الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الصورة الشعرية في القصيدة العربية

أبو الحسن سلام

2010 / 1 / 21
الادب والفن


للشعر جمالياته التى تختلف عن جماليات النثر. ومابين العاطفة في انطلاقها والفكر في تحديده يبرز دور المبدع في ضبط تجربنه الشعرية لخلق حالة توازن بين الإدراك الشعوري لعالم التجربة الشعرية وللعالم المحيط بها، مع قدرة فنية عالية في توازن الصورة الشعرية في وحدة تجمع بين نقيضين رئيسيين ، ونقائض فرعية تصب كل منها في واحد من منبعيهما ، دون أن يظهر شيء من تنافر أو نشوز في الصورة نفسها. فإذا كان الفكر وكانت القيم هما ركيزتي البعد الموضوعي ، وكان الأسلوب بعناصره الفنية وقيمه الجمالية هو الوسيلة التي يتيح المبدع بوساطتها للفكر وللقيم أن يتجسد ، وإذا كان موضوعنا هو وقفة تقديرية منهجية للشكل الفني في القصيدة العربية القديمة ؛فإن تقدير الشكل يرتبط بتقدير الفكر للقيم الموضوعية من ناحية، بينما ترنبط القيم الأسلوبية بأسسها المعتمدة في كل مدرسة أدبية أو فنية ، ويرتبط تقدير القيم الاجتماعية والثقافية والأعراف بالمشاعر بينما ترتبط القيم الجمالية بالذوق والدربة ( الخبرة) سواء كان قياسها عند بعض الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وبعض المدارس النقدية متباينا بين الشكل أو الموضوع أو اتحاد الشكل مع الموضوع أو بطبيعة المادة في ذاتها قبل التشكيل أو تبعا للحالة النفسية الذاتية لمتلقى الإبداع نفسه – كل على حده –
على أن ما يشغلنا في هذه المقالة هو طبيعة الصورة الشعرية في القصيدة العربية القديمة ، إنطلاقا من قصيدة ( الصمة بن عبد الله القشيري ) التي يقول فيها:

" أقـول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمــار
تمتع من شميم عرار نجــد فما بعد العشية من عــرار
ألا يا حبذا نفحـات نجـــد وريّـا روضة بعد القـار
وأهلك إذ يحل الحي نجـــدا وأنت على زمانك غير زاري
شهور ينقضين ولا شعرنا بأنصاف لهن ولا سـرار"

• مصدر القيمة الجمالية في الصورة الشعرية :
إذا قلنا إن تكوين الصورة الجمالية ، هو نتاج اجتماع عنصرين نقيضين كالحركة والسكون ، أو الكتلة والفراغ ،أو عنصرين متماثلين ومتباينين في آن واحد ؛ فإن ذلك الإقرار يلزمه التأصيل ، حتى تكون له مصداقية . ولما كان هذا الرأي قد انطلق من عمومية ؛ لذا وجب إثباته ؛ انطلاقا من التحليل الجزئي لإبداع الشاعر أو الأديب الروائي أو الفنان مسرحيا كان أم كان موسيقيا أم تشكيليا. ولذلك نقف في هذا المقال عند بعض من أبيات تلك القصيدة القديمة ، على أمل بأن يتواصل تحليلنا لعدد من القصائد الشعرية لشعراء قدماء ومحدثين ، أو معاصرين .

• تحرير الصورة الجمالية:
إن اتخذنا من عنصري الحركة والسكون ركيزة لتكوين الصورة الجمالية ؛ فإن حركة الصورة الصوتية وسكونها ، والتأثير الجمالي لاجتماعهما في وحدة الصورة الشعرية ينتجان القيمة الجمالية فيها.

• قيمة الحركة في الصورة الصوتية:
1- تتمثل الحركة في صوتيات تلك القصيدة ، في تنبيه القائل ( الشاعر) لصاحبه – في ظاهر التعبير ، وللمتلقي ضمنيا – بلفظ:" أقول " وهي فعل تمهيدي يؤدي إلى موضوع القول.

2- تتمثل الحركة في موضوع القول وهو ( التمتع) بشميم زهرة من نبت نجد الفواح ، وهي زهرة العرار الصفراء ذات الرائحة الزكية.

• جمالية الصورة الحركية في التعبير الشعري:

• تتمثل جمالية الصورة الحركية في هذا التعبير الشعري في قوله " والعيس تهوي" وقوله " ويحل الحي " ففي حركة الركائب وهي تحمل ( الشاعر) وتحمل ( صاحبه) السامع – المخاطب المستحضر في ذهنية وهو يحكي لنا ما كان بينهما – في المكان الذي يقع بين منطقتي ( المنيفة ) و ( الضمار) من أرض نجد ، تكمن الحركة .
وإذا كانت الصورة الجمالية تتكون من عنصرين نقيضين يجمعهما تكوين فني ما ، وتبينّا منهما عنصرا ما وهو عنصر الحركة فوجب التحرّي عن العنصر النقيض له في ذلك التكوين الأسلوبي الذي ضمهما. وفي الصورة الشعرية توحد في الفعل مع تنوع الفاعل ، أو اختلاف الفاعلين ، فضلا عن مراحل السرد الشعري ، وهي وحدات شكلية.

• الفاعل في الصورة الشعرية:

1- صاحب المشورة ( الشاعر) والمنفذ لها – ضمنيا – ( صاحبه) وكلاهما راكبا الناقتين.
2- الناقتان : حاملتا الصاحبين ( القائل والمخاطب)
فالفاعلون : بشريان وحيوانان وبينهما اختلاف في النوع.
والفعل: متوحد مع تدرج: ( فعل ظاهر عبر حركة العيس وهي تهوي أي تسير نزولا من "نجد"، وهي مرتفعة عن بقية الأراضي الحجازية – جغرافيا-




• زمن الفعل وهيئته:

يقع الفعل في الزمن المضارع من حيث ظاهره في سياق الجملة ، وهو ضمنيا مسترجع من صورة مضت في حياة الشاعر ، وقد أراد لها حضورا دائما عند كل من يتلقاها عبر العصور.
وهو من حيث هيئته فعل ساكن خلال حركة الراكبين على ظهري الناقتين. أما الاختلاف فقائم في الخركة بين العيس وراكبها ، فالعيس في حركة ، وتحريك ، والركاب في حركة أيضا لكنها حركة سكونية.

• دور الروابط في صنع الصورة الجمالية:
تدخل الروابط في البنية الأسلوبية هنا ضمن ( وحدات المعنى)، ومنها( الأساليب والحروف) مثل( أسلوب الشرط وجوابه المقترن بالفاء وأسلوب الطلب وأسلوب القصر وأسلوب النفي كما في قوله:

" تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار"

يحقق الأسلوب القصر – هنا - تعليل الطلب:( مشروعية الطلب) فالتمتع من الشميم لظهور العرار ( تلك الزهرة الصفراء الفواحة) برائحتها الزكية ، هو خشية الحرمان من التمتع بذلك مستقبلا، حيث سيكون الرحيل عن المنطقة نفسها. وتلك خصوصية المكان ؛ فظهور تلك الزهرة تلك الزهرة ليست في مكان غير مكان تواجد المتحدث والمخاطب - حتى وإن وجدت في كل مكان – وأسلوب الشرط المقترن جوابه بالفاء –هنا- يصنع تعليل طلب الطالب ، ويفيد أسلوب النفي قصر وجود حالة التمتع بهذا النوع من الزهور على ذلك المكان – على وجه الخصوص - أما الأسلوب الطلبي في لفظة : ( تمتع) فيفيد طلب الاستزادة ، واستشعار الفقد ، وشدة الانتماء إلى المكان.
وتصنع كل هذه الصيغة في وحدة المعني قيمة جمالية ؛ إذ تؤدي إلى خلق متعة سمعية لدى المتلقي بوساطة تلاؤم المفردات في نظام الصورة ، حتى تظهر نتاجا يتوحد فيه الجزئي مع الكلي ؛ ليتحولا إلى الخصوصية. فالتمتع صفة معنوية حسية كلية تخص كل صاحب حاسة ، والشم حاسة لدى كل كائن حي وهي عامة أو كلية - ما لم يوجد عائق - . غير أن شميم عرار نجد ، وإن كان متاحا لكل من في منطقة نجد ، في فصل الربيع إلا أنه – هنا – ( في الصورة الشعرية) مقصور على صاحب الطلب وصديقه ، لأنهما راحلان في الصباح ، وليس أمامهما في نجد إلا تلك الليلة . ومن هنا فإن ما هو كلى ، يتوحد مع ما هو جزئي ، لينتجا معا صورة خاصة ، بأسلوب خاص ، وهوية خاصة. وتشف الصورة في كلية هذا البيت الشعري نفسه عن دلالة الرحيل رغما عن الشاعر وصاحبه ، والتصاقهما بهوية المكان بكل ما فيه .

التدرج في التعليل ودوره
في صنع القيمة الجمالية في الصورة الشعرية

إن في تدرج التعليل قيمة توكيدية ، تستهدف إقناع المخاطب بقيمة الفعل المطلوب منه أدائه.
والشاعر في هذه القصيدة يعلل على لسان الطالب أسباب طلبه من صاحبه بأن يتمتع للمرة الأخيرة ، من شميم عبق نجد ممثلا في زهرة عرار حيّه ، قبل الرحيل عن موطنهما ، وهو رحيل يترتب عليه الحرمان من نفحات نجد ومن ريّا روضها بعد موسم الأمطار ، حيث تتحول المنطقة إلى حديقة مزدهرة كما يترتب عليه حرمانه من الأهل ، ومن قيامه بينهم ، دون أن يهتم بشؤونه لقيامهم عنه بذلك الأمر. وحرمانه من عدم الشعور بانقضاء الوقت وهو بين عشيرته وفي حيّه. والصورة تشف عن دلالة التوكيد على استمرار فعل الانتماء.
إن في هذا التدرج الأسلوبي في بنية الصورة ما يعمق فكرة الحرمان ، زمن ثمّ يدفع السامع نحو إنجاز الطلب الذي نبهه إليه صديقه الشاعر في مطلع البيت الافتتاحي من القصيدة. وفيه ما يوطن لأفق التوقعات عند المتلقي لها إذ أنها دعوة مفتوحة لكل من له سمع وهو أيضا دعاية سياحية لمنطقة نجد.

• تعدد الأساليب في الصورة الشعرية الواحدة:

إن في اجتماع أساليب متعددة في صورة واحدة ما يدل على التركيب في الصورة :
• تكرار حرف العطف مع تنوعه فيما بين حرف الواو ، وحرف الفاء في البيت الأول:

" أقول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمار"

• تتعدد الأساليب في البيت الثاني فيما بين الطلب والشرط والنفي:

" تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار "

• تعدد أساليب النداء والعطف ، وأسلوب القصر والتفضيل في البيت الثالث:

" ألا يا حبّذا نفحات نجد وريّا روضة بعد القطار"

• هذا البيت بما فيه من خصوصية وقصر وتفضيل لموطن الشاعر وقصر روضة نجد ، وخصها بالنفحات ، دون غيرها من نفحات ، وقصر التفضيل لها دون غيرها من المناطق ، مع أن الروض كلها ونفحاتها نتاج طبيعي ، يعقب موسم الأمطار في كل الأماكن والربوع التي تصيبها الأمطار الغزيرة المتتالية في موسم واحد.
• وفي البيت الرابع يوظف الشاعر في صيغة البيت أسلوب العطف وأسلوب الشرط :
" وأهلك إذ يحل الحي نجدا وأنت على زمانك غير زاري "

• أما البيت الخامس فيوظف في بنيته أسلوب العطف مع أسلوب النفي:

" شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار "

• يصنع هذا التعدد الأسلوبي في بنية البيت الشعري نوعا من التوكيد التعليلي لطلب التمتع من شميم عرار نجد ، ولأفضليتها على غيرها من المناطق ، ولقيمة الانتماء للديار ولمواطئ الميلاد والنشأة
• وفي البيت من حيث الشكل تؤدي أساليب ( التوكيد والتكرار والتقابل بين الطلب والقصر والتفضيل وأفق التوقعات ، والتخيص في صورة تعميم ) تؤدي كلها دورا في صنع جمالية الصورة الشعرية في تلك الأبيات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - النقد دراسة وتذوق
محمد يوسف ياسين النصار ( 2011 / 6 / 11 - 20:18 )
استاذي العزيز تحية وبعد اتفق معك ان الشعر له اساسياته في النقد تختلف عن اساسيات الفروع والاشكال او الاجناس الادبية الاخرى اذ يحكم النقد الشعري صياغة الشاعر واختياره للكلمة الموزونه فكريا وجماليا واسلوبه الذي يتناسب مع جماليات الفكر واحيانا يحكم النقد الشعري نوع الشعر النثري والمقفى واختيار البحر ومن ثم الصور الفنية لمعنى النص الكامن وراء الكلمة اوالمعنى العام منه بينما يحكم الاجناس الادبية الفكر اولا واخيرا وقبل كل شئ الى جانب جمالية النص ومدى ارتباطة بالواقع الى جانب معرفة الناقد بالكاتب من حيث فكره ومعتقده وحياته الاجتماعيه والبيئيه وقد يحتاج الناقد ايضا الى نبش اسرار الكاتب الاجتماعي.
النقد عملية شائكة تحتاج الى دراسة الى علم ودراية والى ثقافة عامة ومتخصصه وتحتاج ايضا الى ذوق فني من نوع خاص تحاول ان تقرأ ليس ما بين السطور فحسب وانما ان تنظر الى الصور ويحاول ان يترجمها الناقد الى صور حيه تتحرك امامه بصريا حتى يكتشف ملامح الجمال في النص .
اساس الابداع في النص يتوقف على الوضوح في جمالية النص واسلوبيته وفكره بشكل عام .

الخلاصة :
النقد ينبع من ثنايا النص من داخله لا من خارجها

اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل