الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنازة عسكرية لشهداء العيد

إكرام يوسف

2010 / 1 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


مثلما اعتدت كل عام، أحضرت أجندة التليفونات استعدادا للاتصال بالأصدقاء والصديقات لأهنئهم بعيد الميلاد المجيد، وككل عام أشعر بالخجل من نفسي لأنني لم أبذل ما يكفي من جهد لمعرفة طريقة للاتصال بميس جورجيت صبحي ـ مدرسة اللغة الإنجليزية في مدرسة حدائق القبة الإعدادية قبل أكثر من ثلاثة عقود ـ التي كان لها فضل تعلقي باللغة وحصولي على الدرجات النهائية دائما فيها، ومازلت أحمل فضلها جميلاً سيظل يطوق عنقي حتى آخر أيام حياتي. فما أن هممت بالاتصال، حتى داهمني خبر اغتيال ستة من الأشقاء شركاء الوطن في نجع حمادي يوم العيد وأثناء خروجهم من دار العبادة فرحين مستبشرين بعام جديد سعيد وسط أهلهم وأحبائهم.

أسقط في يدي، وشعرت بغصة في حلقي ومرارة كالعلقم. بأي وجه أتصل بهؤلاء الأحبة؟ وهل أهنئهم بالعيد أم أعزيهم وأعزي نفسي في مصر التي كانت؟ يوم أن كان الدين لله والوطن للجميع ليس مجرد شعار وإنما حياة يومية وممارسة تلقائية بين أخوة شركاء أصحاب وطن واحد.. يوم أن كان شعار الجميع "الدين المعاملة" و"ربنا رب قلوب" يقولها البسطاء والمثقفون والفقراء والأغنياء.. يوم كانت مصر، التي احتضنت أبنائها بمختلف انتماءاتهم وأرضعتهم محبة الله وعشق الوطن ومشاعر الأخوة الحقيقية. يوم أن كان الأزهر رمز الاعتدال والوسطية، قبل أن تهب علينا أعاصير التعصب المحملة بغبار الكراهية الخانق الذي يعمي العيون وينزع المحبة من الأفئدة، ليستبدلها بعقيدة ابتدعوها (الولاء والبراء) لا تهدف إلا إلى شق الصف والتبرؤ من إخوة الوطن ادعاء لولاء مزيف يقولون كذبًا إنه لله وتعاليمه!

وعندما وقعت أولى ظواهر ما أسموه بالفتنة الطائفية في أوائل السبعينيات التي عرفت وقتها باسم أحداث الزاوية الحمراء، دقت أصوات وطنية مشفقة ناقوس الخطر، معلنة أن ما حدث غريب على الروح المصرية الأصيلة التي لم تعرف التعصب يومًا منذ أن كان المصريون يعبدون آلهة متعددة، ويحترم كل إقليم معبودات الأقاليم الأخرى، بل ويتشاركون في الاحتفالات، ولم تعرف مصر التعصب بأي من أشكاله إلا في عصور الانحطاط، عندما حكمها من استطاعوا في غفلة من الزمن تولي أمرها وهم لا يستطيعون مجاراة ثقافة أهلها وتحضرهم. ثم توالت الأحداث بعدما أدمنت الحكومات المتعاقبة اللعب بالنار، في كل مرة تشعر باحتدام غضب الناس من سياساتها وفسادها، تشعل فتنة تلهيهم وتصرف أنظارهم عن فسادها وقراراتها المدمرة للوطن.

وكنا جميعا، مسلمين ومسيحيين، نردد في كل مرة أن مثل هذه التصرفات لايمكن أن تصدر عن مصريين حقيقيين، وإنما هي بفعل أصابع من الخارج ـ صهيونية غالبا ـ تحرك عملاء جهلة ومجرمين في الداخل لا يعنيهم أن تتمزق البلاد وينشق الصف الواحد. ومع وجاهة الرأي وصحته أيضًا، إلا أن الأحداث المتوالية تكشف أنه ليس سببًا وحيدًا. فمع تردي أحوال مصر بسبب فساد حكامها الذين صار ولاءهم لأولياء نعمتهم خارج الحدود، ومع اضطرار شباب المصريين للنزوح شرقًا بحثا عن لقمة عيش لدى مجتمعات هبطت عليها ثروات فجأة فصارت بحاجة لمن يساعد في بناء مجتمعات حديثة، بدأ تغير مخيف يعتري عقول بعض من سافروا وعادوا بأموال النفط وقدرًا من ثقافته التي استقوها من "شيوخ" بلاد الأشقاء. ولما كان لقب "شيخ" يحمل في مصر مدلولاً دينيا، صار لدى شبابنا الذي هجر بلاده للمرة الأولى استعدادا نفسيًا لتقبل آراء أي "شيخ"، غير مدركين في أول الأمر أن هذا اللقب لديهم إنما يحمل مدلولا اجتماعيا يدل على الوجاهة وليس على التبحر في الدين.

ولا شك أن بعض هذه الأفكار التي لا تنتسب في الحقيقة لأي دين بقدر ما ترجع إلى عادات وتقاليد شعوب تأصلت لديهم من قبل ظهور الإسلام، لقيت هوى عند بعض متلقيها من شبابنا لأنها غازلت نزوعًا متخلفًا لديهم يعلي من شأن الذكر على حساب الأنثى بصرف النظر عن التمايز الفكري أو الثقافي أو العلمي، ويعلي من شأن من يمتلك المال على حساب من يمتلك العلم أو الثقافة. فصار البعض منهم يشعر بتميزه على أقرانه وأقربائه في الوطن بسبب الأموال التي عاد بها ومكنته من امتلاك بيت وسيارة بينما يعاني أبناء محيطه ـ ومنهم من يتفوقون عليه علميا وفكريا ـ شظف العيش في ظل حكومات فاسدة أضاعت ثروات البلاد كما أضاعت هيبة مواطنيها وكرامتهم. فلم يكن غريبًا أن يسعى هذا "البعض" إلى تقمص ثقافات المجتمعات التي منحتهم فرصة الصعود الاجتماعي، بل ويحاولون فرضها على أقاربهم في الوطن بحجة أنها تمثل الدين الصحيح.

والمفزع أن العدوى انتقلت إلى حصن الاعتدال الديني؛ الأزهر الشريف نفسه، الذي صار بعض أساتذته يتوقون إلى فرصة الحصول على إعارة بمرتب مجز في بلاد الأشقاء، فكان لا بد أن يتبنوا ثقافات مجتمعاتهم ويظهروا تشبثا بآراء "علمائهم" التي تعلي من شأن النقل على العقل؛ بداية من دوران الشمس حول الأرض، وحتى رضاع الكبير والتبرك ببول الرسول.
وهكذا لم يعد الأمر مقصورًا على أصابع أجنبية تعبث بأمن الوطن وتثير الفتنة بين أبنائه، وإنما تطور إلى ثقافة متعصبة مفعمة بالكراهية أخذت تنتشر انتشارًا سرطانيًا في صدور البسطاء والجهلاء تغذيها جهات تنفق بسخاء على سلب مصر أعز ما تملك وهو ثقافتها وتراثها الحضاري بما يحمله من تسامح واستنارة وحب لكل ماهو جميل، وراق.
ولما كانت حكومتنا ـ حماها الله مشغولة للغاية بتبديد ما تبقى من ثروة البلاد وتوزيع أكبر قدر منها على المحاسيب في الخارج والداخل، وآخر ما يهمها هو أمن شعبها وسلامته، فلم يكن مستغربًا أن تتغافل عن التغلغل السرطاني لهذه الأفكار إلى وسائل الإعلام و منابر المساجد، لتصل إلى جلسات الأصدقاء وحواراتهم في المقاهي وفي البيوت.
وهكذا، لم يعد مجديًا تعليق كوارث الاحتقان الطائفي على "شماعة" المؤامرة الخارجية وحدها. فإن كانت هذه المؤامرة نجحت في بذر البذرة، إلا أنها وجدت أرضًا خصبة لاحتضانها ومناخًا مواتيًا لنموها وتكاثرها، تواطأ على إعداده حكومات انشغلت بأطماعها وفسادها واستغلت مناخ الفتنة للتعمية على مصائبها، وعناصر داخلية تعمل ـ عن جهل أو عن غرض ولحساب مؤسسات تدفع بسخاء ـ من أجل إحلال ثقافات ظلامية ومتعصبة محل ثقافة مصر وحضارتها، نجحت حتى الآن في إيقاع الكثيرين بالفعل في حبائلها.
لقد آن الأوان أن ننتبه جميعا إلى خطورة هذا الوضع الذي لم يعد يجدي معه أي محاولة لتجاهله، وأن يعلم الجميع أن كعب أخيل مصر ومقتلها ـ لاقدر الله ـ لا يكمن في الجوع، لأن المصريين جبلوا على التكافل فيما بينهم، وإنما في تشويه ثقافتها وسلبها روح التعددية السمح التي مكنتها من الاستمرار آلاف السنين واستيعابها كل الحضارات والثقافات التي مرت بها دون أن تفقد روحها الأصيلة.
ولتكن البداية دعوة لإقامة جنازة عسكرية وشعبية مهيبة لشهداء عيد الميلاد المجيد نؤكد احترام الدولة لمواطنيها ورفضها محاولات التفرقة بينهم، وتنظيم وقفات احتجاجية لرفض دعاة الفتنة والدفاع عن وحدة الصف بصورة حقيقية تلقم المتعصبين حجرا، ووقف أي برامج تليفزيونية أو صحف تنشر أفكارا تزدري أيا من عقائد أبناء الوطن الواحد وانتماءاتهم، والتأكيد على أن إعلام الدولة يملكه جميع أبناء الوطن بمختلف منابعهم الفكرية والدينية. وعزل أي مدرس يلقن تلاميذه كراهية أشقائهم في الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقا إنها مأساة ...!؟
سرسبيندار السندي ( 2010 / 1 / 8 - 15:03 )
لايسعنا إلا أن نشارككم وأنفسنا العزاء على ّهؤلاء الضحايا بمسلميهم ومسيحيهم ... إنها حقا لمأساة أن تصل أخلاقيات البعض في مصر إلى هذه الدرجة من الانحطاط والحظيظ ... مصر التي كانت أم الدنيا صارت في أخر الدنيا من السبب يجب على مثقفي مصر وفناني ومحبي مصر قول الحقيقة والتصدي لهؤلاء الارهابين بكل حزم وشدة ومموليهم من أقذار البشرية ومسوخها قبل أن تسمم الريح الصفراء ما تبقى من المغفلين ... فإن لم الان من وقفة حق مع الحق إقرأ على مصر المزيد من الويلات والاحزان وخراب الاوطان .... تحية حب وإحترام لك سيدتي ولكل قلم ينبض بروح الانسانية ولكل المصريين الطيبين المتألمين مرة أخرى عزاءنا ... ولعنة الله علي الإرهابين الذين يدعون حب الله وعلى نبيهم مصلين ... فأين مهربهم يوم الدين غير جهنم فيها خالدين وليس مع حور عين .....!؟


2 - زمن الردة
جورج حزبون ( 2010 / 1 / 8 - 16:56 )
ابتداء احي هذا النفس الديمقراطي وثانيا ومع ملاحظة ان المد الرجعي انطلق من مصر العروبة والثقافة ، مع مع سمي بالانفتاح والتحالف مع الشيطان لضرب اليسار ، فكان ان تمرد القرد على سيده ، وافسح الطريق للفكر الوهابي الانغلاقي ، حيث يملك المال خاصة بعد الطفرة النفطية التي دفع ثمنها شباب مصر في اكتوبر ، فانتج العنف الارهاب من الفنية العسكرية الى مصطفى شكري الى المنصة والظواهري ، وكما تتعامل اليوم فتح مع حماس اذ تتزاحم معها بالخطاب الديني ، فان السلطات المصرية تفعل ذات الشيء ن وتفتح اجهزة اعلامها بكثافة لما يسمى الدعاة ( المرتزقة الجدد) وتجهد لخلق مناخ ديني وتسمح بتكفير الناس من ناصر حامد وقبله اغتيال فرج فودة ليسود بذلك فكر منغلق اقرب لايام بيبرس والمتوكل وتعود مصر الى الخل ف وتنام نواطير مصر عن ثعا لبها ، ... والنار تاكل بعضها وهنا يكون المسيحي المختلف في الرؤية ضحية وتضيع الطاسة .........


3 - اللغه الرقيقه
متفرج ( 2010 / 1 / 8 - 19:32 )
ياسيدتى الغه الرقيقه لا تصلح لمثل هذه المواقف اذا كانت نيتنا خالصه للتغيير...ورغم الشكر لك ولكن الادانه لابد ان تكون واضحه وقويه للعمل الغادر ولجميع الذين يقفون خلفه من شيوخ وائمه يصدرون كتبا بمباركه الازهر غير الشريف لتكفر مواطنيهم وتبيح قتلهم...الضمير الحى الانسانى مالم يكن واضحا فى الحكم على المجازر فكيف نرجو منه تقدما؟


4 - فلنواجه ثقافة الصحراء
بيشوى ( 2010 / 1 / 9 - 19:40 )
شكرا جدا لمشاركتك مشاعرنا وو معايشتك لألامنا و اضم صوتى الى صوتك و اطالب بمواجهة تلك الثقافة بكل قوة مواجة التعليم مواجهة الاعلام و مواجهة كل فكر يحرض على الكراهية بسبب الدين

اخر الافلام

.. الغوطة السورية .. قصة بحث عن العدالة لم تنته بعد ! • فرانس 2


.. ترشح 14 شخصية للانتخابات الرئاسية المرتقبة في إيران نهاية ال




.. الكويت.. أمر أميري بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصب


.. حماس ترحب بمقترح بايدن لإنهاء الحرب.. وحكومة نتنياهو تشترط|




.. الجبهة اللبنانية الإسرائيلية.. مزيد من التصعيد أو اتفاق دبلو