الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل2 من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 1 / 8
الادب والفن


2
حطت هزيمة 1967 أوزارها على صدر إبراهيم إلى جانب ما تبقى من فلسطين وبعض أراضي الدول العربية المحيطة بها ، فشكلت انعطافة حادة في حياته ، قتلت أحلامه على غير توقع بعد أن بدأت بالنمو . وفي الوقت الذي كان ينظر الجميع إلى الوضع الجديد على أنه سحابة صيف ، كان إبراهيم على يقين بأن هذه السحابة لن تنجلي لعقود ، ومع ذلك ، روض نفسه على التعامل مع الواقع الجديد آخذاً في الحسبان إمكانية الإفادة من كل مستجد مهما كانت مقومات بقائه طارئة.
وأنهى دراسته بعد أن جثم الاحتلال على صدر الوطن ، ولكن لم يكن أباه يملك من المال أو الموارد ما يمكنه من إرساله إلى الجامعات كي يكمل دراسته ويشق طريقه في الحياة كما خطط عندما كان فتى ، غير أن إصراره على أن يكمل علمه لم يمنعه من مواصلة الحياة تبعاً لما هو قائم على أرض الواقع ، الأمر الذي بدأ معه ، للوهلة الأولى ، مستسلماً للمصير الذي حاصره من كل صوب ، في حين عمل بدأب على تغيير هذا الواقع دون طلب المساعدة من أبيه .
وعند أول فرصة عمل أتيحت له استفاد منها دون تردد ، فلم يعد ظهوره في منطقة سكناه ذي أهمية في ظل انشغال الجيران بتوفير مقومات الحياة ورغيف الخبز ، ولم يعبأ أحد بغيابه .
عمل في إسرائيل على مدى الساعة مستفيداً من فتوته وثمن قوة عمله كي يدخر ما أمكن الفائض من النقود حتى يتمكن من استكمال دراسته عند أول فرصة ، ولم يسأل أبوه عن سر الغياب لأسابيع داخل إسرائيل ولاعن هالة السواد التي أخذت تحيط بعينيه ، كان يعرف على نحو ما ، أن إبراهيم قد قرر أمراً لا رجعة عنه مهما حاول إقناعه ، ففضل الصمت .
صمت تواطأ عليه الاثنان باستمراره ، في وقت لم يكفا عن الاهتمام بشؤون البيت ، فيما كانت الأم تعالج الأمر بكظم الغيظ .
سنوات أمضاها في العمل داخل إسرائيل ، استطاع خلالها ادخار الأموال الكافية لإكمال دراسته الجامعية ، فقدم أوراقه الثبوتية لواحدة من الجامعات الأوربية عبر سفارتها في تل أبيب ، وجاءه القبول سريعاً ، أسرع مما توقع ، فلم يتلكأ في تجهيز نفسه بعد أن حدد موعد السفر وإعلام أسرته التي وقع عليها الخبر دون اكتراث كأنها على علم مسبق بما هو آت .
وفي غيابه أخذهم الحنين إلى البكاء ؛ حط الطير على رؤوسهم ثلاثة أشهر متصلة إلى أن سلمهم البقال الوحيد في الشارع رسالة عرفوا من فورهم أن إبراهيم مرسلها ، قرأوها وتوقفوا عند بعض المعاني ، ولكن ما هو لافت للنظر؛ الجملة الأخيرة التي لم يتوقعوها : لقد أرسلت لكم خمسمائة دولار حوالة بنكهة !
كيف له أن يوفر المال ويرسله وهو في حاجة لكل دولار من أجل استكمال الدراسة ؟
معادلة حيرتهم بادئ الأمر ، غير أن سرعان ما تكشف السر عندما علما أن فرص العمل أثناء الدراسة متوفرة حتى يتمكن الطالب من توفير احتياجاته الضرورية ، بل والجامعات أيضاً ملتزمة بالتوفيق بين احتياج الطالب للعمل وبين الدراسة ، الأمر الذي من شأنه إتاحة الفرصة أمام الجميع لمواصلة التعلم .
وهكذا ، استمر الأهل والأحبة والوطن يرزحون تحت نير الاحتلال، فيما يواصل إبراهيم دراسته الجامعية ، واضعاً نصب عينيه عدم التلكؤ أو الإخفاقات حتى يتمكن من العودة إلى الوطن عند التخرج وبأسرع ما يكون؛ حتى يساعد أهله على مواجهة الحياة الجديدة التي بدأت تأخذ منحى
آخر في أعقاب وقوع كل شيء فريسة أنياب الاحتلال مهما حاول تجميل صورته منذ اللحظات الأولى ، وبالتالي فتح أبواب العمل على مصراعيها كي يلهي الشعب عن رفضه المطلق للبقاء تحت سيطرته وما يمثله من اضطهاد مزدوج يتأكد يوماً بعد يوم ، جراء نهب قوة عملهم في الأماكن التي بدأوا يعملون بها وحرمانهم من الحقوق المدنية التي بموجبها يحكمون أنفسهم من خلال الدولة والسيادة وما إلى ذلك .
على أن الأطفال والفتية استمروا في ممارسة هوايتهم في صيد العصافير بمختلف الوسائل نظراً لحاجتهم الماسة لسد رمق جوعهم جراء الفقر، وفي ظل عدم توفر الملاعب والمناطق الخضراء التي تساعدهم على التخلص من هذه الحالة، وممارسة هوايات جديدة هم أحوج ما يكونون إليها حتى يشعروا بطفولتهم التي غالباً ما يحرمون منها منذ السنوات الأولى لأعماهم ، الأمر الذي وصل ببعض دارسي علم الاجتماع إلى اعتبار هذا السلوك من الموروثات الشعبية التي تميز مجتمعات بلدان العالم الثالث عن المجتمعات المتقدمة رغم تباينها في الشكل .
أما إبراهيم الذي كان كلما شده الحنين إلى الأهل والوطن يضاعف الجهد المبذول في الدراسة؛ حتى يتمكن من الحصول على الشهادة سريعاً ، كان في الوقت ذاته يضع حجر الأساس لخطط المستقبل ، ولم يكن يخطر بباله أن تأتي الأمور على عكس ما كان يشتهي ، لاسيما بعد أن عاش حياة تكاد تحدث انفصاماً في شخصيته لعدم قدرة المزاوجة بين المتطلبات والحياة اليومية بما تحمله من صخب أشبه ما تكون بالصعقة الكهربائية ، وبين المجتمع القديم الذي خرج من بين أضلاعه للتو كي يتحسس مستقبله بعيداً عن مؤثرات الاحتلال وما يخلفه من توترات دائمة تجعل السوي معاقاً وفق مفاهيم علم النفس الحديثة .
الآن يستذكر بعد أن غمسته التفاصيل اليومية للحياة ، حجم المكابدة التي عاني منها على مدار العام الأول للدراسة ، حتى يتمكن من التوفيق بين القديم والجديد بما يحمله من مخاطر الانحراف نحو الجريمة ومحاولة تبريرها بشتى الوسائل والطرق والمسوغات التي لا تخلو من التجني على الواقع وتعليق أسباب الفشل والانحراف على شماعته .
يستذكر بوضوح ، كيف استمع لنصيحة العجوز عندما كان يصوب بالبندقية على القرش في أول أيام العيد أمام باب السينما الوحيدة في غزة ، وغادر المكان من فوره حتى لا يقع فريسة المغامرة والانحراف المبكر .
يستذكر المدرسين الذين أحاطوه بالرعاية والحنان والاهتمام المبرر الذي خلق في نفسه حب الدراسة والتعاضد مع الآخرين كلما أصاب أحدهم مكروه ، فانغرس في نفسه الانتماء للجماعة مهما كانت الروابط بين أفرادها ضعيفة .
يستذكر الضابط المصري الذي أشرف على تدريبهم في فتوة الثانوية قبل قدوم الاحتلال بعام ، وتطن في أذنيه كلماته كأني به يقف أمامه الآن : إن الفنان يرسم المستقبل بالريشة ، أما أنت ، فالوحيد الذي أراه يرسم مستقبله بشارة التصويب ، يجعل سن الإبرة في منتصف الهدف ويرسم اللحظة المقبلة كأنه يعرف إلى أين ذاهب !
يستذكر أصدقاء الصبا وأحاديث الكبار أمامهم عندما كانوا يجتمعون لحظة إدهاش غروب الشمس أمام منزلهم وهم يرتشفون الشاي ويتناولون الفاكهة ويتبادلون النوادر الطريفة ، يأخذه الحنين إلى مضارب الوطن والبيت الأول وحب الاستقرار الذي طالما تاق إليه وتسبب في ليالي الأرق وقرب انجلاء كابوسها عن صدره .
يسأل نفسه بصوت يكاد يكون مسموعاً : هل نحن ما زلنا بحاجة إلى مزيد من المعاناة والتوتر وليال غريبة عن تقاليدنا ؟
يلفه الصمت بعباءته، ويدخل تفكيره متاهة من الصعوبة بمكان الخروج منها بعيداً عن إضافة أعباء جديدة على حياته اليومية وأيام العمل التي يمارسه بغية توفير احتياجاته الضرورية من أجل إتمام دراسته دون معوقات وفي موعدها المحدد .
يغسل أطباق الطعام حتى وقت متأخر من الليل ، في مطعم يقدم الوجبات على مدار الساعة ، دون أن يشعر للحظة بالانتماء لهذا العمل، كان همه ينحسر بالدراسة وتوفير الاحتياجات وإرسال بعض النقود الفائضة إلى الأهل في الوطن ، غير مجرور بأي حال من الأحوال ، للمجون والتوترات وحالات الصخب التي لا تنقطع مهما كان الجو ملبداً ، لاسيما وأن الرقيب الداخلي كان يقظاً على الدوام ؛لم يفتح أمامه المجال للانفتاح على غرابة الجديد والانخراط فيه .
وكان إبراهيم يلتقط الحالات المقززة فيزداد نفوراً ، كأنه يرصدها من أجل هذا الغرض ، سلوك يومي غريب عما ترعرع عليه ونما في أحضانه زاده تمسكاً بالتقاليد والارتباط بالماضي رغم كل مغريات الحياة الجديدة التي لا تنقطع عن الابتكار المستمر وملائمة المراحل العمرية المختلفة . تعضه الوحشة وتقلبات المزاج ، غير أنه يستمر في القبض على نفسه وحرمانها من السير في مسالك الطرقات؛ خوفاً من أن تفضي به إلى فضاء مفتوحة على الإغراء وعدم العودة إلى القديم .
يواصل عمله حتى ما بعد منتصف الليل بعيداً عن حفلات الرقص وترنح الجميلات بقوامهن الفارع ، وإذا ما صدف ووقعت نظراته عليهن لا يتفحص المساحات المكشوفة نصف العارية كما يفعل الكثيرون ، غير أنه لم يكن أمامه بد من الابتسام عندما تحاول أية واحدة ملاطفته ببعض الكلمات التي تحمل في طياتها الكثير من التأويل والفرص ، ومع ذلك ، استمر في الحرص على بقائه نظيفاً غير آبه بكل المغريات من حوله.
وكان على الدوام ، يحاول الهروب ، كلما ضاق الخناق من حوله ، باستذكار "ريتا" حلم الطفولة والصبا ، وكيف كان يختار لها أفضل العصافير وأجملها من بين صيد اليوم ويحافظ عليه حياً حتى يقدمه لها عند عودته إلى البيت . وكانت دائماً تنتظره في بيتهم ؛ تجلس إلى جوار أمه عندما تكون مع أمها ، وتلعب مع أخته عندما تكون بمفردها، وغالباً ما كان يسمع تعليق أمه أو أمها في أعقاب تقديم العصفور :"إنه يهتم بها أكثر من أخته " !
"الله يجعلها من نصيبه" !
تحفر الكلمات في جوارير الذاكرة متسعاً لها حتى إذا ما جاء المستقبل نفضت عن نفسها الغبار وعاشت تلك اللحظات مجدداً ، ودائماً تحاول تجديد نفسها أو إضافة ما هو جديد ، وفي مرحلة الصبا تتسع المدارك وتتفتح آفاقها فيبدأ التجانس يأخذ معنى آخر وطعماً مختلفاً لا يمكن نسيانه . يتبادلان أطراف الحديث على استحياء فيأخذهما المستقبل إلى آخر مدى ، يسألان نفسيهما السؤال الحاد : هل سنكون زوجاً وزوجة ؟
هل ستنتظرين عودتي كما تفعلين الآن ودون تذمر ، أم أنك ستنصبين باللائمة وتغيرين اتجاه نظرك حتى لا يقع عليّ فيُصيبك الدوار ؟
ويصيبه الدوار على حين فجأة جراء الحسناوات اللواتي مافتئن يلاحقنه بنظراتهن اللاتي ما فتئت تصيب شغاف القلب، يهرب منهن إلى المناطق الحرشية أو المتنزهات العامة في إجازة عمل تستمر عدة أيام على أمل تصويب أوضاعه بعيداً عن التفاصيل اليومية من أطباق وتقديم الطعام .
يأخذه التفكير في "ريتا " إلى مضارب المستقبل والوعود التي قطعاها على نفسيهما بألاّ يكون الواحد منهما لغير الآخر مهما تآمرت عليهما الظروف ، فتدب به الحيوية والنشاط وتجديد الروح والإصرار على مواصلة الدراسة دون تباطؤ حتى يعود إليها في الموعد المحدد حاملاً أفضل الشهادات وآملا ًفي مستقبل واعد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب