الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ذكريات الطفولة -خرنابات وما حولها

عبد العزيز محمد المعموري

2010 / 1 / 18
سيرة ذاتية


من ذكريات الطفولة
خرنابات وما حولها
خرنابات قرية عريقة تبعد عن بعقوبة حوالي خمسة كيلو مترات تتمتع بموقع ممتاز على حافة نهر ديالى فارضها خصبة وبساتينها عامرة وهي بالنسبة للقرى القريبة منها تعتبر بمثابة العاصمة ، ففيها المدرسة الابتدائية التي اسست في اوائل عشرينيات القرن الماضي ، والتي يؤمها تلاميذ قرى : العبارة ، وحد مكسر ، والاحيمر وركة حاج سهيل والدازكية ...الخ . والدوام في هذه المدرسة يتميز بالضبط المشابه للضبط العسكري والدراسة فيها جدية الى ابعد الحدود، والتلميذ القادم من القرى المجاورة اذا تأخر دقيقة واحدة عن الدوام يتعرض الى العقاب الصارم . وسوق خرنابات كانت ولا تزال عامرة بمختلف البضائع التي تحتاجها العائلة ، ومقاهيها يضرب بها المثل في النظافة والتأثيث وجودة الشاي الذي يقدم للزبائن .
وان فيها خلافاً للقرى المجاورة عدة حلاقين , بينما اهالي القرى الاخرى يستنكفون عن مهنة الحلاقة ! كان فيها قصابان او ثلاثة يذبح كل منهم ذبيحة واحدة صباحاً وتعليقها في محله ويظل ينادي : لحم .. لحم .. خوش لحم ، قوزي ! ويمسك بيده ذؤابة سعفة او (ديخة) يطارد بها الزنابير الحمر التي تتهالك على دم ولحم الذبيحة .
اذكر ان والدي رحمه الله كن يمر بالقرب من احدهم يناديه باستلطاف : ملا .. ملا خوش لحم فيجيبه والدي : الطبيب منعنا من اللحم ، فيدرك القصاب بذكاءه الفطري بان والـدي مفلس ، فيرد عليه : ملا ( وكان والدي فعلاً يحمل صفة ملا ويدرس التلاميذ القرآن ) .. ملا بلا فلوس خليهة للحاصل وكان شعار والدي : من تصبر عليه نفسه لماذا يصبر عليه الاخرون ؟ .. ولهذا لم يكن اللحم يدخل ضمن غذاء اكثر العوائل العراقية ، وعائلتي من ضمنها .
اذكر ان سعر كيلو اللحم آنذاك كان عشرين فلساً ، اما ( المعلاك ) فكان يباع بعانة أي اربعة فلوس وكان الرجال يستنكفون من شراء ( المعلاك ) ومن تلح عليه زوجته لشراءه يضطر على اخفائه بكفيه خشية ان يراه الاخرون واذا صادف ان احس به عابر سبيل يسأله باستنكار : ماذا بكفيك ؟ الا تستحي ؟ فيرد عليه وقد احمر وجهه خجلاً : تكرم اشتريته للكلاب .
وكان عار على الرجل المحترم ان يحمل بيده الدجاج والبيض وكذلك المعلاك وحتى اليوم اشعر بالعجز تجاه تفسير هذه الظاهرة .
كانت امهاتنا يجمعن بيض دجاجهن ويبعنه ليهودي يجوب القرى على بغلة يحمل عليها سلتين فيهما تبن يضع فيهما البيض وكان يشتري كل خمس بيضات بعانة أي اربعة فلوس ويبيع البيض في المدينة لابناء طائفته واذكر ان والدتي اذا كسرت لها بيضة ترش على موضع الكسر قليلاً من الطحين لمنع السائل من الاندلاق ! ولم يكن مسموحاً لنا نحن الاطفال بأكل البيض لان الحصول على الفلوس اهم من الغذاء .
