الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يتحول الماضي إلى عبء مميت

زهدي الداوودي

2010 / 1 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


لعل أسوأ عادة يقترفها السياسي هو جهله بعلم التاريخ بشكل عام. وتكون المصيبة أعظم عندما يتعلق الأمر بتاريخ بلاده هو، إذ ذاك يضع قدميه، على أرض هشة قد تؤدي به إلى الغوص، ليس إلى ركبتيه، بل إلى قمة رأسه في الوحل. وفي هذه الحالة لا يسيء إلى نفسه حسب، بل يدحرج شعبه أيضا إلى أعماق المستنقع. هذا عندما يكون السياسي جاهلا بالتاريخ، سواء تاريخ العالم أم تاريخ شعبه.
وأحيانا يدفع الفضول أو تحريض أو نصيحة من هذا أو ذاك، إلى أن يجشم السياسي نفسه عناء تناول كتاب في التاريخ، ليتبجح بين أقرانه السياسيين بأنه مطلع على هذه المادة، بيد أن مشكلة أخرى تطفو على السطح، ينبغي معالجتها بصورة جذرية، ليس بمقدور كل سياسي اقتحامها أو التغلب عليها، ألا وهي: فهم التاريخ. كيف ينبغي على السياسي أن يفهم التاريخ؟ سواء تاريخ العالم أم تاريخ بلاده. وبالناسبة فإن موضوعة فهم التاريخ لا تشمل السياسي فحسب، بل القارئ العادي الذي له رغبة شديدة في الإطلاع على التاريخ أيضا، إذ أن هذه المادة سلاح ذو حدين: حد يؤدي إلى الطريق القويم وآخر يؤدي إلى الهلاك.
نقول أن السياسي الذي جشم نفسه عناء تناول كتاب التاريخ، بدأ يكتشف في طي التاريخ أشياء (جديدة) لم يسبق لأحد من أقرانه أن أكتشفها من قبل، أو هكذا صورته له مخيلته الفارغة. وإذا به يكتشف بأن تاريخ شعبه حافل بالأمجاد وأنه يعود مئات بل آلاف السنين إلى ما قبل الميلاد وأن شعبه قد أسس إمبراطورات عظيمة حكمت كل العالم القديم، وأن معظم الدول المجاورة كانت عبارة عن ولايات تابعة، وأن أساليب الغدر والخيانة هي التي أودت إلى نشوء تلك الدول المصطنعة. وأن أخطاء التاريخ يجب أن تصحح وأن التاريخ نفسه يجب أن تعاد كتابته من جديد. وأن السياسي القائد إنما هو امتداد لأولئك القادة العظام الذين قادوا تلك الإمبراطوريات الأسطورية. وأن وأن وأن...
ويكتشف السياسي أنه ولد من أجل أن يكون قائدا لتحقيق رسالة تاريخية معينة، ويبدأ بإزاحة كل منافسيه بأسلوب الغاية تبرر الوسيلة. ومن حيث يدري أو لا يدري يصاب بمرض الشيزوفرونيا (انشطار الشخصية) ويعامل شعبه المتخلف البائس مثل قطيع من الغنم. ويشتري من هو قابل للشراء ويشوي من لا يؤلهه. كثيرون هم أمثال هؤلاء، الذين فهموا التاريخ خطئا وهلكوا تحت عبئه.
في زيارة رسمية لصدام حسين في بداية السبعينات لألمانيا الديمقراطية، حين كان نائبا للرئيس، زار متحف بركامون في برلين الشرقية. وحين مر بباب عشتار وشارع الموكب في القسم الخاص ببابل، حاولت مديرة المتحف، التي كانت ترافقه، أن تشرح له بعض الأمور المتعلقة بالموضوع، فما كان من صدام إلا ونهرها بعنجهيته المعروفة قائلا:
" أتعلميني تاريخ بلادي يا سيدتي؟"

كان صدام، كغيره من أمثاله، يعتقد خطئا أنه يفهم تاريخ بلاده، بيد أن الشيء الذي لم يفهمه هو أن التاريخ لا يعيد نفسه كما هو أو كما يشتهيه بعض الحكام المستبدين، بل يعيد نفسه على شكل مهزلة، كما يقول ماركس، إذ أن التاريخ لا يعاد، بل يمكن اتخاذه كدرس. وأن بعضا من التاريخ لا يبقى ملكا للبلد المعين، بل يتحول إلى جزء من تاريخ العالم. وبذلك فإن حضارة مثل (حضارة عوجة) ليست امتدادا لحضارات وادي الرافدين العريقة وهكذا.
ولم تكن هذه المصيبة خاصة بصدام فقط. لقد حلم الكثيرون ولا زالوا، سواء في غابر الأزمان أم في زماننا هذا بإعادة أمجاد الماضي العريق والذهبي. ليس هذا فحسب، بل أنهم كانوا يعتقدون اعتقادا جازما بأن أية قوة في العالم لا تتمكن النيل منهم، فالجندرمة العثمانيون كانوا يقولون أن السماء إذا وقعت فستحملها حرابهم. وكان الجندي الروماني يعتقد أن الإمبراطورية الرومانية ستعيش إلى الأبد. ولم يؤمن هتلر بسقوط ألمانيا النازية حتى اللحظة الأخيرة من انهيارها، وهكذا.. كل هذا والسياسي يصر على ركوب رأسه و لا يريد أن يتعلم من التاريخ أو يرى الواقع ببصيرة مفتوحة. ولكن يبدو أن مرض الإصرار على تأسيس الدولة التوسعية الكبرى وامتلاك السلاح الذري ومن ثم امتلاك العالم كله من خلاله لا علاج له، الأمر الذي يؤدي إلى الصدام المسلح، غير المتكافئ غالبا فالخراب والدمار والمآسي.

كان داريوس، شاهنشاه إيران في القرن الثالث قبل الميلاد يقود إمبراطورية مترامية الأطراف، الأمر الذي أزعج الشاب إسكندر المقدوني الذي قاد حملة للتغلب على هذا العملاق، فأرسل له رسالة يبلغه فيها بالاستسلام وإلا فإن مصيره الهلاك. وكان أن أجاب داريوس بسخرية أنه يجهل قوة من يخاطب، وعليه هو الطفل الصغير أن يرجع إلى حضن أمه كي يشبع من حليبها، بدلا من التلويح بالحرب. وكان جواب إسكندر هو حتمية خوض الحرب، فإذا خسر هو، فإن التاريخ سيقول إن طفلا أسمه إسكندر قد خسر أمام الملك العظيم داريوس، وأما إذا خسر خصمه، فإن التاريخ سيقول أن طفلا قد تغلب على داريوس العظيم وهنا تكمن المهزلة. وشاء القدر، بل الظروف التاريخية والعوامل الذاتية والموضوعية، أن يتصادم الطرفان. وانهارت الأمبراطورية الفارسية أمام ضربات اسكندر المقدوني (الطفل) الذي لم يتجاوز التاسعة عشر من العمر. وهرب داريوس تاركا عائلته تحت رحمة اسكندر المقدوني الذي تزوج إحدى بناته وكرم عائلته.

لا شك أن حكومة ولاية الفقيه التي يديرها أحمدي نجاد أو خامنئي (لا أعرف بالضبط)، والتي هي في كل الأحوال ليست امتدادا للحضارات الإيرانية القديمة، تعرف هذه القصة، بيد أنها لاشك تفهمها بشكل آخر، تماما كما كان صدام يفهم التاريخ.
إنه مجرد درس في التاريخ يمكن أن يستفيد منه أحمدي نجاد ( خليفة داريوس) .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ميل جدا ولكن
اكاديمي مخضرم ( 2010 / 1 / 7 - 12:03 )
اولا تحياتي المخلصه والعائله لك ولاسرتك الكريمه وكل عام وانتم بخير وعسى ان تكون هذه السنه سنة انهاء الارهاب البغثوهابيالفاشي كما ان تكون نهاية محاولة المتخلفين الظلاميين بتاءسيس الدوله الدينيه في بلادنا الجميله لان الدين والجمال لايمكن ان يتعايشا
اخي دكتور زهدي قلما يستطيع اهل العلم ان يكتبوا نصا علميا وفي نفس الوقت جميلا وكاءنه من الفنون الجميله فشكرا لك على هذه تاتحفه ربما كهديه كريمه منك لقرائك في مطلع هذا العام الذي نريده ان يكون رؤوفا يشعب ميزوبوتاميا
المعذب الذي شبع حتى الثماله ضيما
ان ما ذكرته اعلاه في مقالتك صحيح من وجهة نظر ما حصل حتى الان او في الماضي
ولكن البشريه وبناء على خبرتها المتراكمه توصلت الى الية وضع حد لجنون هذا او ذاك من الحكام - وخصوصا في نظام الاستبداد الاقطاعي العبودي الشرقي الذي عمق وادامه الاسلام وحكم المقبور صدام واحد من اكثر الامثله وضوحا في في قساوة وحشيته- واقصد بهذه الاليه هو الدمقراطيه السياسيه التي جعلت مساحات اوسع فاوسع تتحرر من خوف ظهور مجنون مغامر يودي يحيوات مئات الالاف من الناس وجهد الملايين لسنوات طويله الى العدم والدمار
الاتعتقد ان نش


2 - شكرا جزيلا أخي الاعز أبا حيدر
زهدي الداوودي ( 2010 / 1 / 7 - 14:03 )
أجمل تحياتي القلبية لك وللعائلة الكريمة وكل عام وأنتم بخير. أشكرك لمشاعرك الطيبة وأرجو أن ابقى دوما عند حسن ظنك. ديدننا خدمة شعبنا بامكاناتنا المحدودة. أنا افتقد مناقشاتنا الودية في ليالي (البيضاء) الليبية وتعليقات المرحوم حامد شعلان . أما بالنسبة إلى مصير شعبنا بايدي رجال الدين، فينبغي أن نصبر ، ولكن الشيء الذي أعرفه وتعرفه أنت أيضا، هو أن هذا الشعب(لايقبل غلط) كما يقول الفيترجي العراقي.
دمت سالما
أخوك زهدي الداوودي


3 - الأخ زهدي
سامي القدسي ( 2010 / 1 / 8 - 20:38 )
مقال جميل ودقيق ولكن هذا لا يمنع بعض الطامحين جدا لكي يجربو حظهم ولو على مآسي شعوبهم
مع الشكر

اخر الافلام

.. الجمهوريون في فرنسا يطردون رئيسهم سيوتي بعد دعوته للتحالف مع


.. مجلة بيلد الألمانية: ماكرون حل الجمعية لإحداث -صدمة- تخلط ال




.. ما هي السيناريوهات المحتملة لتشكيل الجمعية الوطنية الفرنسية


.. تحالفات الفرصة الأخيرة في فرنسا لخوض الانتخابات التشريعية




.. ما هي الضمانات التي تطلبها حماس من أجل القبول باتفاق الهدنة