الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هناك اضاع عينيه

فاتن الجابري

2010 / 1 / 3
الادب والفن



مسح وجهه بكم قميصه من رذاذ البصاق الذي غسله وأطرق مليا في الارض ، جاءه صوت الضابط أشبه بسيخ نار ثقـب أذنيه !

ـ أخرج أيها الكلب ، قالها الضابط

حاول أن يتمتم بكلمات عائمة ....

ـ أنها أبنتي ياسيدي ...

ـ أخرج ، قالها وهويهم بالسوط على رأسه

أطلق ساقيه تاركا وراءه بناية مركزالشرطة القديم والحزن يعتصر قلبه والذل والمهانة تعصفان بكيانه ، لم يعرف ذلا هكذا من قبل وهو الذي شرب صنوفا أخرى مختلفة حتما
ولا يذكر أول مرة تذوق طعمه لكنه يدرك الان مكان ذله ويعرف زمانه !! مضى في الشوارع هائما ،لايلوي على شيء ، الاشجار على جانبي الطريق الخالي تماما من المارة تعيده الى خضرة ممتدة بنسغ عشق غاف في حضن قريته النائمة في قلب الهور الجنوبي المترع بحقول القصب والبردي وبتلك الأكواخ العائمة ، ومن بعيد تلوح له نيران تنور أمه وطعم خبزها الحار لم يزل عالقا في فمه.

ألقى كيانه في أحضان المدينة بحسنها وفجورها ، وبين الحين والآخر تلوح لعينيه ومضات سحرية لزورق فضي عائم بين موجات الهور اليابس الذي شهد أنتحار أخر السمكات على الضفاف ، وكلما تمر بخاطره ذكرى قريته يتحسس الشقوق المفتوحة في يديه وقدميه كأرض الهور اليابسة ، تلقفته المدينة بجنونها العابث ، زج روحه في أتونها باحثا عن فرصة تعيد أليه أحساسه الضائع بأدميته ، نفروا منه جميعا متوجسين من هذا القروي الذي ينافسهم في رزقهم القليل ، أما هو فلم يكن بحاجة سوى الى ضربة حظ تجعل منه حمالا في سوق الحديد القديم (السكراب ) وعندما جاءته فرصة عمره ، لم تكل يداه الكبيرتان عن حمل الحديد ولم يشتك ظهره أو تئن عظامه ، حياة الكدح الماضية التي عاشها عجنته وصهرته وجرب فيها ألعن الظروف كأنه خلق لقسوة الحديد وخشونة هذا العمل المضني ، الذي تحمله بجسده القوي المفتول العضلات وقابلية الصبرالتي تعلمها من بيئته الفلاحية .

تنساق الدنانير اليه وهو المبهور بسحر ليل المدينة الضاج بالمتعة والاضواء ، قذف قلبه ودنانيره في المراقص الليلية والبيوت المنزوية ، وفي أطراف المدينة كان الليل له مذاق أخر ، في أحضان غجريته الحسناء التي تملئ ليله رقصا وغناءا وحسا ، ينهل من نعومة جسدها البض يحترق بعطرها حد الثمالة منذ عرفها لم يعرف أمرأة قط ، صارت دنياه وروح قريته ببداوتها الفطرية ، مسدلا ستارا معتما في زاوية من ذاكرته ، زهرة حبه الاول التي سميت بأسمه منذ الطفولة أقسم لها بالحب أنه سيعود في يوم ما بعد أن يبني لها بيتا من الطابوق ، أرضيته مبلطة بكاشي الموزائيك الملون اللماع ، ستكون قدميك يازهرة أنعم من أقدام فتيات المدينة ، تبتسم ودمعة تترقرق بين جفنييها منحدرة على خدها فيتغضن وجهها الاسمر بالحزن ... كلما تذكر قريته يمر طيف زهرة باهتا من أمام عينيه كأنه من ماض سحيق ربما حلم يباغته لينغص عليه لحظات نشوته بحياته الجديدة !

مع غروب الشمس يمضي الى أطراف المدينة قاطعا عشرات الكيلومترات يفرغ جيوبه من حملها الثقيل بين يدي معشوقته ، ويرتمي بأشواقه ولوعته في أحضانها يمرغ جسده الملتهب بنعومة جسدها ، صارت تلك المرأة جنته وعالمه الناعم الذي ينسيه قسوة الحديد وصلابته ، حلم تمر به الايام الجميلة مثمرة طفلة جميلة خمرية بعيينين عسليتين واسعتين مثل عينيه وقامة كقامته الطويلة ونظرته الشاردة ، جمال الطفلة الاخاذ يفيقه من سكرته ، يفكر مليا بالامر بمصير تلك الوردة المتفتحة ، يهتز كيانه ويرتعد قلبه ، تنقلب حياته الى كابوس مرعب يقض مضجعه ، أبن القرية الذي سيقتله عاره ، فكر بخطف الطفلة والهرب بعيدا ، يلوح أمامه خيط من الماضي البعيد ، ماذا لو يلقيها في حضن زهرة ، ربما ستغفر له نزوته وتتقبل بصدر رحب طفلة خطيئته ، وفي لحظة أستجمع كل ما يملك من قوة وقذف بما عزم عليه بوجه الغجرية غير مكترث لفراقها وأبتعاده عنها الى غير رجعة ، بدت في تلك الليلة شهية جدا وضوء القمر ينعكس على ثوبها الاحمر اللماع الذي يبرز نصف صدرها المكتنز كاشفا عن ذراعيها البضتين تحتضن طفلتها بحنان ، الليلة لم تهتز عواطفه نحوها ، كبح سعير شهوته وبادرها بلهجة جادة وصارمة

ـ أرغب في الرحيل من هنا....وسأصحب أبنتي معي !

أنتفضت المرأة كالملسوعة مطبقة كلتا يديها حول جسد الطفلة الصغير

ـ أبنتك قالتها بسخرية سمجة مزقت أحشائه كمطعون بخنجر ، أرحل الليلة أن شئت ليس لديك هنا سوى ملابسك القذرة !!!

نام ليلتها على جمر أهانتها لكرامته المثلومة وفي الصباح ، وقبل أن يغادر ذلك البيت القائم عند أطراف المدينة عند الباب كان أمامه أثنين من رجال الشرطة ، أقتادوه دون أدنى حوار الى مركز الشرطة ولم يتجرأ على سؤالهم عن سبب أقتياده ، أرتعد قلبه ربما تكون تلك الملعونة وشت به الى السلطات لان لسانه كثيرا ما تفوه بكلمات السباب والتذمر من واقع مرير ، فكر ربما سجلت له ترهاته وكلمات شكواه وتذمره أثناء ساعات سكره الليلية ، لقد حذره أكثر من شخص ، حاول أن يتوقف لكنه حالما تصعد الخمرة الى رأسه ينسى خوفه ويتحدى جبنه صابا جام غضبه على النظام والحكومة والحزب الحاكم وأحيانا يتمادى ويشتم حتى الرئيس ، وعندما يفتح عينيه يجد الجميع أنفضوا عنه وتركوه وحيدا ، شحذ ذاكرته فوجد أن تلك الكلمات لاتقوده الى السجن بل الموت في أغلب الاحوال ، لم تكن المسافة بين مركز الشرطة والبيت طويلة أستحضر خلالها مئات الاحتمالات

ـ هل يعقل أن تخبرهم بأني ضربت صورة الريئس بأصابعي الخمسة في أحدى المرات ستضيف وتختلق مواقف و ستزيد كلمات ، ماأخشاه أن تشي بي بحقارة وضيعة
وتذكر عدد المرات التي شتمته بها حينها ستقتلني بالقاضية.

كان ضابط الشرطة في أنتظاره أصابه الذهول لدى رؤيته الغجرية ووالدها في غرفة الضابط ردد في سره

ـ وقع المحظور وأنتهى كل شئ

قالت الغجرية موجهة كلامها في غنج الى الضابط بعد أن أسبلت عينيها الكحيلتين الواسعتين ـ سيدي هذا الرجل يريد أن يسرق طفلتي

أستعاد جزء من توازنه وأستأنفت الدماء حركتها في شراينه ثانية ، أنتصب في وقفته متهيئا للاجابة على أسئلة الضابط

ـ هل قمت بتهديد هذه المراة بسرقة أبنتها ؟
ـ أنها أبنتي ياسيدي وأريد أن أبتعد بها عن قذارة أمها والمكان أيضا

ومن دون أن يوجه اليه أية سؤال بادر والدها عازف الربابة

ـ سيدي دارنا تمتلئ كل ليلة بشتى صنوف الرجال من علية القوم ، رجال الحكومة والحزب والوجهاء وأخرين من الوضيعين وقطاع الطرق والمتسولين ، وأبنتي ترعى خدمتهم وراحتهم جميعا ، فأي دليل لدى هذا الرجل أن هذه الطفلة أبنته

صعق القروي بما سمعه ، حاول أن يتكلم لكن بصاق الضابط كان قد سبقه ، غسل وجهه وبلل شاربيه ، منذ لحظة ذله هجر كل شئ إلا الضياع في شوارع المدينة باحثا عن خلاصه ، في كل مرة تلقيه أقدامه نحو محطة نقل الركاب يرى الحافلات الكبيرة أصطفت بأنتظار دورها في رحلة الى مدن الجنوب ، تخيل نفسه عدة مرات قابعا في أحداها ، لكنه في اللحظة الاخيرة نبذ فكرته الساذجة وهو يرى عاره مجلجلا في قريته ، لا لن يعود اليها متسربلا بالذل ، ستلفظه ويلقيه رجال العشيرة في عمق الهور اليابس ، ستحرقه دمعات زهرة التي ستبكيه للمرة الاخيرة ، عاد الى ملاذه وأفنى جسده في جحيم الحديد القاسي ، عرف أسراره بعد أن تحدب ظهره ، صار رفيقه ينام بين أكوامه ويصحو بين ركامه ، أتقن لعبة السوق ومضارباته وأنطلق كالصاروخ ، تسيل الدنانير بين يديه بسرعة مذهلة لم يصدقها هو قبل الاخرين ، كان كلما تزداد ثروته تتفاقم تعاسته ويدرك عدم جدوى مايقوم به فحياته خالية من الاهداف حتى رغبته في الانتقام من الضابط الذي وجه اليه أهانة عمره لم تعد تشغله كثيرا ، متعته المحمومة جمع أكبر قدر من المال هو كل ما يتلذذ به في محاولة عابثة لنسيان عينيه العسليتين اللتين نبتتا عند أطراف المدينة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا