الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات عمرها أربعين سنة في قرية كردية

عبد العزيز محمد المعموري

2010 / 1 / 15
سيرة ذاتية


ذكريات عمرها حوالي أربعين سنة في قرية كردية
الكاتب والمعلم المتقاعد عبد العزيز محمد المعموري -ناحية العبارة -بعقوبة -محافظة ديالى
ـــــــــــــــــــــــ
كنت مفصولاً من الوظيفة ، وحين تفضلوا باعادتي عام 1967 ، لم يهن عليهم ان اعود الى مكان قريب من سكن عائلتي ، فاختاروا في قرية كاني ماسي الواقعة على مفرق خانقين مندلي باتجاه منطقة النفطخانة .
القرية في غاية التخلف ، فلا ماء ولا كهرباء ولاسوق ، والمدرسة مبنية بالطين والمعلمون جميعاً يسكنون في غرفة خاصة من غرف المدرسة ، والمدرسة بلا سياج وهي واقعة في وسط القرية ، وكنا نحن المعلمين ، نراقب النسوة وهن يحملن الجـرار ليجلبن الماء من بئر قريبة تابعة للدولة مجهزة بمضخة كهربائية تعمل بالديزل .
والذي جلب انتباهي آنذاك ، ان النساء الكرديات حين يتوجهن الجلب الماء يأخذن كامل زينتهن وكأنهن ذاهبات الى حفلة عرس !
المرأة العربية في الريف تلبس ( حجل الذهب ) وتسير حافية القدمين ، بينما لانجد كردية ريفية تسير بدون حذاء ، ولاحظت في الكرديات حين يتوجهن لجلب الماء ، لاتسمع لهن اصواتاً وهن حين يردن التحدث فيما بينهن فانما يستعملن لغة الهمس لئلا تسمع اصواتهن من الغرباء .
قرية كاني ماسي تتكون من دور طينية ، فوق رابية ، لاماء فيها ولا شجر سوى بضـع نخلات على شكل واحد ولا أحد يستفيد منهن لان السكان لايعرفون صعود النخيل .
لم يكن عدد بيوت القرية كما أظن يزيد على عشرين داراً ، ومن الطبيعي ان يكون عدد الطلاب والطالبات مناسباً لعدد السكان ، كانت المدرسة مختلطة طلاباً وطالبات وقد عجبت من نظافة طلابها هذه النظافة التي لاتتوفر بأي مدرسة تعود الى قرية عربية !
وزاد من عجبي وداعة الطلاب والطالبات والتزامهم جميعاً بالنظام وحبهم للمدرسة والمعلمين ، مما لم اجد له مثيلاً في أي قرية عربية .
لم تدم اقامتي في كاني ماسي اكثر من ثلاثة اشهر ، وقد سجلت فيها ذكريات تثير العجب والاستغراب !





دخلت اكثر من دار من دور القرية فتعجبت من نظافة الدور رغم انها مشيدة بالطين ، فالحيطان والارضية مطلية بالطين المخلوط والتبن ، والناظر الى الجدران يتصورها مطلية بالجص ، أما السقوف الخشبية فهي مغطاة بورق التجليد الذي تسنده شبكة من الخيوط وحين تنظر الى السقف لاتدري اهو مبني من الكونكريت المسلح ام الشيلمان ، وهذا الفن خاص بالاكراد فقط ، وعناية الاكراد بنظافة دورهم وتجميلها شيء يحسدون عليه .
سألت زملائي معلمي المدرسة ، وكان ثلاثة منهم من البصرة ، واثنان من بعقوبة ومدير المدرسة من خانقين ، وانا المبعد الى هذه المدرسة بعد خدمة تزيد على خمسة عشر عاماً ، سألتهم مستغرباً ، عدم حدوث اية مشاجرة بين امرأتين ، فردوا علي بانهم خلال ثلاث سنوات لم يشهدوا شيئاً من ذلك .
ورغم مرور هذا العمر الطويل ، لا ازال استغرب سر الادب لدى المرأة القروية الكردية ، ودماثة طباع الطلاب والطالبات ، على عكس الطلاب والطالبات في القرى العربية ، والذين لايبدون للمعلمين أي نوع من الاحترام او حتى الخوف ! كنا نمر بالقرب من طلابنا وهم يمارسون العابا منوعة ، فيخبرهم الاخرون ، بان المعلمين قادمون ، فيجيبوهم بكل استهتار ولا مبالاة .. واذا ..
واذكر مرة وقد استلمت اول راتب بعد عودتي للوظيفة ، وحاجتي انا واطفالي الى النقود بعد حرماني من الوظيفة بتهمة غير مبررة ، وكان المفروض ان اقاضي المسببين لفصلي لوكنت في بلد يحترم القانون !
على كل حال كان الحفاظ على الراتب يشغل بالي ، فالمدرسة بلا سياج والغرفة التي انام فيها غير مضبوطة الباب ونومي ثقيل ، فأين اخفي الراتب واحفظه من السرقة ؟ قال زملائي : اطمئن لان الديرة امان !
وبعد العشاء من كل ليلة يقضي المعلمون سهرتهم في مضيف الشيخ فتح الله شيخ عشيرة الدلو ( رحمه الله ) وقد اخبر احد زملائي الشيخ بان المعلم ابو سلام يخشى على راتبه من السرقة ! هنا انتفض ابو احمد قائلاً : اتدري ان قريتنا كردية ولاتعرف السرقة الا مرة واحدة قبل حوالي خمسين سنة وظهر الحرامي عربي وقد اخذ جزاؤه




انا لازلت اتسائل في نفسي ما الذي جعل المرأة الكردية المحرومة من الدراسة ووسائل الحضارة اقول ما الذي منحها هذا السمو الاخلاقي والنظافة في المأكل والملبس والمسكن والاناقة في المظهر والتي تحاول ان تجعل من بينها معرضاً للفن ، وما الذي جعل من الاطفال الصغار بنين وبنات ملائكة في السلوك والتعامل مما لم اجد له مثيلاً في اية قرية او مدرسة عربية !
ظللت في كاني ماسي ثلاثة اشهر ، تعلمت خلالها بضع كلمات كردية ولو كانت خدمتي قد امتدت الى سنة واحدة لكنت تعلمت اللغة الكردية حرصا على التواصل مع التلاميذ الذين يأتون ولا لغة عندهم سوى لغة اهلهم الكردية .
تحية لسكان تلك القرية المسالمة المتواضعة ، وتحية لطلابي وطالباتي الذين لا اعرف احداً منهم الان ، وتحية لعائلة الشيخ فتح الله واولاده واقاربه الذي كان يغدق علينا بالترحيب والقهوة والشاي وتحية لزملائي المعلمين الذين فارقتهم منذ اربعين عاماً ولا ادري هل هم احياء ام انتقلوا الى رحمته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيه
فيصل البيطار ( 2010 / 1 / 15 - 21:55 )
موضوع لطيف فشكرا لك .... واسمح لي ان اقول انك ربما أخطأت في اسم القريه .

كاني ماسي في محافظة دهوك وهي غنية بأشجار التفاح التي أحرق بساتينها النظام الديكتاتوري السابق وتدلف اليها من زاخو وهي ملاصقه للحدود مع تركيا .


تحيه لك .

اخر الافلام

.. أزمات إنسانية متفاقمة وسط منع وصول المساعدات في السودان


.. جدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن الخلافات العلنية داخل




.. أهالي جنود إسرائيليين: الحكومة تعيد أبناءنا إلى نفس الأحياء


.. الصين وروسيا تتفقان على تعميق الشراكة الاستراتيجية




.. حصيلة يوم دام في كاليدونيا الجديدة مع تواصل العنف بين الكانا