الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضحايا المجرمون وسلطان الزمان

رمضان متولي

2010 / 1 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


لا يتعلم الإنسان إلا إذا لدغته العقارب ونهشت أنامله الثعابين، وإلهة الحكمة الجبارة لا تقبل إلا التجربة الأليمة قربانا لنعمتها رغم قسوتها وعبؤها الثقيل … يخرج الغجري من خيمته الرثة مسرعا إلى قمة التل الهادئ في غبش السحر، يكشف عن صدره العاري الذي امتلأ بالندوب العميقة والجراح صارخا: كم سنة، بل كم قرنا نحتاج حتى نداوي هذه الجروح التي اقترفتها أيادي الغدر من المماليك الجدد والسماسرة واللصوص؟
يعرف الوالي بخبرة القهر الطويلة أن عبيده الذين يدوس على رقابهم بحذائه الميري الطويل لن يجعلوه سيدا عليهم إذا اتحدوا وأشرق نور الحكمة في أعينهم المسملة واندلعت نيران العدالة الجموح في قلوبهم الهشة، يبث الفرقة بينهم ليزرع الفتنة ويشق الصفوف: "أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية!".
يتذكر الغجري، فيلتهب الهواء ساخنا وتزداد حمرة السماء والسهول والتلال من رجع الصدى. هذه الصرخة المشئومة التي أطلقها الوالي المحاصر في لعبة السادة والعبيد لم تكن سوى حلقة أخرى لحقبة جديدة في سياسة المماليك الجدد الذين وثبوا ذات صباح أليم على عرش السلطنة فعاثوا في البلاد فسادا وقهرا وإذلالا وجلبوا الكوارث على رؤوس العباد.
يصرخ الغجري في زمن الفضيحة مازال المماليك على عرش السلطنة رابضين، ينفثون في الهواء سما وفي المياه حنظلا وفي عقول وقلوب الفقراء لعنة وقنوطا وأحقادا عمياء لا تدري عدوا من صديق. كهنة السلاطين من كل دين وعسكر المماليك يبتسمون ابتسامة الأفعى، بينما التجار والسماسرة واللصوص والصيارفة يمرحون، يكدسون دماء الفقراء عسلا شهيا في خزائنهم ويستمتعون بالعبيد والراقصات في صخب القصور الحصينة. ينهمك الفقراء في معارك عبثية، يذبح بعضهم بعضا. يثأر الضحايا من الضحايا ويلوذون بالجلاد حكما بينهم طلبا لعدالة ميزانها مقلوب.
كم ضحية من نجع حمادي أكلته القروش في أعماق البحر وصاحب عبارة الموت يعيش الآن في حانات لندن بعد أن شلت يد العدالة عند باب الطائرة؟ يزعق الغجري في فضاء العبث وفي جنون المهزلة: هل انتصرنا على الشر بعد إطلاق اللحى وبعد أن سربلنا نساءنا بأغطية الرأس والنقاب؟ هل وجد المشردون سكنا يأويهم بعد أن ملأنا الطرقات والأزقة بالمساجد والمآذن العالية؟ هل زال عنا الضيم وانكشفت الغمة بعد أن انكفأنا على وجوهنا ساجدين ومنصتين إلى الإمام الذي يرفع الدعاء إلى السماء في خشوع؟ هل هدأت معدة أطفالنا وصراخهم من الجوع والهزال بعد أن امتلأت كروش أصحاب اللحى الذي لا يكفون عن مطالبتنا بالصدقات والزكاة والصبر عبر شاشة التلفاز؟!
وهل فتح المسيح ملكوت السماء لأطفالنا العراة بعد أن وشمناهم بالصليب وحفرنا صورة العذراء على أكتافنا الهزيلة؟ وهل زالت كآبة بيوتنا وجحورنا الطينية بعد أن شيدنا كنائسنا صروحا ذات أبراج تخترق السحاب؟ هل هدأت صرخات الجوعى والمرضى من أطفالنا بعد أن امتدت أيادي القساوسة بصلبانهم الذهبية وخواتيمهم وصولجانهم لتغسل رؤوسهم الصغيرة المتسخة بالماء المقدس؟ وهل نفعتنا رصانة الآباء وحكمتهم التي سخروها لخدمة السلاطين والقياصرة بعد أن أصبحنا شعبا للكنيسة وانعزلنا خانعين؟ كم مسيحا ينبغي أن يصلب كي نبرأ من خطيئة أولى لم نرتكبها؟ ولماذا يريد المسيح أن نعيش في ذل وضنك بينما القياصرة والسماسرة وسكان القصور والكهنة في رغد من العيش يمرحون؟!
يندهش الغجري أن أسئلة تحمل نفس المعنى رغم اختلاف اللغة وتستمر بلا جواب. نفس الهياكل الهزيلة والقلوب الجريحة والعيون الحيرى ونفس الصرخات، نفس الأيادي الخشنة والأعواد الجافة وشقوق الأكف وتجاعيد الوجه والبشرة الكالحة، يسكنون نفس الأكواخ الحقيرة، ويأكلون نفس الأطعمة الرديئة، ويشربون نفس المياه الملوثة، ويعانون من نفس الأمراض، بل ونفس علامات السياط على ظهورهم من نفس الجلاد، لكنهم يتخندقون في مواجهة بعضهم كالأعداء!
يأتي الجلاد بعد كل مجزرة ليحكم بين ضحاياه، يحتمي كل فريق بسياطه وكلابه المسعورة وقوانينه الظالمة ضد الفريق الآخر، بل يطالب البعض بتحويل "مرتكبي الجريمة" من الفريق الآخر إلى المحاكم العسكرية ليمنح الاستبداد شرعية شعبية فوق شرعية القوة والاغتصاب! يفرح المشايخ ذوي اللحى الطويلة والكروش المنتفخة لصلابة "المؤمنين" حتى أمام حد المقصلة، ويصطنع القساوسة المرفهون ذوي الأيادى الناعمة رصانة وحزنا زائفا بينما قلوبهم تبتهج لغضب "المؤمنين الآخرين" ورضوخهم لحكمتهم التي سترفعهم درجة أخرى في الملكوت وفي سلم الكهنوت، وترقص طربا عندما تفتح أبواب الكنائس بعد إزالة الدماء وآثار الدمار فتزداد أعداد الرؤوس الخاضعة التي تسأل في سذاجة عن النعيم المخبأ في ملكوت السماء!
وعلى الضفة الأخرى، في منتجعات هادئة فوق التلال تحيطها الأسوار العالية والأشجار الوارفة وتغطيها الظلال يتبادل مستثمروا الأحزان وتجار المأساة أنخابهم اللذيذة على أنغام الموسيقى وأطياف الحسان الراقصة. يتمايلون طربا ومرحا لأن الوالي تعهد أن يقطعهم أراض جديدة ومزيدا من العبيد وأن يمنحهم الأمن والسكينة والأرباح الوفيرة، لا يفرق بينهم على أساس الدين أو العرق أو حتى المواطنة، إنما الويل والثبور وعظائم الأمور لمن لا يقدم فروض الطاعة والولاء لعظمة السلطان – سلطان الزمان والمكان، رفيع الشان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء ومصابون بقصف إسرائيلي استهدف مباني في مخيم جباليا ومدي


.. أبرز ما تناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات الأخيرة




.. لا معابر تعمل لتربط غزة مع الحياة.. ومأزق الجوع يحاصر السكان


.. فرق الإنقاذ تبحث عن المنكوبين جرّاء الفيضانات في البرازيل




.. جامعة برشلونة تقطع علاقتها مع المؤسسات الإسرائيلية