الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مساراتٌ شتى - قصة قصيرة

محمد علي ثابت

2010 / 1 / 1
الادب والفن


لم ينعم في تلك الليلة بنوم طويل، وبرغم ذلك استيقظ نشيطاً وشعور بالبهجة والتحفز غامض ومثير يملؤه. وقبل أن يمر بائع الفول بعربته المتسخة المتهالكة أمام نافذته شبه المفتوحة دوماً وقبل أن يبتاع منه حصته اليومية الوفيرة من طعام العوام، كان قد ألقى نظرته الفاحصة المعتادة على جريدة الصباح المفضلة لديه وتأنق بأفضل ما لديه من ثياب، تماماً كما كان في بداية حلمه الذي استيقظ للتو منه. وبعد أن تناول قوته الصباحي البني، وبينما كان يهم بالنزول والتوجه إلى العمل، انتابته – بغتة – فكرة عميقة ترجمت نفسها عنوة في صورة سؤال طويل محاصِر: لماذا يجب عليّ أن أذهب إلى العمل في يوم كهذا أشعر في مطلعه بأن طاقتي الداخلية مشحوذة باتجاه حصد ما هو أهم وأكثر احتياجاً للإبداع بكثير من بضع عشرات إضافية من الجنيهات عديمة النفع لن تقدم كثيراً ولن تؤخر؟؟ .. لكنه حسم حيرته، التي لم تستغرق أكثر من دقيقتين، وتوجه – على مضض – إلى العمل، وأخذ خبر قصير قرأه بالجريدة الصباحية يشغل باله بشكل متصاعد اقترب من عتبة القلق الجدي عندما كان يخطو خطواته الأخيرة في تلك الردهة الموصلة إلى غرفته التي يمارس فيها طقوس عمله الرتيبة.

*** *** ***

استيقظت مكمودة. زوجها اللعين عديم الشعور الذي لا يعرف الندم أو توبيخ الذات إليه سبيلاً ضربها ضرباً عنيفاً في حدته ومهيناً في تنفيذه لأنه شعر بأنها حادثت – من جديد – جارتهما نفسها في نفس الأمر الذي ما كان يجب عليها أبداً محادثتها ولا محادثة أي من الغرباء فيه، ثم أجبرها الزوج بعد وصلة الضرب ثنائية الخصائص تلك على الخضوع لمحاولاته الفاشلة المتكررة لمضاجعتها وعلى الرضوخ صاغرة لعنفه الذي لطالما ألفت فيه – منذ ليلتهما الحسية الأولى – ميلاً تصاعدياً إلى العنف والحدة كلما ترسخ وقع الفشل في المحاولات. لكن ضربه العنيف والمهين ذلك لها بالأمس وإجباره لها من ثم على التحول إلى دمية رخيصة مطيعة من دمى الماريونيت لم يكونا أهم ما يقف وراء ذلك الكمد الذي كان يغلف صباحها التالي. فهي، بمرور الوقت والعشرة معه، أصبحت لا تبتئس كثيراً من أفعاله المتكررة وأصبحت لا تتحسب حتى لأفعاله غير المتكررة ولا غير المجربة معها حتى اللحظة أصلاً. بالتأكيد كانت ثمة أسباب أخرى، أو لعله سبب واحد تدركه جيداً.

*** *** ***

اكتشف أثناء النهار أن قلقه كان له حقاً ما يبرره. زاره مدير الإدارة في غرفته التي تجمعه بأربعة بائسين غيره، ليخبره – بشماتة لم يحاول إخفاءها – بأنه سيكون من نسبة الخمسة بالمائة من إجمالي الموظفين الذين لن يتم تجديد تعيينهم المؤقت بداية من السنة المالية الجديدة. العمالة المؤقتة، على ما يبدو، يجب أن تظل دائماً مؤقتة طالما ظلت الأوضاع الاقتصادية على غير ما يرام. ولحين عثوره – بصعوبة، طبعاً – على مكان جديد لممارسة طقوس عمل آخر أكثر أو أقل رتابة، ربما يتعين عليه أن يجعل طعام الدهماء البني القميء المليء دائماً بالقشر والسوس طعامه لوجبات اليوم كله، لا للصباح فحسب.

*** *** ***

"نعم أحبه. وكم أود أن أهرب معه من جحيم ذلك المسخ الفاشل الضعيف الحقير". باغتتها تلك الفكرة بإلحاح وهي تحادث الجارة في نفس الأمور التي ما إن ناقشتها معها حتى تعرضت على يدي المسخ للضرب. لكنها قمعت الفكرة في رأسها لحين عودة الجارة المتطفلة إلى شقتها المجاورة، ثم شرعت في مجابهة نفسها بتفاصيل تلك الفكرة التي باغتتها – ليس تماماً – وهي تخوض في الحوار الممنوع.. وضمن حيثيات المجابهة: أنها تبتسم له بسعادة ورغبة كلما ابتسم لها بخجل كاشف عند باب البناية التي تجمعهما وتجمع علاوة عليهما أمه هو الخرفة وزوجها هي المتجبر، وأنها حصلت – بطريقة نسائية ملتوية وذكية – على رقم هاتفه النقال من الفتى الريفي العامل بمركز الاتصالات المجاور الذي يشحن كلاهما رصيده فيه يومياً تقريباً، وأنها دأبت منذ ذلك الحين على الاتصال به من كابينات الهواتف العامة ومن رقم جارتها البدينة، وأنها – فعلاً وبلا تردد – تعمدت الالتصاق به لعشر ثوان ذات مرة في المصعد عندما انقطع عن الأخير التيار وتظاهرت بالاحتماء بأي شخص في متناول ذراعيها من الظلام المفاجئ بينما كانت في الواقع تحاول استراق السمع إلى أنفاسه والاستوثاق عبر إيقاعها من شيء ما كانت تظنه موجوداً أو على وشك أن يوجد بداخله أيضاً. أما الكمد فمرجعه تيقنها من أنه من النوع الذي لن يجرؤ ولن يقوى أبداً على التقدم قيد أنملة عن مرحلة السلامات والابتسامات المصادفة ذات المغزى في الدخول والخروج، فكيف الحال وهي تحلم به بطلاً لهروب شجاع إلى مكان بعيد لن يرد أبداً على خيال زوج شرس مخبول ؟!

*** *** ***

صباحه كان بهيجاً جداً، لكن مساءه حزين. حتى الكلمات المتقاطعة في جريدته الصباحية المفضلة لا تطاوعه، على غير عادتها. عليه من الغد ممارسة طقوسه عمله الرتيبة في الصباح والبحث في المساء عن مكان جديد – لرابع مرة منذ التخرج – لممارسة طقوس أخرى جديدة لاحقاً. الآن تذكر أنه لم يستوعب درس النسب المئوية في مادة الحساب في الصف السادس ولم يعره اهتماماً كبيراً، لكنه لم يكن يتصور وقتها أن وقوعه في نسبة الخمسة بالمائة اللعينة يمكن أن يجر عليه ذلك الويل المحتوم. وبعد فروغه من عشاء فاخر ابتاعه بالهاتف في حالة جنون سوريالي عديم الاتساق مع ما تكاد حالته الإجمالية تؤول إليه بداية من العام المالي الوشيك الجديد، وجد نفسه يفكر فيها – هي – بشكل مختلف لحد ما. وبعدما أطعم أمه أدوية إنعاش الذاكرة عديمة الجدوى، وبعد أن ألقى بعلب الطعام الفاخر من النافذة تحت جنح الظلام، استلقى على فراشه وهو بعد يفكر فيها. وفي الليل احتلم بها، أو لعله ظن ذلك في الصباح وهيأ له عقله الباطن أنها كانت بطلة حلم الليلة الماضية المثير. وبمجرد أن شرع يقرأ جريدة ذلك اليوم التالي وجد يده تمسك بالقلم لا ليخط الحروف التجريبية الأولى على مصفوفة الكلمات المتقاطعة التي يعشقها، وإنما ليكتب بجوار ترويسة الجريدة برموز لا يفهما سواه ما معناه: "لولا زوجها الفظ المخيف ولولا الجارة المتطفلة اللعينة لطاوعتها الآن فوراً!". ثم حسم أمره، كعادته، وتوجه إلى العمل ليشهد يوماً آخر في عده التنازلي المخيف.

*** *** ***

بعد ظهر يوم الإجازة الأسبوعية التالي التقيا مصادفة لا في مدخل البناية ولا بداخل المصعد. التقيا في مركز الاتصالات المجاور. كلاهما كان يريد أن يشحن رصيده، لكنها وجدت في وقوفه أمامها وجهاً لوجه فرصة للاتصال برقم نقاله، الذي يحمل في سجل هاتفها اسم دلع رجالي رباعي الأحرف. اتصلت به "على الهواء" هكذا كي تجعله يعرف، أخيراً، من تكون تلك اللعوب صاحبة الصوت المثير الذي يلامس أذنيه عبر الهاتف بشكل متقطع من أرقام متعددة منذ فترة. وعندما فهم الأمر بعدما اضطرها ارتباكه لتكرار اتصالها به مستغلة أن الفتى الريفي في "السنترال" لا يعرف "السما من العمى"، حفظ رقمها في سجل هاتفه واختار له اسماً مؤقتاً هو أحد الترجمات الإنجليزية لكلمة "مومس". وقضيا يوم إجازة رائعاً سوياً في غرفته المجاورة لغرفة مريضة الزهايمر.

*** *** ***

ولما عُثر ذات صباح على جثة رجل انتحر ليلاً بالقفز في مجرى مائي مجاور بعد أن سئم فشله المتكرر في ميدان الغرام الحسي وما يدفعه إليه ذلك الفشل من ممارسة القسوة الهمجية تجاه من يحب، كان قد مر قرابة الشهر على نهاية السنة المالية وتسريحه من العمل بأمر النسب المئوية اللعينة. وبينما اتسع المجال لمزيد ومزيد من اللقاءات بينهما بعيداً عن أعين الجارة المتطفلة وعن بقايا شكوك الأم الخرفة، لم يتح له أية فرصة لتغيير اسمها المؤقت على هاتفه أبداً، وساعده على ذلك أنها لم تكن تعرف أشكال الحروف الأجنبية أصلاً. والأعجب: أنها ظلت حتى بعد دفن الجثة بشهور تفكر في تنفيذ سيناريو الهرب إلى مكان بعيد، بعيد.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي