شاسعة الأطراف والمصالح، مستقرة وفيدرالية ومتقدمة، يكاد اقتصادها الوطني وتطورها التقني والتكنولوجي، أن ينافس أكثر البلدان تطوراً وطموحاً في القارات المجاورة لها.


المثال الساطع

ومنذ استقلالها في العام 1945 وحتى اليوم، ومع كل دورة انتخابية تشهدها، تقدم الهند مثالاً ساطعاً وايجابياً، على إمكانية مواصلة التعايش السلمي والتقدم الحضاري، في بلد يزخر بمئات الطوائف والإثنيات واللغات والأحزاب، ويقارب عدد سكانه المليار نسمة، على قاعدة الديمقراطية وتقاليدها الحضارية، التي تقوم، في الجوهر، على مبادىء تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، واحترام إرادة الأكثرية وحق الأقلية في التعبير عن نفسها وحرية الصحافة والأحزاب السياسية، وسوى ذلك من التقاليد، التي أرساها المهاتما غاندي ورسخها القادة الهنود، الذين جاءوا بعده.
والانتخابات الأخيرة، التي شهدتها الهند، الشهر الماضي، يمكن أن تعد من المنعطفات التاريخية، في الحياة السياسية الهندية، وسابقة نموذجية في التجربة السياسية الديمقراطية، على الصعيد العالمي، ذلك أن عودة حزب المؤتمر الهندي (سلالة غاندي ـ نهرو) وعدد من أحزاب المعارضة، (ماركسية وشيوعية وديمقراطية) الى السلطة السياسية، وعلى رأسها صونيا غاندي (الإيطالية الأصل والمسيحية الديانة) إنما هي نقلة نوعية مفاجئة، لم تكن في حساب العديد من المحللين والمتابعين للشأن الهندي. ولهذا فقد وصُفت بـ "الزلزال الانتخابي" تارة، وبـ "المفاجأة الهندية" تارة أخرى، لكن الناخبين الهنود الـ 670 مليوناً، لم تكن لتعنيهم، كما يبدو، تحليلات وتفسيرات المحللين والمتابعين، بل ما كان يعنيهم فقط هو أنهم عبروا عن حقهم في الاقتراع لمن يعتقدون أنه سيجسد قناعاتهم ويحقق لهم مطامحهم وحاجاتهم الإنسانية.
لقد هزت نتائج الانتخابات الهندية الأخيرة، حقاً، قناعات العديد من المراقبين السياسيين، الذين كانوا يعتقدون أن رحيل راجيف غاندي (آخر رئيس حكومة من سلالة غاندي ـ نهرو) قد أذن بنهاية ذلك الدور التاريخي، الذي لعبه حزب المؤتمر الهندي، الذي حكم البلاد مدة أربعين سنة، خاصة وإن من حَّل محل راجيف (الذي اغتيل في العام 1991) على رأس الحزب، هو أرملته صونيا، ذات الأصول الأجنبية، وهي أصول قد تقف عائقاً أمام إمكانية أن يتقدم الحزب الى دفة السلطة، مرة أخرى. وقد يكون هذا الاعتقاد وجيهاً، وحتى صحيحاً، في عدد كبير من بلدان العالم الثالث وغير الثالث، إلا أن الناخبين الهنود، والشعب الهندي عامة، اثبت العكس وأطاح باعتقاد المحللين والمراقبين، عندما صوت لحزب المؤتمر، مرة أخرى، ولرئيسته، أجنبية الأصل، بالذات، وعلى رؤوس الأشهاد، لكن صونيا غاندي، هي الأخرى، كانت تحتفظ بمفاجأتها الخاصة للجميع، عندما أعلنت، بعد فوزها، ورغم إصرار قيادة الحزب، عزوفها عن رئاسة الحكومة، ورشحت قيادي آخر لهذا المنصب، مقدمة بذلك، درساً آخر على قوة التقليد الديمقراطي، وعلى ترفع القائد السياسي، عندما يضع مصالح بلاده وشعبه، في المقدمة.

الاقتصاص من السياسات الخاطئة

لكن ماذا عن كل هذه الدروس والمفاجآت، وماهي الأبعاد والمعاني، التي عبرت عنها الانتخابات الهندية الأخيرة؟
يجمع المراقبون على أن الدرس الأول، الذي يمكن استقاءه من هذه الانتخابات، هو ما يمكن تسميته باقتصاص الناخبين الهنود، أو الناخبين الفقراء، بوجه خاص، من حزب جاناتا (الحزب الوطني القومي الهندوسي الحاكم) ومن مجمل سياساته وفي المقدمة منها، السياسة الاقتصادية. فعلى الرغم من "النجاحات" التي حققها الحزب، جراء سياسة الانفتاح الاقتصادي، على الطريقة الغربية، وتجسدت في ظاهرة النمو الاقتصادي وانتعاش الطبقة المدينية الوسطى، إلا أن غالبية سكان الهند (وهم اجمالاً من الفلاحين والكادحين، إذ لا تشكل نسبة سكان المدن سوى 27 بالمئة من عموم السكان) كانت قد تضررت من هذه السياسة، الأمر الذي حملها على التصويت ضد الحزب. أما الدرس الآخر، الذي لا يقل أهمية، برأي المراقبين، فهو "الاقتصاص" أيضاً، من السياسة الشوفينية، التي انتهجها حزب جاناتا، في تعامله مع الأقليات القومية والدينية، وتجسدت في النزعة الأصولية الإثنية الهندوسية للحزب، والتي شكلت خروجاً صارخاً على روحية التسامح، التي أرساها الزعيم الهندي الراحل غاندي، ورسخها من بعده، حزب المؤتمر، على الرغم من تعرض قادته لعمليات الاغتيال الواحد تلو الآخر. وكما هو معروف، على هذا الصعيد، فقد كان حزب جاناتا، قد أستمد شرعيته، وحتى فوزه في الدورات الانتخابية السابقة، من نزعته الهندوسية الفاقعة وطروحاته الشوفينية بالذات، والتي كانت تجسدت في دعوته لتدمير بعض المساجد المقامة في أماكن عبادة سابقة للهندوس، وفي تبرير قتل المسلمين، وفي إعادة كتابة تاريخ الهند بطريقة تسيء الى مساهمة الأديان والأطياف الاجتماعية الأخرى في بناء الهند المعاصرة.
كل هذه السياسات كانت، في واقع الحال، ترُسم وتنفذ بالضد من المشاعر الروحية العامة للغالبية الهندية، التي تربت على مبادىء اللاعنف والعلمانية واحترام الأقليات، التي تركها غاندي وعمل على تجسيدها خلفاؤه من أمثال نهرو وانديرا غاندي وأبنها راجيف، وهذه هي المبادىء نفسها، التي جرى التركيز عليها في حملة حزب المؤتمر الهندي، وأحزاب المعارضة الأخرى، الى جانب الشعارات الاقتصادية، التي لامست مشاعر وحاجات تلك الغالبية.

مفاجأة صونيا

أما مفاجأة صونيا غاندي، التي لم يكن ينتظرها حتى الناخبون الهنود، الذين صوتوا لها، فهي تعزى لحسابات هذه المرأة الرقيقة والحديدية في الوقت ذاته، وهي حسابات تقوم أولاً على تواضعها وشجاعتها من جهة، وعلى تقديمها مصلحة حزب المؤتمر، وبالتالي مصلحة الهند عامة، على المصلحة الشخصية أو الحزبية الضيقة، من جهة أخرى. يضاف الى ذلك، بطبيعة الحال، خشية صونيا على مستقبل وعمل الحكومة القادمة، من مناخ التحريض، الذي بدأ يشيعه بعض محازبي جاناتا، الخاسر في الانتخابات، حول أصولها الأجنبية وديانتها المسيحية. وقد بلغ هذا التحريض حد القول، على لسان وزيرة سابقة من حزب جاناتا، أن تولّي صونيا لرئاسة الحكومة الهندية " يعد خطأ تاريخياً فادحاً، بل هو عار وطني" لكن ما هو أكثر بلاغة، في إطار دوافع صونيا غاندي، للعزوف عن رئاسة حكومة أكبر ديمقراطية في العالم، هو ذلك الذي أشارت إليه هي نفسها عندما قالت: أنني انسحب طوعاً، .. لقد كان هدفي الدائم حماية الأسس العلمانية لشعبنا ومنح البلاد قيادة جديدة ومستقرة" وهذا ما تحقق بالفعل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف