الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تايتانيك عراقية ...

كاظم الشويلي

2010 / 1 / 7
الادب والفن


تايتانيك عراقية ...

قصة قصيرة .... كاظم الشويلي

الإهداء : إلى الأرواح التي غادرتنا بهدوء وطمأنينة أواخر التسعينيات اهدي و ا وثق هذه السطور المتواضعة المستوحاة من قصتهم الواقعية ... اللهم .. اشهد إنني قد وثقت ......

نفض الغبار عن وجهه وهو يهرول نحو دارهم .....
تعلو شفتيه ابتسامة عريضة، قال وهو يلهث :-
- يمه يمه .... رسالة ... رسالة من أبوي ..
توقفت المرأة عن كنس باحة الدار نظرت إلى ولدها ( حسين ) ذي العينيين العسليتين وهي مندهشة ابتسمت بحزن ....
قرصت خده الذي يشبه تفاحة صفراء ....
طلبت منه أن يتهجى حروف الرسالة التي قبض عليها كما يقبض على أرجوحة العيد :-
- احزمي حقائبك يا أم حسين و الحقي بي إلى استراليا هنا بحر من الحرية هنا الفردوس المفقود الذي قضينا أعمارنا نبحث عنه ... هنا استراليا.....
باعت أم حسين أقراطها ، معاضدها ، ومحابسها وحولت كل نقودها إلى دولارات، ولم تنس أن تبيع الأشياء الثمينة التي في دارها ، حزمت بقيه حاجاتها مع قرآن كريم وسبحة مشهدية وتربة حسينية في صرة صغيرة ........
وعندما أحصت نقودها تيقنت من ان هذه الكومة من الدولارات لا تنفع إلا لشراء تذكرتين ....
واحدة لها و الأخرى لحسين لتنتقل عبر المهربين إلى اندونيسيا ثم تتبع زوجها في استراليا .....
انتابتها نوبة من السعال حادة ....
نهض حسين من فراشه وناولها أقراصها المهدئة وكوب من الماء ، ارتشفت ....
نظرت إلى حسين والقلق يساورها تساءلت في سرها .. هل يمهلها المرض حتى توصل حسين إلى أحضان أبيه ؟ ، نظرت إليه بعيون نصف مغلقه ، نهض حسين مرة أخره ودثرها ببطانية سميكة ورجع ليتصفح أوراق كتبه ........
وتذكر بأن أمه .... أخبرته بأنه من الغد سوف يترك المدرسة انهم على رحيل لكن أين الرحيل؟ ، وحدّث نفسه .......
...... هذه المدرسة
كيف أودعها......
أودع ساحتها ......
أولادها.....
كتبها....
أشجارها......
الطفولة البريئة بين أحضانها......
لكن كل هذه الأشياء تهون إذا تربعت في حضن أبي ..... قبلت أبي .... همست في إذن ابي..
ومضي حسين يتأمل صفحات كتبه، وهو شارد الذهن ....
فزت أمه من إغفاءتها ، رأت حسين في عالمه الطفولي ، وهمومه .... لكن أي هموم يحمل هذا الصبي ؟؟؟ وأي عالم سيخوضه مع المهربين، أولئك الجشعين الذين لا يرون الإنسان إلا بطاقة سفر وحفنه من الدولارات وابتزاز في عمق المحيط .....
صعدت أم حسين مع ولدها إلى ظهر زورق صغير مع اللاجئين الناجين بجلودهم يبحثون عن مأوى فهاهم من دون مأوى .. يبحثون عن الأمن .. عن الحرية .. وهاهي ارض.....الله الواسعة ..
سألت في سرها :-
( أين أنت يا أبو حسين .. في هذه الساعة ..انه خرج في ذلك المساء يبحث عن الحرية، والقليل من الكسب الحلال لقد طاردته الحكومة لأشهر طويلة وكل ما في الأمر انه اشترك في الانتفاضة الشعبية ، خرج ليعبر عن رأيه ، ولم يفلح في الهروب إلا بعد أن باع سيارته الصغيرة التي كانت مصدر رزق الأسرة و ..
خرجت أم حسين من ذكرياتها عندما سمعت صاحب الزورق يرطن بلغة غريبة و تبرع احد اللاجئين بترجمتها : -
ترجلوا .... جميعكم......
نزل الهاربون وتعدادهم يقارب الثلاثين إلى ارض جزيرة نائية خالية من البشر .....
جزيرة باردة ...... تجمعت فيها الغيوم وتضرب العواصف أشجارها الباسقة،وتوحش أصوات الرياح أجوائها .....
جزيرة خاوية من البشر ....
خاطبهم الربان قصير القامة :-
- يجب أن تدفعوا ثلاثة أضعاف الثمن وإلا ......... سأترككم هنا في هذه الجزيرة .......
فهم الهاربون إن هذا البحار( قصيرة القامة ) يسعى لابتزازهم ، لكنهم أصروا على عدم إعطائه ولو دولاراً واحدا .....
تركهم البحار ....
اخذ زورقه ومضى .....
وهناك قرب السواحل ألاندونيسية تمت صفقة في الخفاء ....
تساوم البحار ذو القامة القصيرة على بيع هؤلاء إلى بحار آخر صاحب انف مجدوع .....
بمبلغ زهيد ....
دفع البحار ذو الأنف المجدوع الثمن، واشترى السمك في الماء ....... واتجه بزورقه صوب الجزيرة النائية .....
وعندما وصل تاجر الموت صاحب الأنف المجدوع إلى الجزيرة رأى كأن السماء قد صبت كل أمطار الدنيا على رؤوس هؤلاء اللاجئين ........
فتح فمه بابتسامة عريضة نمت عن رضا وصيد آخر، وعندما اقترب من البضاعة وجد إن هولاء الهاربين أصيبوا بالمرض والرشح والحزن والأطفال يصرخون ويستنجدون ....
كانت أم حسين تسعل بشده وهي تتدثر مع ولدها حسين ببطانية سميكة ....
ووقع الصيد في شباك الصياد حيث لم يتردد اي أحد في دفع الثمن ، للبحار صاحب الأنف المجدوع ....
دفعوا
ما يعادل خمس أضعاف سعر البطاقة السابقة ، استسلموا لأجل صراخ الأطفال الذي كاد أن يفتك بهم المرض ....
صعدوا
الزورق الجديد وقبل أن يصلوا إلى سواحل اندونيسيا أعطى البحار للأطفال أقراصا منومة لكي ينام الأطفال ويخمد صراخهم فلا ينتبه حرس السواحل الاندونيسيا إلى بكاء وعويل الأطفال ، فيعتقل الجميع .....
( ياللرحمة ) أطلقتها مع حسين بصمت وشرب الأطفال الأقراص المنومة ، رفض حسين إلحاح البحار، ورده قائلا :-
- أنا رجل كبير جدا ..أتحمل عذاب الدنيا ولن ابك ....
في الصباح الباكر
هبط الهاربون إلى السواحل الاندونيسية وتلقفهم تجار التهريب ....
تساوموا
معهم في ذلك الجو البارد والأرض الرطبة طلب تجار البحر مبالغ باهظة لمجرد الصعود إلى سفينة عتيقة كأنها مصنوعة في القرون الوسطى ذات أخشاب منخورة ومحركات مترهلة .... وعلى هذه السفينة لنقل مئات اللاجئين إلى ارض السراب ...
أمسكت أم حسين ولدها ...
وصعدت إلى السفينة بعد أن أعطت آخر حفنة من نقودها ....
تعلو شفتي حسين الابتسامة حيث أخبرته أمه بأن هذه السفينة الأخيرة التي سوف يركبونها......
آخر محطة في الرحلة الطويلة وسوف يلقون بعصا الترحال في عرض المحيط ، وتختم العمر بطمأنينة وهدوء ..
وأبحرت
سفينة الفقراء المنخورة
وهي تحمل فقراء الدنيا..... الدنيا .....
لالالا
لا لم يكونوا فقراء ....
فلم يفروا من بلدهم لفقر وفاقه ، إنما خرجوا طلبا للحرية ، ورفضا لأنهر من الدماء تسيل في طاحونة الحروب اليومية التي يجزر فيها عشرات الأبرياء يوميا ......
ودوى
صوت محركات السفينة وكأنها صوت ناقة منحورة ....
وأبحرت السفينة وعلى شفاه راكبيها ابتسامة وحزن وقلق وبؤس ، وفجأة خف دوي المحركات رويدا رويدا ...
ثم توقف من دون سابق إنذار .....
ياللهول ...
الرياح العاصفة تضرب السفينة ، يتفسخ الخشب المنخور.....
وينفلق
وسط السفينة....
وكأنها أصيبت بطوربيد بحري وانقصم ظهر السفينة إلى نصفين وتفتت ألواح السفينة .....
يصرخ الأطفال من الرعب ......
تذهل النسوة .......
يتحرك الرجال بذعر
لعلهم يوقفوا تحطم السفينة ...
وكأنهم يحاولون منع جبل من السقوط ..
الرياح تعصف بشدة
اسماك القرش تفتح أسنانها المنشارية ..
الغيوم تحجب آخر نجوم الله في السماء
وبدأت السماء بالبكاء
وشرع المساء بالنواح والعويل
وهبطت دموع السماء على سفينة البؤساء المتحطمة
وغرق
المحيط بالدموع والنشيج
الأمواج تعلو بجنون.........
تحتضن أم حسين ولدها بشدة
تنظر إلى سقف السفينة الذي يحمل فوقه عشرات الهاربين
تدفقت المياه بقسوة إلى جوف السفينة ، انفلقت ألواح السفينة وكأنها صعقت ، تعلقت أم حسين بلوحة صغيرة ....
مسكتها بقوة
وهي مازالت تحتضن ولدها،
تضمه إلى صدرها ...........
الى صدرها
صدرها ...
يالخيبتها .....
فان الموج لا يرحم .....
الموج لا يرحم ،
يهبط عليهم من دون شفقة ، تنزلق اللوحة ، لكنها مازالت تحتضن حسين ، فهو كل حياتها ، نظرت إليه وهي عاجزة على إنقاذه ...
حدقت في حسين بهلع
واختلقت ابتسامة كاذبة سرعان ما تلاشت من شفيتها عندما صفعتها موجة عاتية .....
نظرت مذهولة ،
إلى أمواج المحيط ،
وكأنها تنتظر معجزة ،
أصابها الذعر ،
صرت أسنانها ،
لطمتها موجة قاهرة ،
نظرت نحو السماء ،
ارتعشت .....
ارتجت .....
حدقت ..........
شهقت ........
حسين .... حسوني ..... يبلعه المحيط ...
مازالت يداه الطويلتين تتمسكان بالسماء وكأنه ينادي الله ....
يالله
يالله
يالله
يا
غاص بوجهه الذي يشبه تفاحة صفراء ...
غاص
غا ...
صرخت الأم : -
حسين ..
حســــــــين.....
حســــــــــــــــــــــــين .....
يالله
يارسول الله
يا علــي احضرنه يا علي ...........
الوجه الصغير يغط في المياه .....
تحركت نحوه .....
احتضنته...
رفعته إلى الأعلى ......
الأمواج المتلاطمة .... تدفع نحوه لوحة صغيرة وكأنها
يد الله .....
تضع حسين فوقها يمسك حسين اللوحة بقوة.. وأم حسين ....
بدأت....
تغوص ..... تغوص ..... في المياه الدافئة ..... تغوص
بعد ان تلاشت قواها
........
حسين يستله الصيادون في الصباح الباكر....
وفيه الروح والبكاء .........
وحزن كالبحر
لكنه لم يهرول على رمال الساحل...
ولم ينفض الحزن عن وجهه الطفولي...
ولم تعلُ شفتيه الابتسامة .......
ولم ير من ركاب السفينة الـ (350 ) الهاربين غير عدد لا يتجاوز الـ 20 لاجئ
ولم تكن أمه من بين الوجوه ....
ولم يصل استراليا ...............
بلد الأحلام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب