الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أُبهة النص

صبري هاشم

2010 / 1 / 7
الادب والفن


***
يا لعذابي!
كيف أعتذر لمن أحبّ
وقد مات؟
***
عشيرج مقلعُ أحجارِ البناء . مِن أين يأتي الحجرُ لصحراءَ تتاخمُ البحرَ ؟ عشيرج بئرٌ تستقي منه البحّارةُ .. مِن أين يأتي الماء ؟ عشيرج مكانٌ للراحةِ . هنا ابتنى الغرباءُ مِن غيرِ الكويتيين بيوتَهم مِن الخشبِ والصفيحِ والورقِ المُقوّى وكانت الشمسُ في صيفِ الكويتِ تخترقُ تلك الخرائب وتصبُّ جحيمَها على رؤوسِ ساكنيها الذين امتهنوا شتى المهن . في خمسيناتِ القرنِ الماضي كان أحدُ سكّانِ عشيرج وكنّا نسافرُ إليه في طريقٍ صحراويةٍ نهاراً كاملاً حتى نصلَ تلك الأنحاء . في الكويتِ في تلك الأيام مهما عملتَ لا تستطيعُ أنْ تسدَّ رمقَك ورمقَ عيالك بينما البشرُ ـ العراقيون تحديداً ـ يلهثون وراء رغيفٍ يُؤْتَدَم بالذلِّ والخوفِ وعذابِ الاغترابِ والنأيِّ عن الوطنِ الذي لم يُكرمْ أبناءه . غرباء دائماً .. كُتبَ عليه منفىً إجباريٌّ حتى عندما عادَ لعامٍ واحدٍ إلى ما تسمى أرضِ الوطنِ افترسَهُ الفقرُ والمرضُ فعادَ إلى منفاه هارباً مِن ظلمِ الناسِ والوطنِ وظلمِ الله في الوطن . " رجلٌ بلا وطنٍ " هذا التوصيف أقربُ للدقّةِ لأبي الذي مات غريباً .
حينما عدتُ مِن حروبي الكثيرةِ خاسراً .. عُدتُ أُجرجرُ خيبتي نحو بلادِ الشام .. نحو دمشق البهيّةِ . كان ذلك في زمنٍ غير محسوبٍ ربما سقط في وحلِ الطريق . كان عليَّ بعد وصولي أنْ أتصلَ بأبي الذي حذّرني مِن أمورٍ مختلفةٍ فلم أحذرْ وضربتُ بخوفِه عليّ عرض الحائط : يا بُني هؤلاء ليسوا أهلاً للوفاء . يا بُني اعتن بنفسِك وشبابِك . يا بُني هؤلاء سيتخلون عنك في منتصفِ الطريقِ . كيف عرفَ اللامنتمي كلَّ هذا ؟ لم أصغِ لما قال وركبتُ الرّيحَ . كتبتُ لهُ العديدَ مِن الرسائل مُعتذراً عمّا بدرَ مني ومؤكداً له صوابَ رأيهِ إنما الرسائلُ عادت مِن الكويتِ بعد مدةٍ قصيرةٍ مختومةً بختمِ البريدِ الكويتي بعباراتٍ أذكرُ منها : " تُوفِّيَ ، انتقل إلى رحمةِ الله ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ". كان ذلك في العام 1983 وكان أبي قد فارق الحياةَ قبل عامين مِن هذا التاريخِ وهو في سنِّ التاسعةِ والأربعين . لم يصلْ اعتذاري لأبي ، لقد فاتَ الأوانُ على هذا وفجعتني الرسائلُ العائدةُ . كتبتُ مِِن قبل شيئاً مماثلاً لهذا الكلامِ وكتبتُ أشعاراً كثيرةً إنما ما ذبحني حقاً ذلك النصّ الشعريّ الصغيرُ بحجمِه الكبيرُ في صدقِه للصديق الشاعر عبدالكريم كاصد الذي أرسلَه إليّ ضمن " ديوان الأخطاء " وهو مجموعةُ قصائد لم تُنشرْ بعد . نصٌّ يبدو للوهلةِ الأولى بسيطاً مكوّنا مِن بضعِ كلمات . أعترف أني متابعٌ جيد لما يكتبُه الشعراءُ في الوطنِ العربيّ ولن يفوتَني نصٌّ جيدٌ على الإطلاقِ ويستفزّني في العادةِ شعرُ الشعراء الشباب وأني أبحثُ عن الصورةِ الأجمل في القصيدةِ التي آخذ منها ما هو شعريٌّ وأتركُ المنظومَ لكنّ نصّاً صغيراً بعنوان " تأنيب " لعبدالكريم هزّني هزّاً عنيفاً .
يا لعذابي!
كيف أعتذر لمن أحبّ
وقد مات؟
مِنِ الشِّعرِ استعذبُ ما جاء روحاً لا مِن القصيدِ فالقصيدُ جُلّهُ مفتعلٌ ، مصنوعٌ ، مكرورٌ ومملول بينما الشِّعرُ ما جاء على اللسانِ بريئاً وما جاشَ في الصدورِ عفواً ، صادقاً . هكذا كنتُ ولمّا أزل منذ أنْ تعلمتُ قراءةَ القصيدةِ مُميزاً بين جيدِهِا ورديئِها . لا تعصفُ بكياني إلاّ الصورة الباهرة التي تأتي مُتدفقةً كنبعٍ يعلنُ عن نفسِه للمرّةِ الأولى ولا أحفلُ إلاّ بالمفردةِ التي تمنحُ المعنى بعداً سحرياً غيرَ آبهٍ بوزنٍ أو قافيةٍ فلا يشدّني إيقاعٌ مهما بالغَ ضابطُهُ في منحِهِ روحاً مادامت الصورةُ التي يسترُها مُهلهلةً ولمَن أرادَ مثالاً على ما أتيتُ به أخيراً لسقتُ عشراتِ الأمثلةِ لشعراءَ يعتبرُهم النقدُ عظاماً وتبجلُهم الدّهماء رافعةً إياهم إلى مصافِ الآلهة . فصورةُ أدونيس الباهرةُ ، نجمةٌ في رداءٍ طويل تتنزّهُ بين النخيل ، عندي أهم ما قالهُ الشاعرُ وهي ذائقةٌ على العمومِ تختلفُ عند الآخرين وما وردَ على لسانِ ـ ما يعتقد أنه ـ النفّري نثراً في المواقفِ والمخاطباتِ لا يحتلُّ سوى مساحةٍ صغيرةٍ للهذيان فيما الآخرون يرفعونه إلى مصافِ الفلاسفةِ مِن المتصوفةِ تماماً كما تحتلُّ موعظةُ جوليان ، وخطبتُهُ الطويلةُ وهو يحتضرُ أو جدلُهُ مع فلاسفةِ الرّومِ البيزنطيين عن طبيعةِ الروحِ ، حيِّزاً تكفي مثلاً . فالرجلُ فارقَ الحياةَ والنقاشُ مازال مُحتدماً لكنه ترك لنا ما نسوقُه مثلاً . لم أُفْتَتنْ بنصٍّ شعريٍّ تعمّد صاحبُه الجريَ وراءه ، قصده ووضع له وزناً وقافيةً وصار يُزوّقُهُ ويكثرُ مِن مُحسّناتِ البديعِ فيه أو نسجَهُ على منوالٍ . لم أُفتتنْ إلاّ بتلك المفرداتِ التي تخرجُ مِن الرّوحِ عاريةً وربما وجدتُها عند شعراء أهملَهم الآخرون وفاتتهم قطاراتُ النقدِ المزدحمةُ بالمحاباة والصداقاتِ والطوائفِ الايديولوجية والكراهيةِ التي يولدُها الحسدُ والغَيْرَةِ في كثيرٍ مِن الأحيان .
تصوروا أيَّ عذابٍ يعتصرُ الشاعر وهو يسبحُ في النّدمِ على عدم توصيلِ اعتذاره لمَن أَحَبَّ لأنّ الأخيرَ ـ باختصار ـ قد مات . هل يسمعُ الميتُ اعتذاراً ؟ تصوروا أيّ حزنٍ سيلمُّ بأحدِكم لو همَّ بالإعتذارِ مِن حبيبٍ ووجدَه ميتاً أو ظلّت سمّاعةُ الهاتفِ لا تردُّ أبداً أو طرقَ باباً ذهبَ صاحبُها إلى حيثُ لا تُطرقُ عليه بابٌ ؟ تصوروا كثافةَ الحزنِ في النصِّ وتلك الشحنةَ الإنسانيةَ مِن العذاب ؟ تصوروا طوفانَ العاطفةِ في هذه الندبة " يالعذابي! "الذي يقولُ عنه غوته في كتاب الحِكَم :
طوفانُ العاطفةِ يَعْصِفُ بلا طائل
مرتطماً باليابسةِ التي لا تلين.
يقذف اللآلئ ، الشّعرية إلى الشاطئ ،
وفي هذا وحده مكسبٌ للحياة .
قدرُنا ـ نحن العربَ ـ هو الشِّعرُ فلو أحصيتَ شعراءَ ألمانيا وفرنسا وايطاليا وحتى اسبانيا وهي أكبرُ بلدان أوربا الغربية لقصرت أمام عددِ شعراء العراق فقط وليس مجموع البلدان العربية وليس عبثاً ما أعلنهُ غوته أيضاً :
اعترفوا بأنّ شعراءَ الشرق
أعظمُ مِنّا نحن شعراء الغرب .
أما الشيءُ الذي نجاريهم فيه سواءً بسواء
فهو حِقْدُنا على أمثالِنا من الشُّعراء .
وهنا يقصدُ الحِقدَ على شعراء الشرقِ . أظنُّ نصاً خنقني وهزّني بقوّةٍ في ليلٍ ثلجيِّ عاصفٍ ، لا لشيء سوى للصدقِ المنبعث مِن روحِ الشاعرِ والمُتدفق بسخاء ، يستحقُّ أنْ لا أظلَّ مكتوفَ الأيدي أمامه .. أنْ لا أقفَ حائراً كحَيْرَةِ النصّ وأنْ أشيرَ إلى مكمنِ الدهشةِ فيه فمِن الجحودِ أنْ لا نُخبِرَ مُبدعاً عن جمالِ ما صنعت يداه .. ولا أجدُ ما أختم به غير قول نيتشه في أغنية القبور : " هناك ، توجد جزيرة القبور ، الجزيرة الصامتة . هناك ، توجد أيضاً قبور شبابي . إلى هنا أريد أن أحمل إكليل الحياة اليانع دوماً " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا