الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوينسكي جورج بوش

صبحي حديدي

2004 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


الفصحاء من المشتغلين في البحث والتأليف والتصنيف يستخدمون مفردة "تقميش"، التي تعني ترتيب المراجع وتهيئة الوثائق وفتح المصنّفات، قبل الشروع في تأليف كتاب ما. والمؤلف الذي أتحدّث عنه اليوم جمع من التقميشات ما علوّه 1.8 متر (بشهادة الصحافي والمذيع الأمريكي الشهير دان راذر)، حين وضع نقطة الختام على آخر فصول كتابه. ويوم 22 الجاري، حلّت البركة على المكتبات والأكشاك في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا، وفي أماكن أخرى محظوظة من أرجاء عالمنا هذا، حين نزلت إلى الأسواق مئات آلاف النسخ من كتاب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون: "حياتي".
الأخبار تقول إنّ الكتاب يقع في 975 صفحة، وهو يروي حياة الرئيس الأمريكي الـ 42، طفلاً ويافعاً وشاباً ورجلاً وكهلاً، طالباً ومحامياً، عضواً في الحزب الديمقراطي والكونغرس، حاكماً لولاية أركانسو، ورئيساً للقوّة الكونية الأعظم. ماذا أيضاً؟ تعرفون، دون ريب: مغامرة مونيكا لوينسكي، غراميات المكتب البيضاوي، دراما التحقيقات ودراما المحاكمة ودراما التبرئة... هذا ما يهمّ معظم الأمريكيين في المقام الأوّل، وهذا ما يقوله منطق ترويج السلعة ومهارات التسويق.
والمرء لا يلوم الأمريكيين حقاً، خصوصاً إذا ما استعاد مناخات تلك الأزمنة المشحونة بالمسرح السياسي والجنائي والبوليسي والقضائي. وبعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية جورج أورويل "1984"، ولكن على نحو كان سيقشعرّ له بدن "الأخ الكبير" نفسه، بات الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة أورويلية كاملة الشفافية حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية تستهويه أكثر، أيّ شعر إيروسي يلهب مخيّلته، أيّ الأماكن هي الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب...
آنذاك تحدّث البعض ــ بهمس خافت سرعان ما تعالى تدريجياً ــ عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، الذي يزعم أبناؤه أنه بلد هو العالم بأسره . وهكذا حلّ زمان أمريكي عجيب أتاح لنا أن نقرأ كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية هي مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!). "لماذا يجد الأمريكيون كلّ هذه المتعة في هتك الأعراض"، سأل أنتوني لويس (دون سواه!) قبل أن يجيب بأسى عميق: "ألأننا فقدنا الإحساس بقيمة الحرّية الشخصية في المجتمع الأمريكي"؟
وشخصياً يحضرني من ذكرى تلك الأزمنة واحد من أبرز شخوص المسرح، وكنت شديد الإنشداد إليه، شديد الإعجاب بأدائه على الخشبة: ليس كلينتون، ولا لوينسكي، ولا حتى هيلاري رودام كلينتون، بل... هنري هايد، رئيس اللجنة القضائية في الكونغرس وكبير "المدراء" الجمهوريين الذين أداروا الإتهام. ثمة هالة ملائكية كانت ترفرف على وجه هايد، وعلى حركات جسده ولغة لسانه. وأمّا صوته فقد كان دائم التهدّج، تكاد العبرات تفيض من عينيه كلما اعتلى المنبر ليشرح هذه أو تلك من حيثيات إدانة كلينتون. وكان لا يكفّ عن الاستعانة بعبارة من الروائي الأمريكي وليام فوكنر تارة، ومن قصائد وليام شكسبير أو ديلان توماس طوراً؛ من نصوص "العهد القديم" حيناً (والوصايا العشر بصفة خاصة)، وخُطَب عظماء أمريكا الأسلاف حيناً آخر.
لكنّ الخصال تلك لم تكن هي التي تشدّني إليه في الجوهر، بل حقيقة أنّ المستر هايد كان أيضاً الدكتور جيكل، نقيض ذلك كلّه، تماماً كما في رواية ر. ل. ستيفنسون الشهيرة، حيث ينشطر الكائن الواحد إلى كائنين متناقضين: الأوّل نهاريّ أرستقراطي خيّر هو الدكتور جيكل، والثاني ليليّ صعلوك شرير هو المستر هايد. وهنري هايد كان رجل فضائح مالية وسياسية وقانونية، سبق للكونغرس أن أوصى بتغريمه مبلغ 850 ألف دولار، عقاباً له ولعدد من زملائه على إهمالهم الشديد في متابعة مسؤوليات إحدى اللجان، الأمر الذي كلّف دافع الضرائب الأمريكي خسارة مقدارها 68 مليون دولار.
وفي عام 1983 نظر الكونغرس في أمر توجيه تقريع إلى عضو الكونغرس الجمهوري دانييل كرين، بسبب ثبوت علاقته الجنسية بوصيفة في الكونغرس عمرها 17 سنة. لكنّ هايد هبّ للدفاع عن زميله وابن حزبه، رافضاً فكرة التقريع، ورافضاً أيضاً فكرة التوبيخ، مذكّراً الجميع أن الشفقة والعدالة ليسا متناقضين أبداً، وأنّ التراث اليهودي ـ المسيحي يقول: امقتوا الخطيئة، وأحبّوا الخاطىء!
ثمة من نموذج هنري هايد المئات، لكي لا نقول الآلاف، في مختلف مواقع السلطة وصناعة القرار في الولايات المتحدة، الذين سيقرأون كتاب كلينتون وهم يتحسسون رؤوسهم. مَن يأتي في طليعتهم؟ تعرفونه، دون ريب: جورج بوش الإبن، الذي صرّح في اللحظات الأولى بعد دخول البيت الأبيض أنّه سيردّ إلى المكتب البيضاوي شرف وكرامة الوظيفة. أيهما أسوأ، للإنصاف: مونيكا لوينسكي، أم تلفيق أسلحة الدمار الشامل العراقية وعشرات الأكاذيب الأخرى التي تُفتضح كلّ يوم... كلّ يوم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تنمو بشكل عكسي-.. طفلة تعاني من مرض نادر وهذا ما نعلمه عنه


.. بريطانيا.. مظاهرة في مدينة مانشستر تضامنا مع أطفال غزة وتندي




.. ما أبرز محطات تطور العملات في فلسطين؟


.. نازح فلسطيني: -نفسي نرجع زي قبل.. الوضع الحالي حسسنا إن كنا




.. انتبه!.. القوارير البلاستيكية قد تصيبك بالسكري #صباح_العربي