الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الحياة والحرب والأمل

دنيا الأمل إسماعيل

2010 / 1 / 11
القضية الفلسطينية



(1)
استدراك أوّلي



دنيا الأمل إسماعيل
في حياة الشعب الفلسطيني، الكثير جداً من المشاهد المؤلمة، المحفورة في ذاكرةٍ كلما تهاوت أركانها، تجددت، وفي الذاكرة الفلسطينية تأخذ مشاهد الموت والتدمير والفقد مساحات واسعة وسع آمالهم الأبدية بحياةٍ تصون كرامتهم الوطنية والإنسانية.
وبين الذاكرة والفعل اليومي للحياة ثمة تفاصيل غير منظورة، لا يريد أن يراها أحد، ففي الرؤيا رؤية، وفي الرؤية كشفٌ لا يليق بمخططات الروح وهي تنّمق غيابها بتشديدٍ لا تشوبه سوى شائبة البصيرة وهي تدّل السائرين نياما على خرابٍ متأنقٍ بأوجاع الموجوعين، وسذاجة المتحمسين.
هي الحرب تكشف عوراتنا وهشاشة الروح وهي تزود عن حلمٍ، كلما حاول إثبات شرعيته، فاجأته المنايا من كل صوب وحدب، هل تصبح الحرب ضرورة للضحية كما هي للقاتل؟ وهل تصبح حياة الفلسطيني/ـة صدفة أمام غلبة الموت؛ قيمةً وممارسةً، أم هي عنجهية الذات وهي تخوض صراعها مع الخضوع أو الإخضاع؟ هل استدل أحدنا على هويته في غيابها المشهود في مشهدِ موتٍ يعزّز وجوده بتمزيق دميةٍ لطفلةٍ لا تعرف من فلسطين سوى مكان لهوها.
لاشك أنها الحرب، ليس غيرها من سرق حياتنا، وضيّع احتفاءنا بتفاصيل العمر وهي تذوب عنّوة عن دموعنا وشعورنا المرير بالألم والفقد. إنها الحرب وفي الحرب تتعزّز إنسانية الناس، لكن بعض ناسنا لا إنسانية لهم وهم يحاولون خطف البريق من عيوننا والأمل من نفوسنا، لكننا- أيضاً- شعبٌ مريضٌ بالأمل، منذ زمن ونحن مريضون بالأمل، ندور في فلكه المستأنَس، حربٌ تأتي، وحربٌ تذهب، وهو الباقي في النفوس ينمو حتى يصبح عملاقاً أحياناً، ويتقزّم حتى يندثر أحياناً، وبين حالة/ات النمو/ التنامي والاندثار نعيش انتظاراً لا ينتج سوى المزيد من أحلام اليقظة.
حربنا لم تزل قائمة، لم تمت بموت بعضنا، إنها كامنة فينا وبنا، وقد قالت حرب غزة الكثير غير أننا لم نفهم سوى أقل القليل
خربت البيوت وخراب الروح أكبر، فسدت الأمكنة، وفساد الضمائر أعمق، والحرب لم تزل باقية، كأحد أبنائنا الميتين، نبكي عليه ولا نستطيع له فعلا؛ فالموت آخر حياةِ حياتِه، وأول موتِ حياتِنا.
في الموت فقط نعرف حقيقتنا، وندرك عثرات قلوبنا يوم لا ينفع الإدراك صاحبه، وفي الموت تتكشف لنا زيف المرايا التي وقفنا طويلاً أمامها؛ فتمخضت قاماتنا، حتى أننا لم نعد نراها أو نرى أنفسنا.
مضت حربٌ، لكنّ حروباً أخرى لم تمضِ بعد ، بعضها من صنع أيدينا ولا فخر، وبعض ثانٍ ينتظر فرصته الكامنة بين خبايا الوجع والحياة المؤقتة / الطويلة. حياة لم نعِ فيها الحياة وفلسطين وأنفسنا.
هل ثمة حاجة للحربٍ في صراعٍ لا يحقق أهدافه إلاّ بطول قائمة الضحايا؛ بشراً وحجراً؟؟
الحرب حرب، والعدو هو العدو، ولكنّ الناس ليسوا ناسنا، قد أغوّتهم الحرب بضرورتها ووعدتهم بما لم يعد به أحد فتضرروا من غيابها حتى غاب ضررهم منها وأحكام الضرورة هنا تسد الشمس بكفٍ ضخمة لها سبعين ذراعاً ويزيد، كل ذراعٍ منها موصولةٍ بجسد لا يشبهنا سوى في بصمة عينٍ لا ترى.
عام طويل من حربٍ منزوعةِ الروح، فأحاديث الروح لا تليق إلاّ بالمراهقين والمراهقات، حرب عزّزت وجودها بأرشيف ضخم من آلام ونكبات الغافلين، أمـّا أصحاب الصحوة،؛ فلهم همومهم واهتماماتهم المختلفة عنا.
لا يليق بالتاريخ نقده، فيما يليق بالمؤرخين الجدد أن يبدؤوا التاريخ من حيث ابتدأوا وأنّ يجمّلوا هفوات الصغار بزينة أعياد الميلاد. لا؟ ليست حربنا التي قدّرناها منازل بعد أخرى وأرواحاً بجوار أرواح، وليست همتنا التي أفجعت قلوب العالم ليل نهار، وليس إصرارنا على الحياة الذي مدّ في أعمارنا، وليست الخيام من منحتنا نكبة جديدة تليق بوجعنا الإنساني، وليست عيوننا التي نظرت فرأت فخططت فحررت، وليست إرادتنا التي ألقت بنا في مهاوي الردى، إنها فقط مجرد صدفة الحياة وصدفة الجغرافيا وصدفة التاريخ وصدفة أن نكون فلسطينيين.
صدفة جعلتنا الحرب نكتب عنها، وصدفة لم يزل في قلوبنا بعض التساؤل غير المحمود لمن كانت هذه الحرب.



(2)
وقتٌ للتراجع

لمرة ليست أخيرة، تتعرض غزة لحربٍ إسرائيلية جديدة، ولمرة ليست أخيرة، نعيش حالات الموت والدمار والفجيعة، كل بيت من بيوتنا مفجوع، وكل لحظةٍ من عمرنا الباقي ستظل تحمل عبئها الإنساني، الذي خلفّته الحرب حتى تحول هاجساً وهوساً. مئات القصص أعطتنا إياها الحرب عطاءً متبوعاً بالأذى، أخذت منا الذكريات وأبقت لنا الحنين بطبعة جديدة عصرية تتوافق مع حداثة تكنولوجيا الحرب وفسفورها الأبيض. أخذت أعماراً وأجساداً وأحلاماً في المهد ومشاويراً لن تكمل سيرها أبداً.
النهارات العادية لم تعد آمنة، والتجوال في الشوارع ليس آمناً وكذلك اللعب أمام الدار، والذهاب إلى المدرسة والعمل والسوق والمشفى والمسجد والكنيسة، البقاء في البيت أو الخروج منه، النظر إلى السماء أو إلى الأرض أصبح محفوفاً بالمخاطر، لا يحمل سوى الموت أو الإعاقة أو الرعب في أحسن أحوال الحرب.
لا راية بيضاء تدل على بياض القلب وسذاجته، ولا مشاحنة خاطفة بسبب حليب الصغار أو خبز من يكبرونهم، ولا حتى خوفك الإنساني مقبول أو مبرر. كل شيء قد ينتهي إلى موت محقق، وكل شيء يتوقف على مزاج الجنود، وما أكثر الأمزجة السيئة التي أودت بحياة أهلنا وبيوتهم التي شاركتهم الشهادة كما شاركتهم الحياة.
في الحرب كل شيء مباح، هذا درس الاسرائيلين، الذي لم نتعلمه جيداً، وفي كل مرة ثمة آمال مبتورة بتغير الحال، لكنّ الحال هذه تزداد رسوخاً وضخامة مع كل روح لا تتمكن من وداع حياتها بشكلٍ إنساني.
في الحرب أيضاً نعرف أنفسنا أكثر، مواطن ضعفنا قبل قوتنا وانكسارنا قبل كبريائنا، و ربما أيضاً مكرنا قبل إنسانيتنا، لكنها المعرفة العابرة/ المقيمة، كل حسب درجة حساسيته للحرب ومنها.
خوف ورعب، وأحلام وآمال، دموع وابتسامات؛ انفتاح وعزلة، مشاعر إنسانية متضاربة، غريبة أحياناً وجميلة أحياناً ودفء أحدها يذهب برد الآخر، إننا الفلسطينيون الأشد غرابة يقسون على أنفسهم في غير محلٍ للقسوة، ويلجئون إلى الحنين بعد انتهاء مفعوله.
أخذت منا الحرب أشياءً كثيرة، وأعطتنا أشياء ذات قيمة، أهمها كشفاً بحساب الذات ومساحات الصدق والخديعة التي رافقتنا سراً وعلناً ؛ ليلاً ونهاراً وبلا مضض. لكننا في كل الأحوال لسنا بحاجة إلى حرب جديدة لنسد نواقص الحرب السابقة، إننا بحاجة ماسة إلى الحياة بلا موت غير طبيعي، بلا حزن مفتعل أو فرح زائف، نحتاج الحياة كما هي في خلقتها الأولى، بهيةً في وطنٍ بهّي.
طويلة جداً هي الليالي في الحرب، لا تنبيء عن ليالٍ حالمة، أصوات الموت تقّضّ مضاجعنا الضيقة والباردة رغم كثافة الحضور البشري، الخوف أثلج أطراف الأصابع وجعل العيون تحملق في ظلامها الطارئ، لعلها تمسك ببصيرة زرقاء اليمامة قبل بصرها وتصدّ الموت عن الديار، لكن هيهات بين أزمان و أزمان وبشر وبشر وعدو وعدو. كل شيء ليس هو، كل شيء مفعول به كل شيء. حالة من العجز والضمور تلف أجسادنا متبوعةً بندمٍ صاعدٍ على الحياة والأسرة والأطفال والبيت والسيارة وزهرات الحديقة، ما قيمة الأم دون أطفالها وما قيمة الزوج دون زوجته وما قيمة البيت دون ساكنيه. خربت البيوت واستشهدت أخرى، استبدلت بخيام لا تمنع عن الروح بردها ولا عن الجسد رعشة الخوف من المجهول في وطن يضيق بأهله وعدوٍ لا ينام سوى على صراخ أطفاله.
غالية هي الأوطان، لكن وطننا موبوء بحب الموت أكثر من الحياة، عاشقٌ انتحارّي، وعشقه يودي إلى المهالك، وكم من مهلكٍ جميلٍ بشرّنا بالحرية على غير موعدٍ قريب أو بعيد ، لكنه الوطن لا مفر منه ولا مفر إلاّ به ، وكل أملٍ خارجه زائف وكل موتٍ في كنفه جميل. فهل ثمة من يعيد وطننا إلينا، يرد بضاعة الأمل إلى نفوسنا، والعزيمة إلى إرادتنا، هل من أحد لا يشبه أحدنا، لا يعرف من الأوطان إلاّ عشقها، لا مالها أو جاهها، هل من أحد اكتوى بنار ناسها فحوّلها أضواءً تمحو صغائر النفوس، تعلو بالهمم، ترنو إلى غدٍ أقل بؤساً، إن لم يكن بهياً، هل من بيتٍ مهمومٍ بأبنائه قبل تعلية طوابقه، وهل من مدرسة تدرك قيمة اللغة قبل قيمة التغريب، وهل من حزبٍ في بلادي يخدم الناس لا أن يستخدمهم، وهل من مواطن حق /ـة يفعل قبل أن يطلب، يبادر قبل أن يشكو، يتعلم قبل أن يندم، وهل من كاتب ومبدع/ـة ينتصر لضميره قبل مصلحته ومصالح البعض؟ هل...
أعطتنا الحرب فرصة ذهبية لنرّبي أنفسنا من جديد ، لنبكي على ما فات؛ غرض الاحتراز للمستقبل، أعطتنا فرصة أن نكون ذواتنا التي كانت، دون عوارض التسييس والتحزيب والتجييش والتمدين. أن نجلو عن نفوسنا ما علق بها على غير انتباهةٍ منا، أو بقصدٍٍ طارئ، لابد له أن يزول بصحوة إرادتنا وعزيمة أرواحنا المنتمية إلى فلسطين. فلسطين التي نسيناها بفعل غافلٍ هو نحن، لا أحد غيرنا من غيّبها، لا أحد غيرنا من قتل البريق في عينيها .
ثمة وقت للتراجع، وما أجمل التراجع إن حمل البشائر، وما أجمل الاعتراف من عاشق لم يقدّر معشوقته حق قدرها ، لم يعشقها كما ينبغي، بل عشق ذاته فيها وبها ومن خلالها. آن لنا أن نعترف جميعاً أننا لم نكن نعرف وندرك معنى العشق في محرابها وتحت قدميها. آن لنا أن نعترف بالقديم والجديد من أوزارنا؛ ففي اعترافنا تطهّر من الإثم ، وفي الاعتراف عودة إلى العشق، وفي الاعتراف صحوة للضمير والقلب، وفي الاعتراف وعد بالعدل، وفي الاعتراف أمل بالفهم، فلنعترف – آمل قريباً-.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائعة
حبيب هنا ( 2010 / 1 / 13 - 07:07 )
رائعة يا دنيا وأين كنت غائبة

اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله