الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد البساطي
محمد سمير عبد السلام
2010 / 1 / 21الادب والفن
في نصوصه القصصية " نوافذ صغيرة " – الصادرة عن دار أخبار اليوم بالقاهرة 2009 – يشكل محمد البساطي الشخصيات ، و الأماكن ، و الأحداث ، و اللقطات السردية كمجالات استعارية تتميز بالتداخل بين الإيحاءات النصية ، و السياق الواقعي في تجلياته الجزئية التي تجسد الصوت الطيفي للإنسان في نشوئه المجازي المتجدد خارج المرجعيات الأحادية .
إننا أمام فضاءات جمالية تقاوم النزعة الكلية في بناء الشخصية ، و درجة ارتباطها بحتميات الواقع ، و حدوده ؛ فثمة صوت إنساني فيما وراء الأشياء الصلبة ، يعلن سخريته من المعاني المثالية للاكتمال ، أو الانهيار معا ، و انتصاره الخيالي في إيحاءاته الممتدة في الزمان ، و المكان .
و رغم سطوة المرض ، و الغياب ، و التهميش على أبطال البساطي ؛ فإن لهم حضورا قويا وراء النوافذ ، و الأبواب ، و الوظائف الجسدية الضرورية ؛ إذ تعلن الروح الفردية المبدعة دائما عن اندماجها الجزئي الفريد بحكاية ، أو قصاصة ، أو تشبيه ، و كأن الغياب في المجموعة هو نقطة انتشار الأشكال الجزئية من الحياة .
إن الشخصية تنشأ ، و تتجدد من داخل أدبية الصورة في الإنسان نفسه ، في تاريخه الآخر الذي يوشك أن يكشف عن حضوره الكوني في الأشياء الصغيرة ، و خلف الجدران المظلمة .
و بهذا الصدد يرى بول ريكور أنه يمكن تأويل الوعي من خلال حركة الصور الحيادية التي تشكل عملية التبادل بين الذوات الإنسانية ؛ فالكرسي في لوحات فان جوخ يشكل صورة جديدة للإنسان ( راجع / بول ريكور / صراع التأويلات / ترجمة د منذر عياشي / دار الكتاب الجديد ببيروت مع سوي بباريس سنة 2005 / ص 151 ) .
إن السيارات المغلقة ، و الشوارع ، و الغرف الصغيرة ، و الحوارات المبتورة - في كتابة البساطي – تعيد بناء الشخصية وفقا للإيماءات المجردة في تكوينها الداخلي ، فهي تستنبت وعي الشخوص في سياق التفاعل بين الصور ، و الصوت الإبداعي الخفي للفرد بداخلها .
في نص " نوافذ صغيرة " يندمج وعي الراوي بالإشارات الواقعية / الاستعارية التي تشكل صورة تعبيرية للذات الإنسانية في حالتها الطيفية ؛ فثمة يد تمتد من سيارة لنقل المسجونين ، باتجاه الراوي أثناء ذهابه للعمل ، و يطلب صاحبها علبة سجائر كليوباترا ، و يدور بينهما حوار حول عمل الراوي في وزارة المواصلات ، ثم يتصاعد دخان السجائر من خلف النافذة .
اليد هنا تؤدي وظيفة إبداعية مضادة لأصالة صاحبها / الآخر ؛ فهي جزء من إيماءات مجازية تمثل صوتا جمعيا لحركة الأشياء ، و قد اكتسبت حضورا إنسانيا جديدا ، ينبع من تحول المشهد من السياق الحتمي للعمل ، و السجن إلى تحرير العناصر في فضاء جمالي قيد التكوين ، و التجدد خارج منطق الآلية .
هل هو تجاوز ثوري يستنفد الصوت في الأثر ، و الإيماءة ؟ أم أنه تأويل لمبدأ الحضور المؤقت للذات في الزمان ، و المكان ؟
إن الدخان الذي يتصاعد من النافذة الصغيرة ، يسخر من عملية التدخين نفسها ؛ إذ يعيد قراءة الوجود فيما يتجاوزه من تكوينات جزئية فريدة ، تمثل الصوت ، و تنتجه دون نهاية خارج بنيته الأولى .
و في نص " قطرة ماء " تتصارع في البطل حالات التهميش ، و العبث ، و التفاعل الإنساني المضاد للهيمنة ، و حضور المركز ؛ إذ يدخل السجن دون أن يعرف تهمته ، ثم يتحول صمته العبثي في السجن إلى تفاعل ينقلب على العبث من داخل مفرداته ؛ فقد شارك الحراس اللعب ، و نسخ الأوراق ، و أنجبت امرأة أحدهم ولدا أثناء إقامته معهم .
إننا أمام بزوغ لواقع خيالي يتولد من قطرة ماء في صحراء الهيمنة ؛ فالبطل يستبدل صورة القطرة ، و تختلط إيحاءات حضوره – في وعي الحارس – بالمرح ، و الخصوبة ، و العبث معا .
و في نص " إفراج " تتفكك هوية الراوي / البطل – الذي أفرج عنه لأسباب صحية – في ضياع خصوصية ملابسه ، و في اللحظات الإنسانية المبتورة التي يعكسها وعيه ؛ مثل تكوين الحارس ، و الساعة ، و المحفظة ، و قصاصات امرأة تستغيث بسبب حملها .
إن اللقطات الإنسانية السريعة في النص تستبدل الصوت المتكلم نفسه ، و سياق التعارض بين القوة ، و الضعف . إنها قراءة للحياة بوصفها مجموعة من التداخلات المعقدة بين الصور ، و الإيحاءات ، و الأصوات المفككة التي تقع بين الغياب ، و مرح الإيماءة ، و تحررها .
و في نص " أرزاق " يختلط الجنس بالمنطق الأبوي الذي يقاوم خطابه الأول من داخل خطاب الاستغلال ؛ فالرقيب يعيد بناء جسد البطل المهمش في سياق السخرية المعنوية من السجناء ، ثم يتحول شعوره الحتمي بالتفوق إلى ازدراء لأحدهم ، و هروب من الوظيفة الأبوية .
إن جسد البطل يجمع بين القهر ، و القوة ، و التوحد بإيحاءات الضعف ، و أخيلته ، و كأن الصورة المجازية للانكسار تمثل إكمالا لهامشيته ، و خروجا عنها في التحرر من صلابة الجسد ، أو اختلاطه بذاكرة الضعف .
و في نص " حكاية قديمة " يرصد الراوي حدث مرض صديقه ، ثم يشير إلى علاقة حب له مع امرأة سألت عنه أثناء الغيبوبة .
إن الأخر يتداخل مع بنية الحكاية القديمة ؛ إذ تتنازعه قوى الغياب ، و الحضور ، و التحول إلى أثر في السرد . الحكاية تفجر الحدث ، و تلج الشخصية ؛ لتقاوم منطق النهايات ، و قد يأتي الغياب في ذكرى تجدد الحب ، و أخيلة الخصوبة ، و كأنه عودة مجازية لأبطال الأساطير .
و في نص " الغرفة المجاورة " يتحول السياق الحتمي للأسرة المجاورة للراوي إلى لحظات إبداعية في وعيه ؛ فمحاولات استقلال الأم ، عقب غياب الأب ، و لوحات الولد تسير باتجاه نزعة فردية قيد التشكل من داخل دوال الغياب ، و التهميش . ثمة نزوع نحو البناء – في النص – ينمو من خلال التيمات التصويرية الإنسانية للولد ، و الأم خارج دائرة الانتماء للأب ، و قد قتل نصيا أثناء البناء غير الواعي للروح الفردية .
و في نص " جيران " يجسد الراوي قسوة التعميم على الشخصية ، إذ يتركها بلا ملامح واضحة ، أو وجود شخصي ؛ فالعائلات الثلاث تسكن شقة واحدة من ثلاث غرف ، و ذات مرة يلج الفران موقع عامل السكة الحديد في لحظة متكررة لغياب المعرفة . إننا أمام تغييب لمدلول الحياة نفسه في مجموعة من الأفعال الآلية ، و لكن تطور الوظائف السردية في هذا النص يقودنا إلى ملمح إنساني خفي ينتظر التحقق ضمن عمليات التكرار ، و الاستبدال ، و ذلك بتحويلها في اتجاه التجدد لا الغياب في القوى الكلية المهيمنة .
و في نص " هي ، و زوجها " يبدو حدث التوقف الممثل في شلل زوج جارة الراوي مفتتحا لمجموعة من التفاعلات الإنسانية الصامتة بين الشخوص . إن الزوج موضوع للحياة المختلطة بالعدم ؛ فجميع الوظائف السردية مثل ؛ الأكل ، و الاستحمام ، و الإخراج ، تتمركز حول جسده الذي يعاين حالات الجمود ، و إعادة التشكل ، و نقل أخيلة الموت الملتبس بوهج الحياة في الآخر / الراوي .
و سنجد حضورا بارزا لضمير الغائب في النص ؛ فهو نواة للمشاعر ، و الدلائل النصية ، و حركة الأشياء الصغيرة .
يقول السارد :
" أختار مكانا على السطح بعيدا عن تيارات الهواء كما توصيني امرأته ، و أضع فوطة على صدره ، أناوله الطعام ملعقة بعد أخرى ، أجفف ما يسيل من فمه بعد كل ملعقة ، أسهو أحيانا و لا أجفف فمه ، يدير وجهه بعيدا عن الملعقة " .
المتكلم هنا يسند نفسه للرجل / الموضوع ؛ إنه يؤول آلام الوجود في العالم من خلال الصراع بين التوقف ، و الصخب ، الإنذار بالموت ، و تجدد الحياة في التفاصيل الصغيرة الصامتة .
و تتداخل العوالم الجزئية الهامشية ؛ لتكشف عن تجاوز التصورات الكلية ، و التعقيد المميز للحياة الكونية في نص " تأهب " ؛ فقد ولد البطل حينما كانت الداية تعاين الموت ، و كان يصارع الجدي في مشهد يجمع بين المرح ، و الحرب ، و تحلل المعني ، بينما كانت الدول تتأهب للحرب العالمية الثانية .
تقترن إذا البدايات ، بالنهايات بقوة دون مركزية لأي من المجالين ، و يختلط الصراع بالعبث ، و المرح ، و السخرية من خطاباته الشمولية . و أرى أن هذا النص يحيلنا إلى بروز العوالم الهامشية فيما بعد الحداثة من جهة ، و قدرة السرد على تأويل الوجود الواقعي ، و الالتحام به في الوقت نفسه .
و قد ينحاز السارد للذات الفردية الأنثوية في نص " زواج " ؛ إذ يتعاطف مع البطلة التي ماتت عقب طلاقها من خليل ؛ بسبب انكسار الدولاب يوم الزواج ، و تشاؤمه من الحدث .
ثمة سطوة للقيمة في النص ، تزدوج بسخرية الأشياء منها ؛ إذ تملك وجودا استعاريا أقرب إلى الروح الفردية الأنثوية ؛ فالدولاب يحرر أخيلة البطلة من الأبنية الكبرى التي تمحو الهوية .
و في نص " اللوحة " تتجلى القيمة المجردة للحياة في الصيرورة الإبداعية للفن ضمن تصور الحكاية الواقعية نفسها ؛ فالراوي / فوزي يصف الوجود الاستثنائي للفنان الذي أتى به من مالطة ؛ إذ يعمل عاريا ، و لا يستحم ، و يرفض قطار الدرجة الأولى ، ثم تغتصبه إحدى الخادمات . و تزدوج الصورة السابقة بلوحة الفنان ، و فيها جياد جامحة ، و فتيات رشيقات .
اللوحة تجسد البدايات الدائمة للصخب .. التأهب للأداء خارج المفاهيم الثابتة ، و الحدود .. ذلك هو مدلول القصة عند محمد البساطي ، أن تقبض على المادة الفنية للحياة ، و دوالها الصغيرة الممثلة في صوت ، أو إشارة ، أو منظر ، أو مقطع من حكاية ، و هي دوال تستعصي على الأطر ، و التلاشي .
محمد سمير عبد السلام – مصر
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فودكاست الميادين| مع الممثل والكاتب والمخرج اللبناني رودني ح
.. كسرة أدهم الشاعر بعد ما فقد أعز أصحابه?? #مليحة
.. أدهم الشاعر يودع زمايله الشهداء في حادث هجوم معبر السلوم الب
.. بعد إيقافه قرر يتفرغ للتمثيل كزبرة يدخل عالم التمثيل بفيلم
.. حديث السوشال | الفنانة -نجوى كرم- تثير الجدل برؤيتها المسيح