قرية العبارة التي تبعد عن خرنابات بحوالي كيلو مترين لم يكن فيها دكان لبيع أي مادة فاذ ا احتاج الى قنينة نفط يربطون عنق القنينة بخيط واعلق الخيط في احد اصابع يدي وحين اصل الى المدرسة اضع القنينة في الرحلة وبعد نهاية الدوام اتوجه لاحد الدكاكين في خرنابات لاشتري النفط بفلسين واعود به الى اهلي الذين لايستعملون النفط الا لغرض اضاءة الفانوس ولايستمر اشتعال الفانوس اكثر من ساعتين .
اما الخبز والطبخ فيتم باشعال الحطب فقط ، وكان جمع الحطب وجلبه من البساتين مهمة النساء فقط ، اما الرجال فيستنكفون من هذا العمل .
ولما كانت الاعمال الزراعية آنذاك تعتمد على الجهد العضلي وعلى الحمير فقد كان امتلاك الحمار الحساوي حلماً لكل ثري ، وكان يباع بعشرين ديناراً بينما تباع البقرة الجيدة بثلاثة دنانير أي ان ثمن حمار واحد يشتري سبع بقرات !
وكانت الحمير الاصيلة معرضة للسطو والسرقة ، وكانت الحمارة الحساوية ( البيضاء) موضع رعاية وحرص العائلة و ( الاجلال ) الذي يوضع على ظهرها و( الرشمة ) التي توضع برأسها يملأ بالودع والخضرم أي الخرز الاخضر منعاً لاصابة عين الحسود .
وصاحب الحساوية لاينان الليل خشية اللصوص وبعضهم يربط حمارته بغرفة نومه وزيادة في الحرص يضع قفلاً حديدياً بيدي الحمارة ومع ذلك كان بعض اللصوص لايمنعهم مانع من الوصول الى هذه الحمير كا يفعل لصوص السيارات هذه الايام .
اعود الى مدرسة خرنابات الابتدائية للبنين التي كانت وحدها تستقطب تلامذة ست او سبع قرى محيطة ولم تكن اية مدرسة للبنات آنذاك اتذكر انني كنت في الصف الاول الابتدائي حين مات الملك غازي فخرج اهالي خرنابات رجالاً ونساءً بمسيرة صاخبة وكانت النسوة قد وضعن الطين على غطاء رؤوسهن والجميع يهتف : (( الله واكبر ياعرب غازي انفقد من داره ، وارتجت اركان السما من صدمة السيارة )) خرج التلاميذ والمعلمون ليروا ما يحدث ، وسألت احد التلامذة بسذاجة هل ان غازي قريب لهؤلاء المعولين ؟ التفت الي بأحتقار قائلاً : غازي ملك العراق الا تفهم ؟ ولم افهم لماذا يبكون على غازي وهو ليس بقريب عليهم ، اذا كان الملك قد مات فليس صعباً ان يأتي ملك بدلاً عنه ! وهكذا فكرت بعقلي الطفولي .
كان تلميذ الصف الاول لايمكن له ان ينتقل الى الصف الثاني ما لم يتقن القراءة اتقاناً تاماً وكذلك الحساب وحين جلست على الكرسي الصغير احاول جهدي ان امسك قلم الرصاص بين اصابعي ولكنه يفلت من بين الاصابع فأرفع رأسي الى السماء طالباً مساعدة الله على امساك القلم ! وكان بعض الطلاب يقرؤون درس القراءة كما تقرأ القصائد والاناشيد وهم مغمضوا العين فأسأل نفسي هل سيأتي يوم وأقرأ كما يقرؤون ربي لماذا منحتهم هذا الفهم وحرمتني منه ، ولم اكن اعرف انهم دخلوا الصف الاول قبل اكثر من ثلاث سنوات وهم رغم قراءتهم لايعرفون حرفاً واحداً ، وبرعاية والدي الملاً وخلال بضعة اشهر صرت احسن التلاميذ وصرت احرر الرسائل قبل نصف السنة بفضل القراءة الخلدونية وحرص المعلمين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو