الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحداثة وما بعدها في ميزان النقد

سلمان ع الحبيب

2010 / 1 / 5
الادب والفن


الحداثة مشروع فكري تقدّمي يعتمد على العقلانية في تفسير الكون وما يحدث فيه بعيداً عن الخرافات والأوهام كما يعتمد على اللحظة الراهنة والتجربة الإنسانية الآنية متجرّداً من سلطة الماضي وكل أشكال السلطة مع محاولة الفصل بين الثابت والمتحوّل .
وقد نشأت الحداثة لسببين رئيسين كما أرى :
الأمر الأول : الطبيعة البشرية الذكية وذات الإحساس بمسؤولية التغيير والتمرّد على كل ما يناقض العقل والتي تحتاج بشكل ماسٍّ للتطوير والحرية والخروج عن الجمود وتحقيق الفردية والحرية والسعادة والسيطرة على الطبيعة.
الأمر الثاني : ردة فعل المجتمع الغربي لما حدث من نظرة متحجّرة ورؤية جامدة بالنسبة للكنيسة مما أدّى إلى الخروج عليها والاعتماد على العلم والعقل والحرية والتحرّر من السلطة الدينية الجامدة .
ومع أن الحداثة قدّمت تطوّراً في المجال العلمي والتقني والفكري ودعت إلى التجدّد والتطوّر وهي أمور لا يختلف على أهميتها أحد ، كما نادت بالحرية والمساواة والديمقراطية والإبداع وإعادة النظر في القديم والسعي لتحقيق سعادة الإنسان وهي مساعٍ عظيمة لا يمكن أن يرفض حدوثها على أرض الواقع أحد ، لكنّها – للأسف – لم تستطع أن تحقّق وعودها على الرغم مما حقّقته من إنجازات ، لذا قال الفيلسوف الألماني المعاصر : ( هابرماس) : ” الحداثة مشروع لم ينجز بعد ” . فقد وصل الإنسان إلى القمر واستطاع أن يحقّق تقدّماً علمياً في الطب والصحة والصناعة ومختلف العلوم إلا أنه مع كل هذا التقدّم فشل في منع حدوث الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وأعاصير ، ولم يفلح في منع المشاكل الإنسانية والنزاعات العرقية والظلم والاستبداد والحروب النازية و الفاشية والنووية والهيدروجينية والاحتلال وسيطرة الدول الكبرى على الدول النامية ونهب خيراتها والتدخّل في شؤونها .
كما عجزت الحداثة عن تحقيق الحرية في ظل الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية …إلخ ، بالإضافة إلى كونها تمتلك فكراً تنويرياً تتبنّاه أصبحت من حيث لا تعلم مستعبدة لفكرها وأصوليتها .
وعجزت الحداثة أيضاً عن تحقيق وعودها الأخرى : المساواة ، والديمقراطية ، والتسامح وبهذا جعلت من عقلانيتها وهماً وتفكيراً طوباوياً أشبه شيء بالسراب الذي يراه الظمآن ماء .
أما عن عقلانيتها التي جاءت تبشّر بها من خلال الإيمان بثبات المعنى ووجود ثوابت تحكم المتغيّرات وأن العقل والعلم طريق السعادة فهي أفكار تفتقد صفة العقلانية فلا وجود لثبات المعنى في واقع الحياة ولا يوجد ثوابت أو متغيرّات يمكن أن يتفق عليها العقلاء فالثابت قد يكون متغيراً عند فلان ما وبالنسبة للآخر فعنده عكس ذلك ،أما القول بأن العقل طريق السعادة فهو وهم كبير ، بل إن العقل والإبداع والفكر كثيراً ما يكون سبباً لشقاء الإنسان ومتاعبه بل وقد يكون – كما هو حادث بالفعل – سبباً لحروبه وتناحره وسيطرته واستغلاله .
وقد وقعت الحداثة في عزلة ثقافية ونظرة طبقية متعالية وأخفقت في تحقيق وعودها ولم تستطع إيجاد بدائل حقيقية لكل ما تعالت عليه ولكنه تظل تقف وراء فكرة تنويرية دفعت بأصحابها للتطوير والتغيير والتمرّد على الرجعية واليقينيات المسبقة .
وقد جاءت حركة أخرى مناقضة للحداثة أطلقت على نفسها ( ما بعد الحداثة ) وهذه الحركة هي تقويض للمنهج الحداثي وتقوم على الربط بين المظاهر الاجتماعية والمظاهر الثقافية إذ لا فصل بينهما في نظرها كما تربط بين البنية المعرفية وبين ما تنتجه تلك البنية من معارف .
وما بعد الحداثة بتعريف آخر : هي منهج فكري ينظر للإنسان على أنه جزء من الطبيعة ومتأثّر بمحيطه الاجتماعي وتنظر للعقل على أنه متحيّز فلا تؤمن بالموضوعية ولا تؤمن بالحرية المطلقة وتدعو لكسر حاجز النخبة الذي قيدت الحداثة به نفسها كما قامت بإلغاء الثابت والمتحوّل والعقلانية وألغت أيضاً الثنائيات الضدية القسرية في الفكر الحداثي : ( المهم / غير المهم ) ( الأصل / الفرع ) ( الثابت / المتحوّل ) . وآمنت بالفوضى والتشتت وعدم الهدفية وعدم وجود الحرية والاختيار للفرد لأنه محكوم ببيئة وثقافة يعيش فيها واعتبرت الإنسان ترساً في آلة اجتماعية وهي بهذا جاءت تنسف بناء الحداثة لتضع بناء آخر مكانه .
وقد لفتت ما بعد الحداثة انتباه الناس لما كان مستقراً في أذهانهم من ثوابت كانوا يعتقدونها وساهمت في إعادة النظر في تلك الأفكار وتلك الثوابت ، كما حظيت بالنصيب الأوفر في إلغاء الطبقيات الثقافية واهتمت بالهامش الذي كثيراً ما يتجاهله العديد من الناس مع أهميته في معرفة المركز .
ومع ذلك كله فإنّ ( ما بعد الحداثة ) وقعت في سلبيات وتناقضات كثيرة جعلتها لا تفي بالغرض ولا تملك القدرة على أن تكون بديلاً للحداثة . فما بعد الحداثة اتصفت بالفوضى والعبثية وعدم الهدفية وهي صفات تجعلها تائهة لا تملك بديلاً أو حلاً بل تسير في عمى ثقافي وضلال محيّر فإذا كانت العقلانية لا تحقّق أهدافها فهي بلا شك أفضل بكثير من حالة العمى والتخبّط العشوائي ، وبالنسبة لكل ما جاءت به ( حركة ما بعد الحداثة ) في نقض الحداثة فإنها لم تقدّم بديلاً يمكن أن يستند عليه في تحقيق نظرة أنضج من المنهج الحداثي .
ومن سلبيات ما بعد الحدااثة ما يتعلّق بالتأويل اللامتناهي للنصوص فإن عملية التأويل تلك تؤدي إلى ضياع النص حيث يتجاهل ( ما بعد الحداثيون ) أن للنص حدوداً لغوية ومنطقية وتراكيب خاصة تجعلنا لا نبالغ في التأويل وإلا فإننا نخلق بهذا نصاً آخر .
ومن سلبياتهم أيضاً مبالغتهم في النظر إلى حرية الإنسان حيث اعتبروا الإنسان سجيناً لثقافته متناسين بذلك أن كثيراً من الناس واجهوا ثقافتهم ووقفوا في طريقها وأثّروا بفكرهم الجديد في ثقافتهم ، وما الحداثة وما بعدها إلا دليل على ذلك ، كما أنّ ما بعد الحداثة أدّعت أنه ليس هنالك حقيقة مطلقة وقولهم هذا يعد حقيقة مطلقة بالإضافة إلى أنها وضعت حقائقها المختلفة التي تمثّل أركانها وهي بادعائها ذلك تنقض نفسها بنفسها تماماً مثل قولهم بعدم العقلانية وعدم الإيمان بالعقل أو الوثوق به إذ أنهم بهذا يضعون قواعد وأحكاماً معتمدة على العقل وحججه .
ومن هنا يمكننا القول بأن ( ما بعد الحداثة ) تعد نقضاً للحداثة وليست بديلاً عنها كما يمكننا القول بأن الحركتين متطرّفتين في أفكارهما وهما على طرفي نقيض بعكس ما يدّعي بعض النقاد بأن ما بعد الحداثة هي حداثة ولكن بقناع آخر .

سلمان عبد الله الحبيب (أديب وناقد وباحث)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات


.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة




.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها


.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-




.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق