الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفلام وأوهام وواقع افتراضي

احمد ثامر جهاد

2004 / 6 / 30
الادب والفن


بالنسبة لنظرة تقف عندَ ما هو ظاهر في القصة السينمائية سيبدو فيلم ( سيمون ) للمخرج ( اندريو بيكول ) دراما كوميدية خفيفة تكمن جاذبيتها تحديدا في إسناد دور البطولة للنجم الشهير ( آل باشينو ) . لكن من الممكن أيضا القول أن المفارقة هنا ذات مغزى على اكثر من صعيد ، في نقطتين تحديدا تقفان عموما لصالح الفيلم : الأولى إن المخرج تصدى بهدوء بالغ لموضوع شائك ومعقد يتمثل بواقع الأوهام التي نعيشها عبر الكثير من الزيف التقني ، فقدمه بإطار سينمائي بسيط ومقنع لم يخل بحيويته الفائقة وان اتسم بكوميديا الموقف .والثانية محاولته توظيف القدرات الادائية للنجم ( باشينو ) كممثل جاد برعَ في الأدوار الصعبة والمعقدة ، ووضعه في مشاهد كوميدية تهكمية ذات دلالة عميقة تسخر من عالمنا وتقدم العزاء لكل الذين ما زالوا يفكرون برومانسية الفرسان ويحلمون في سرهم بعودة الأيام الخوالي في عالم تحكمه الصورة .
أليس وجود ( باشينو ) في أي عمل سينمائي يؤشر انحيازا مسبقا لجدية الموضوع سواء عند المخرج أو المشاهد ؟ بهذا المعنى : هل تستطيع كوميديا من هذا النوع أن تضحكنا بمواجهة قسمات ( باشينو ) الحادة والحزينة ؟ ما الذي يتبقى من توصيف الفيلم بالكوميدي ونحن نشاهد طوال ساعتين تقريبا حكاية مريرة – تتوارى خلف مفارقة مؤسية - عن أزمة فنان يعيش في عالم فقد براءته ؟
سنرى في الفيلم ان الفنان هو المخرج فيكتور ترانسكي ( يؤدي الدور الممثل باشينو ) الذي احب الجمهور أفلامه وشخصياته .. تبدأ القصة من مشهد تصعيد درامي يمثل طرد ترانسكي لممثلته الرئيسة (وينونا رايدر ) بسبب مبالغتها في طلباتها وتقلباتها المزاجية بصفتها نجمة من طراز خاص . خلال الحوار يظهر ان ترانسكي ( يلاحظ دلالة الاسم ) كمخرج يكره ظروف العمل مع أشخاص لا يقدرون مواهبه وأفكاره ، لاسيما انه يقدم نوعا مختلفا من الأفلام الرومانسية يذكرنا بما كان سائدا في الفترة الذهبية للسينما الهوليودية حيث قصص الحب والنهايات الدرامية المؤثرة لأبطال جذابين يبدون غالبا على قدر من الوسامة والنبل والتعاسة . وفي الدقائق الأولى للفيلم نعرف ان ترانسكي يعيش حياة عائلية مضطربة بعد طلاقه من زوجته التي تشتغل في المجال السينمائي أيضا وكان لهما سابقا مشاريع واعمال مشتركة ، فيما لم يتبقى له الآن من دفء الحياة الزوجية سوى فتاة جميلة وطموحة تسعى على امتداد حكاية الشريط لعودة الوالدين لسابق عهدهما .
يلتقي ترانسكي برجل غامض ومهووس بفنون الكومبيوتر يدعى ( هانك ) يعرض خدماته عليه لمساعدته على تجاوز محنته ، وخلال الحديث يتضح ان هذا الرجل سبق له العمل ممثلا لدى ترانسكي قبل ثمان سنوات تقريبا . وبعد أيام من الإحباط يقضيها ترانسكي في منزله بعيدا عن أسئلة الصحافة التي تبحث عن الأسباب الحقيقية لخلافه مع ممثلته الشهيرة ، تتضح طبيعة الخدمة التي اقترحها هانك والتي أوصى بإيصالها بعد وفاته إلى صديقه ترانسكي ، وهي عبارة عن برنامج تقني متقدم لممثلة افتراضية حسناء منفذة بالحاسب تدعى سيمون .
تتبخر المفاجأة بعد حين ويقاد ترانسكي بفضول شديد للتعامل مع هذا البرنامج الذكي بسرية تامة . وبمرور الوقت تكون الممثلة الجديدة الشقراء متفوقة على سابقتها من ناحية إعجاب الجمهور بجمالها وأدائها الرائع ، تفوق المثال على الواقع !
تجتمع عدة أسباب لجعل ترانسكي يتحمس ثانية لصناعة المزيد من الأفلام بفضل نجمته المحبوبة ( سيمون ) التي تمتثل لتعليماته وتوجيهاته لها . لكن معالم الأزمة تظهر مع كل نجاح سينمائي منتظر ، فكلما حققت سيمون نجاحا جديدا في أفلامها ازدادت رغبة الجمهور في معرفة حقيقتها وطبيعة حياتها ومن أين أتت هذه النجمة غير المعروفة في أوساط السينمائيين ، والاهم من هي سيمون أصلا ؟
ولدى كل فيلم سينمائي يقدمه يهدى إلى ذكرى ( هانك ) يعلل ترانسكي عدم ظهور ممثلته أمام حشود الصحفيين والمعجبين بقرارها الشخصي في الابتعاد بحياتها الخاصة عن الآخرين رغم احترامها لمعجبيها . ويصر ترانسكي على إخفاء حقيقة الأمر ، فهو وحده الذي يلقنها كل الأحاديث والتصريحات التي تدلي بها ، ويرتب لها اللقاءات التلفازية عبر الأثير دون ان يلاحظ أحد شيئا غريبا في المسألة . لكن مع توالي الوقت ووصول هذه الشهرة إلى حدود لافتة تستوجب التحقق من حكاية سيمون وظهورها المفاجئ في عالم السينما وكذا تفوقها على باقي الممثلات ، يأخذ البعض على عاتقه ممن له خصومات مع المخرج مهمة البحث عما هو خفي ، إلى درجة تبدو مضحكة ومبالغ بها في أحيان كثيرة . كذلك تتحرى طليقة ترانسكي – التي تبدو مستفزة تماما وغيورة من ظهور سيمون في حياة زوجها – عن معنى ذلك السحر الذي لف الجميع في دوامته . وفي المهرجانات السينمائية تحصد سيمون الجوائز من دون ان تتقدم بكلمة شكر لصانعها ترانسكي الذي نسي بدوره ان يلقنها هذه الكلمة لنفسه فهي بنظره مرآة لرؤيته وروحه وتفكيره هو . وهكذا تتداخل الخطوط وتتعقد ليشعر ترانسكي انه اصبح مقادا بدرجة مذلة لهذه الصورة الوهمية ( سيمون ) ، بل ان شهرتها حددت فروضا قاسية عليه وجعلته فنانا تابعا أو سكرتيرا شخصيا لها ، وبالذات حينما بدأت تتخذ حياة خاصة لنفسها ، لكنه يدرك في الوقت نفسه ان الحقيقة الوحيدة هي في العمل ، ولاشيء سواه .
وبعد عدة مشاهد طريفة ومحبوكة تمتاز بالتصعيد الدرامي الشيق ، يعترف ترانسكي لزوجته السابقة بحقيقة سيمون ، فيقول لها : أنا الذي صنعتها .. وترد الزوجة بفتور : كلا هي التي صنعت شهرتك . لهذا نرى ترانسكي يفكر جديا بالتخلص من هذه الفوضى والعودة إلى سابق حياته ( عائلته وفنه ) ويقرر الانتهاء من سيمون نهائيا واعادة الجني إلى القمقم ، وذلك بعد ان فشلت كافة الحيل التي أراد بها تشويه صورتها أمام الجمهور عبر تقديمها بأدوار سخيفة وشخصيات مبتذلة أو الإدلاء على لسانها بتصريحات غريبة منافية للذوق العام ، ووسط ذلك كله لا يرى الجمهور بالطبع غير الفنانة الجميلة التي أدمن سحرها . وتبدو سخرية المخرج ( اندريو بيكول ) واضحة من جمهور هوليود الذي لا يميز البضاعة الجيدة من ركام النفاق الكريه لقنوات الدعاية وصناع الثقافة الاستهلاكية .
وبمواجهة هذا الجنون الصحفي والهستيريا الجماهيرية ، يدرك ترانسكي ان حلا أوحدا بوسعه إنهاء الصداع المؤلم الذي تسببت به تلك الكذبة ، وهو تدمير البرنامج والأقراص المدمجة ورميها في البحر : أي قتل سيمون للابد . ويتم هذا الأمر بنجاح ليعلن بحزن بالغ أمام حشد من الصحفيين والمعجبين : ان سيمون ماتت . يسألوه بشغف ودهشة : كيف ماتت ؟ فيرد بحزم : أصيبت بفيروس ، دون ان يلاحظ أحد ان ترانسكي كان في قمة تهكمه منهم . ولان الشرطة تعتقد مثل بقية الناس ان سيمون انسانة حقيقية ، تقوم عناصرها باعتقال ترانسكي أثناء مراسم دفن صورية لنعش فارغ . وتتراصف حول المخرج الساخر من كل ما يحدث له ، أدلة كثيرة تدينه بجرم القتل العمد ، فهناك من صوره خلال رميه لصندوق في البحر يُعتقد ان جثة الفنانة في داخله ، وكانت المفارقة ان الصندوق ضم جثتها فعلا لكن على شكل أقراص وملفات تمثل برامج تشغيلها الإلكتروني !
ويجد المحققون في سلوك ترانسكي كمخرج يحب ذاته اكثر من أي شئ آخر دوافع كافية من الغيرة والحسد والخلافات تؤهله للتخلص من خصمه الفني ( سيمون ) . وتبدو اعترافاته غير نافعة في درء التهمة عن نفسه ، من سيصدق ان النجمة الجماهيرية المحبوبة سيمون لا تتعدى كونها فكرة امتصت في لحظات معينة سخط ترانسكي على الممثلات الحقيقيات اللواتي يجملن أنفسهن كثيرا حتى ليبدون مزيفات اكثر من المزيفات أنفسهن ، ناهيك عن ارتفاع أجور الممثل الحقيقي . حينئذ نشاهد ترانسكي يقرر في اللحظات الأخيرة الاعتراف بما لم يرتكبه ، لكن المصادفة وحدها تنقذه أخيرا وعلى يد ابنته التي تعثر على نسخة أخرى من برنامج سيمون مخزونة على حاسبه الشخصي ، فتقوم الفتاة بترتيب تصريح يبرء الأب من تهمة القتل ، تلقيه سيمون من على شاشات التلفاز . وهنا تبدو الخدعة ثانية سيدة الموقف ، وكأن الناس لا يريدون تصديق ما هو حقيقي بقدر رغبتهم في العيش داخل الأوهام الجميلة ، طالما ان ليس في عالمنا الواقعي ما هو جميل على الدوام .
بالإضافة إلى الإتقان الملحوظ للسيناريو الذي وزعت أحداثه بشكل جيد على نقلات الفيلم ومشاهده الرئيسة ، بدت الشخصية ذات امتدادات درامية مقنعة ضمن الإطار العام لقصة الفيلم التي راهنت على التغير من بؤرة الحدث لا من الحوار فقط . فيما لم يقدم الفيلم أداءا تمثيليا ملحوظا باستثناء قدرات النجم ( آل باشينو ) الذي كان متوازنا ومسيطرا على الشخصية كعادته ، ورغم ذلك لا يمكن مقارنة دوره هذا بمستواه البارع في أفلامه المعروفة التي جعلته مؤخرا متوجا بلقب افضل ممثل في تاريخ السينما العالمية . وهل لنا ان ننسى أدواره في أفلام : رجل ذو ندبة ، العراب ، ريتشارد الثالث ، عطر امرأة ، طريق كارليتو ، حرارة ، حليف الشيطان …
ان فيلم ( سيمون ) على تواضعه يتأمل الواقعة من داخلها حينما يحاول العزف على موضوعة حساسة تخص عمل فنان السينما نفسه الذي يؤشر لنا في جانب من جوانبه حاجتنا الماسة لصنع الأوهام والعيش في ظلالها . . وأي إبداع يمكن لنا استثناؤه من هذه الرغبة ؟ هل تنجو الأساطير والفنون والثقافات التي تعمل جميعها بحماس وإتقان متفاوت لتغليب اللذة في الحياة على الطبيعة المأساوية للوجود .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأملات - كيف نشأت اللغة؟ وما الفرق بين السب والشتم؟


.. انطلاق مهرجان -سماع- الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية




.. الفنانة أنغام تشعل مسرح مركز البحرين العالمي بأمسية غنائية ا


.. أون سيت - ‏احنا عايزين نتكلم عن شيريهان ..الملحن إيهاب عبد ا




.. سرقة على طريقة أفلام الآكشن.. شرطة أتلانتا تبحث عن لصين سرقا