الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القبلة بين الالتحام والانفصال

يوسف ليمود

2010 / 1 / 17
الادب والفن


رغم أن كل الفنون تنبع من الطاقة نفسها وتصب في المجرى نفسه، إلا أن لكل فن لغته التي يعبر بها عما يود التعبير عنه، فلو انشغل السينمائي بسرد الحدوتة كما كتبها الأديب، لما أفاد لا السينما ولا الأدب في شيء، إذ لكل من السينمائي والأديب، مفرداته وعناصره الجمالية وزواياه التي ينظر منها ويسكب ماءه الفني فيها. الأدب والسينما، رغم أنهما لغتان مختلفتان، إلا أنهما يتقاطعان في بعض النقاط إذ يجمعهما عنصر الزمن وخاصية الحكي، أو الاعتماد (النسبي) على الحدوتة، على العكس من الصورة التشكيلية (لوحة أو تمثال)، التي إدراكها لا يحتاج زمناً محدداً، بل إن إلمام العين بها يحدث في لحظة. بسبب انعدام عنصر الزمن في حيز الصورة الفنية، تضاءلت فرصة أو فكرة السرد (الحدّوتي) على الرسام والنحات حتى ليمكن القول إنها منعدمة، خصوصاً في الفن الحديث. لكن لو رجعنا إلى الماضي، حين كانت الأساطير تشكل منبعاً للفن، نجد الكثير من الأعمال الفنية التي اعتمدت على المعرفة المسبقة للمتلقي بالحدوتة، وبالتالي ظنت أنها تخطّت عنصر الزمن المفقود.

القبلة، فنياً، هي نوع من السرد، وجدت لعابها في فم الأدب ومن بعده السينما. إنها فعل حيوي يغمر الجسم كله بفيض من الشعور الذي يروق له أن يتباطأ الزمنَ كي يرتوي الجسد برضابها قبل أن تنفتح سدوده. ورغم أن القبلة هي معنى في ذاته، إلا أنها لا تقف عند حدود ذاتها. هي مفتاح الجسد. رمز العاطفة. نافذة الرغبة. لا كلام فيها رغم أنها شفاه. إنها لغة. زمن يضيع فيه الزمن. ربما لهذا كان الأدب والسينما هما الحائطين الأكثر إغواءً للمحبين أن يتقابلوا ويُقبّلوا تحتهما. فالحبيبان لهما اسم وقصة وماضٍ وتراجيديا مؤجلة في تسلسل الأحداث. هذا يبرر احتكار الكتَاب والشاشة للقبلة وانعدامها تقريباً في فن الرسم والتشكيل. رغم هذا، ثمة القليل من الأعمال التصويرية جرؤت على لمس شفاه المحبين، باللون أو بالحجر، بغض نظرنا، اليوم، عن نية راسميها في السرد، أو في اعتمادهم على معرفتنا بالحدوتة، أو في تناولهم المعاني المختلفة للقبلة من عفّة إلى شبق إلى غيرة إلى عطف... إلى آخره، تتجمع خطوط عملهم وتروح في بؤرة واحدة هي جوهر الصورة: شفاه على شفاه. جسد يريد أن يدخل في جسد.

المصورون: الفرنسي دومينيك آنجر، 1780 - 1867، والاسكتلندي ويليام دايس، 1806 - 1864، والايطالي أموس كاسيولي، 1832- 1891، وغيرهم، كما أيضا النحات الفرنسي الشهير أوجست رودان، 1840- 1917، وجدوا في قبلة الحبيبين فرنشسكا وباولو، رمزاً لواحدة من مآسي الحياة الانسانية والقدر: النبيلة الايطالية فرنشيسكا ريميني وأخو زوجها الأصغر باولو وقع كل منهما في حب الآخر، وذات لقاء، بينما كانا يقرآن في قصة تصور عشيقين في مثل وضعيتهما، ووصلا إلى اللحظة التي يقبل فيها العشيق عشيقته، استكملا القبلة في الواقع وسقط الكتاب من يد الأميرة الايطالية. لكن الزوج الذي كان مختبئاً وراء الستار فاجأهما بسيفه وأرسلهما معاً إلى العالم الآخر. هذه المأساة التي استلهمها دانتى في جحيمه، تناولها الفنانون المذكورون، في أعمال بديعة، لعل اللوحتين اللتين رسمهما آنجر، من أجمل وأبلغ الأعمال التي جسّدت هذه الحكاية. لكن قطعة النحت الشهيرة البديعة التي أنجزها رودان، لا شك أنها، فنياً وبكل المقاييس، بزت في جمالها كل الأعمال الفنية الأخرى التي استلهمت الموضوع، بما فيها أبيات الشعر التي سكبها دانتى دموعاً على هذين العشيقين. جرّد رودان عمله من الحدوته، كما جرّد الحبيبين من ملابسهما، وذهب إلى اللب مباشرة: قبلة تسري حرارتها في رخام جسدين عاريين.

القبلة الفنية الأخرى الشهيرة، هي لوحة الرسام النمساوي جوستاف كليمت، 1862 - 1918. الألوان والزركشة والهيكل العام لجسدي العشيقين الملتحمين... تصب جميعها في تلك البحيرة الصغيرة في أعلى اللوحة والتي هي وجه المرأة المستسلمة الذائبة في نسيج لحظة منمنمة بأشكال بهيجة وبريئة تسبح على خلفية من ذهب. لكن، على خلفية الحياة نفسها، وبالأبيض والأسود، طبع الفوتوغرافي الفرنسي الشهير روبرت دوازنو، 1912 - 1994، قبلة خاطفة في الشارع الباريسي وسط الماشين أمام فندق، أصبحت واحدة من أشهر الصور التي التقطت في خمسينات القرن العشرين. اضطر الفنان، بعد أن رفع عليه زوجان قضيةً لأنه صورهما دون إذن منهما، إلى الاعتراف بأنه هو من رتّب المنظر وأن اللقطة لم تكن عفوية. وسواء التُقطت الصورة بعفوية أو بترتيب مسبق، فلا شك أنها رائعة، وروعتها نابعة من الأفق المفتوح الذي صُوّرت فيه، والروح المبهجة التي تثيرها. إنها إحالة على توابل الحياة الرائعة لطريقة عيش حياة رائعة وممكنة.

القبلة، التي هي رمز التحام وتداخل كائنين أحدهما في الآخر، تحمل أيضا معنى الانفصال. نحن كائنات وحيدة ومنفصلة إلى الأبد. لذا كان الحب. الحب هو محاولة وصل ما قطعته الطبيعة علينا. محاولة اتحادٍ روحيّ لا تجد الروح سبيلا لتحقيقه سوى الجسد وسيطاً. القبلة، بكل أنواعها، هي تعبير عن هذا، كما هي مفتاح باب الالتحام الجسدي المؤقت. الفنان البلجيكي رينى ماجريت، 1898 - 1967، مسّ بقبلةِ العشيقين في لوحته، هذا المعني الفلسفي الوجودي: انفصال الكائنات. رجل وامرأة ملتحمان في قبلة هذا شيء طبيعي. لكن غير الطبيعي أن يكون وجها الرجل والمرأة ملثّمَين. لماذا إذن فعل التقبيل في هذه الوضعية النافية للفعل نفسه، أو الحاجبة الاتصال الجسدي في هذا العضو من الجسم، الفم؟
القبلة الساخنة يتبعها غالبا التحام جسدي. لكنها هنا، ورغم السخونة، ضرب الفنان علي الوجهين خيمة باردة جمّدت الفعل على شفا لحظة هي بداية الوصل. الذي يلتقي هنا هو القماش بالقماش وليست الشفاه بالشفاه. هل يرمز اللثام في صورته إلى الجسد أم إلى الروح؟ وهل جاء اللثام، كما قال النقاد، من المنظر الذي رآه ماجريت في صباه حين استخرجوا جثة أمه التي رمت نفسها في النهر فالتفّ القميص الأبيض على وجهها وغطّاه؟ وهل افتقد الفنان في طفولته قبلة أمه؟ الغريب أن هذا الفنان عاش مع زوجته التي ارتبط بها منذ المراهقة إلى نهاية حياتهما في توحّد وحب كاملين.

يوسف ليمود
م. جسد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا