الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضرار نفسية غير مرتجعة

أوري أفنيري

2004 / 6 / 24
القضية الفلسطينية


قبل أسبوعين قام المجتمع الدولي بعمل مثير للدهشة.

من خلال الانصياع لإملاءات بوش، وافقت "المجموعة الرباعية" على "برنامج الانفصال المعدل" الذي طرحه أريئيل شارون. أي أن: هيئة الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الفدرالية الروسية والولايات المتحدة قد صادقوا كلهم على هذه الوثيقة. أشك في أن يكون أحد من الدبلوماسيين المحترمين قد قرأ الوثيقة بأم عينه.

يتضمن البند الأول من "البرنامج" الكلمات التالية: "توصلت دولة إسرائيل إلى استنتاج بأنه ما من شريك فلسطيني يمكن التقدم معه في مسيرة سلمية ثنائية الأطراف".

هذا يعني أن المجتمع الدولي قد صادق بلمحة بصر على أنه ليس للشعب الفلسطيني حق في المشاركة في تقرير مصيره، وأن الأمر ستحسمه حكومة إسرائيل لوحدها، بمصادقة الولايات المتحدة التي أصبح موقفها مقبولا بشكل أوتوماتيكي من قبل سائر المشاركات في "المجموعة الرباعية".

لقد قبلت الـ 25 دولة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، روسيا العظيمة والمنظمة التي تمثل العالم بأسره بخنوع إملاءات بوش، دكتاتور العالم، وهو ذاته الأسير بين يدي شارون. لقد جزم شارون منذ زمن بعيد بأن الرئيس الذي اختاره الشعب الفلسطيني "غير ملائم"، مثله مثل الزعامة الفلسطينية بأسرها.

لقد أزيل الشعب الفلسطيني عن خارطة متخذي القرار، وأزيلت معه عمليا كافة الاتفاقيات التي وقعت مع زعامته حتى الآن، ابتداء من أوسلو وانتهاء بخارطة الطريق.

هذه خطوة تثير الدهشة، بكل أبعادها وها هي تمر بهدوء تام. لم ينتبه أحد إلى التفاصيل فيما عدا شارون ورجالاته. لقد داس حذاء المجتمع الدولي الكبير الشعب الفلسطيني دون أن يشعر بذلك، وكأنه نملة.

هذه نهاية المسيرة التي بدأت فور عودة رئيس الحكومة آنذاك، إيهود براك من مؤتمر كامب دافيد في صيف عام 2000. بعد فشل المؤتمر قال براك مقولات تحولت فيما بعد إلى حجر الزاوية في تحديد سياسات حكومات إسرائيل كلها: "قلبت كل حجر في الطريق إلى السلام / طرحت على الفلسطينيين اقتراحات أكثر سخاء من كل من سبقني / رفض الفلسطينيون كل الاقتراحات / عرفات يريد القذف بنا إلى البحر / ليس لدينا شريك للسلام".

ترتكز هذه المقولات على سلسلة من الأكاذيب تم دحضها منذ زمن بعيد. لقد نشر شهود عيان أمريكيين مثل روبرط مالي، مستشار الرئيس بيل كلينتون، بمشاركة قسم من المشاركين الإسرائيليين والباحثين الدوليين تقريرات مفصلة تثبت أن براك هو المذنب في الفشل مثل عرفات على الأقل – ومن الناحية العملية أكثر منه بكثير.

وها هي عدة أمور تحدث في إسرائيل، في الوقت الذي قرر العالم فيه دون تفكير بأن الشعب الفلسطيني ليس شريكا للسلام، تقلب الأمور رأسا على عقب.

المفكر الأكبر في نظرية "ليس لنا شريك" هو الجنرال (احتياط) عاموس غلعاد، الذي كان في تلك الفترة رئيس قسم الأبحاث والرجل رقم 2 في شعبة الاستخبارات. (يتقلد اليوم وظيفة كبير المستشارين السياسيين-الأمنيين لوزير الدفاع). لكون شعبة الاستخبارات هي السلطة المخولة الوحيدة لتحديد التقييم السياسي-الأمني في الدولة، فإن لها تأثير كبير على تحديد السياسة الوطنية.

يقدم رجل شعبة الاستخبارات تقاريره إلى رئيس الحكومة مباشرة ويشارك في اجتماعات الحكومة. لا يجرؤ أي وزير على الاعتراض على تقديراته المقبولة على الدولة كلها، دون اعتراض. من شأن رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات أن يقدم الاستشارة المهنية باسم وكالة الاستخبارات، بحيث ترتكز على الكمية الهائلة من المواد الاستخباراتية التي تجمعها. يمنع أغلبية الوزراء من قراءة الاستشارة المكتوبة ويسمح لسائر الوزراء قراءتها قراءة سطحية. ولذلك يعتبر الإجمال الذي يقدمه رئيس قسم الأبحاث شفويا إلى رئيس الحكومة والحكومة هاما جدا.

لقد بالغ عاموس غلعاد أكثر، فقد كان يظهر كل يوم تقريبا في وسائل الإعلام ليطرح رأيه حول أي حدث سياسي وأمني. لم يكن "المقدّر الوطني" فحسب، بل كان "الخبير الإعلامي الوطني" كما كانت تسميه وسائل الإعلام.

من هو ذلك الرجل الذي يؤثر على حياة الدولة أكثر من أي شخص آخر خلال سنوات تعتبر مصيرية، والسياق الذي يطرحه ما زال يوجه الدولة حتى اليوم؟ هو نفس الرجل الذي قدم دعوى قضائية، قبل عدة أيام يطالب فيها بمنحه حقوق معاق جيش. هو لم يصب في الحرب، لا سمح الله، غير أن وظيفته الشاقة قد سببت له، حسب ادعاءاته، أضرارا نفسية غير مرتجعة.

تشتمل هذه الدعوى على نسبة لا بأس بها من الوقاحة، إن لم نقل أكثر من ذلك. ولكن هذه الوقاحة تطرح سؤالا: متى بدأت هذه الإعاقة النفسية؟ متى ظهرت أول عوارضها الأولى؟ هل كان ذلك في الفترة التي أعلن فيها من على كل المنابر بأن عرفات يريد قذفنا إلى البحر؟ ولربما كان هذا الإعلان ذاته أحد عوارض مشكلته النفسية؟ وكيف تجرأ على الاستمرار في منصبه حتى اليوم؟

يدور في إسرائيل، في الأسبوعين الأخيرين نقاشا حادا كان من شأنه زعزعتها.

رئيس شعبة الاستخبارات الأسبق، الجنرال (احتياط) عاموس مالكا، وهو من كان قائد غلعاد المباشر، كسر صمته الذي تواصل لعدة سنوات وخرج باتهام صارخ: لقد توصّل عاموس غلعاد إلى "تصوراته" دون أي استنادات استخباراتية. بل على العكس، فإن الكميات الهائلة التي جمعتها شعبة الاستخبارات كانت تفترض العكس تماما. هذا يعني أنه قد اخترع تقديره الاستخباراتي من مخيلته، مستندا إلى ميوله السياسية و/أو لكي يحظى باحترام رئيسيه السياسيين، براك وشارون.

لقد أثار هذا الاتهام ضجة في الأوساط المهنية. لقد خرج أصحاب الاستقامة التي لا غبار عليها من عزلتهم وأيدوا ادعاء مالكا بشكل علني. وكان على رأسهم الميجر جنرال إفراييم لافي، من كان مسئولا في تلك الفترة الهامة عن قسم الشؤون الفلسطينية في شعبة الاستخبارات، وكان الرجل المخول بإجمال المواد الاستخباراتية عما يحدث لدى الزعامة الفلسطينية. في الجدال المهني بين عاموس وعاموس، يخرج الآن عاموس مالكا منتصرا.

ولتوضيح الأمر نقول بكلمات بسيطة: لا توجد أي إثباتات استخباراتية تدعم الادعاء بأن عرفات يعمل للقضاء على دولة إسرائيل، وأن عرفات أوقف عملية السلام ليسلك طريق الإرهاب، وأن عرفات غير مستعد لتسوية معقولة. لقد كانت تستند هذه الادعاءات التي تفوه بها سياسيون وجنرالات على أنواعهم، على "تقدير" رجل واحد كان يمثل شعبة الاستخبارات، بينما كان يخفي التقديرات المهنية الحقيقية التي كان يقدمها خبيرو شعبة الاستخبارات وجهاز الأمن العام.

في أوجّ هذا النقاش تدخّل فيه أيضا المستشرق ماتي شطاينبرغ، الذي كان مستشارا خاصا لرئيس جهاز الأمن العام للشؤون الفلسطينية. لم يكتف شطاينبرغ بالقول بأن "تصورات" غلعاد كانت كاذبة تماما وكانت تتعارض تماما مع المواد الاستخباراتية التي جمعها رجاله. وقد أشار إلى حقيقة أكثر غرابة: لقد "حققت التصورات ذاتها".

ولأن إسرائيل أقوى من الفلسطينيين بكثير، فإن أعمالها هي التي تفرض الواقع. لقد كانت نتيجة الإجراءات التي وجهتها "تصورات" غلعاد مناسبة لهذه التصورات. كما حدث في "التصورات" الخاطئة لرئيس شعبة الاستخبارات إيلي زعيرا التي كانت السبب في كارثة يوم الغفران، هكذا كانت "التصورات" الخاطئة لعاموس غلعاد سببا، وما زالت تسبب، كوارث الانتفاضة الحالية. وفق ما يقوله قائده المباشر (مالكا) وقيادته المباشرة (لافي)، فقد طرح غلعاد أمام المستوى السياسي صورة كاذبة عن استنتاجات أجهزة المخابرات. أي أنه طرح تقديره الشخصي الذي لم يكن له أية ركائز، وكأنها كانت تقديرات موثوق بها من قبل خبيري شعبة الاستخبارات.

لقد ألحق غلعاد ضررا غير مرتجع، فإن الجمهور الإسرائيلي برمته وجزء من الرأي العام العالمي قد قبلوا ادعاءاته. لن يغيّر دحض هذه التصورات لدى الأوساط المهنية هذه الحقيقة. يبين قرار "المجموعة الرباعية" ما مدى عمق جذور هذا الكذب في الإدراك الدولي.

على فكرة: تُجمع هذه التصريحات على أن تقديرات المستويات المهنية الكبيرة في شعبة الاستخبارات وجهاز الأمن العام كانت تتطابق تماما مع التقديرات التي نشرتها "كتلة السلام" في ذلك الوقت، والتي واجهت في حينه انعدام ثقة تام من قبل وسائل الإعلام والجمهور، ومن بينه جزء كبير من "معسكر السلام". هذا يعني أن الزعامة الفلسطينية بزعامة عرفات لم تتخل في أي وقت من الأوقات عن استعدادها للتوصل إلى سلام مع إسرائيل على أساس إقامة دولة فلسطينية على 97% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة (التي هي حوالي 22% من فلسطين في فترة الانتداب)، الحصول على تعويضات جغرافية عن الـ 3% المتبقية، وسيادة فلسطينية على القدس الشرقية الحرم الشريف. سيتم حل مشكلة اللاجئين في إطار اتفاقية مع إسرائيل (أي أن إسرائيل ستتمتع بحق الفيتو على أي حل يتم طرحه).

تفيد وجهات نظر خبيري شعبة المخابرات وجهاز الأمن العام الموثوق بها، بأن عرفات لم يتزحزح عن هذا الموقف. واستنادا إلى ذلك من الممكن التوصل إلى اتفاقية سلام الآن أيضا، كما صادق عرفات بنفسه على ذلك في مقابلة أجرتها معه هذا الأسبوع صحيفة "هآرتس".

أريئيل شارون ينكر ذلك بالطبع، لأنه غير مستعد للسلام وفق هذه الشروط. إنه ينوي ضم 55% على الأقل من مساحة الضفة الغربية آملا بذلك أن تتحول حياة الفلسطينيين في الـ 45% المتبقية إلى حياة لا تتطاق، وأن يتم تهجيرهم من البلاد. شمعون بيرس مستعد لمساعدته على تحقيق هذه الخطة.

يحتاج شارون، بهدف تحقيق خطته، إلى شعار "ليس لدينا شريك". لقد زوده عاموس غلعاد بالبضاعة التي يحتاج إليها. لقد تبنت "المجموعة الرباعية" الآن هذا الشعار، وألحقت بنفسها الخزي والعار وضربت احتمالات السلام ضربة قاضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر