الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاجتياح

جمال بنورة

2010 / 1 / 23
الادب والفن


الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
انتهيت من مشاهدة فيلم تلفزيوني، وكنت أستعد للنوم، عندما قرع أذني رنين جرس التلفون.
شيء ما وخزني في صدري.
تلفونات أواخر الليل لا تحمل عادة أخباراً سارة..!
ما الذي سوف أسمعه الآن؟ من يكون؟ ولماذا؟ وفي هذه الساعة؟.. أسئلة عديدة قفزت إلى ذهني.. وأنا أتجه نحو الهاتف.
زوجتي أفاقت من نومها. حملقت عيناها في وجهي، باتساع لم أره من قبل، وأطلّت منهما نظرة فزع وترقب.
-الله يستر!
تمالكت أعصابي، وأنا أرفع سماعة الهاتف.
***
في الأيام الأخيرة –بعد اجتياح مدينة رام الله- كنّا نتوقع اجتياحاً إسرائيلياً للمحافظة.
نعلم أنه لن تنجو مدينة من الاجتياح.. هذا ما كان الجميع يتوقعه. وكان تقديري أن الاجتياح سيكون في ساعات المساء، أو الصباح الباكر، ولكن ليس عند منتصف الليل أو بعده بقليل.. ولم أكن أذهب للنوم إلا بعد اقتناعي أن الاجتياح لن يكون في تلك الليلة بذاتها..
كنت لا أريد أن أكون نائماً عندما يأتون.. لا أريد أن أُباغت بمجيئهم.. مع أن ذلك لن يكون مباغتاً إلا بقدر ما أكون غير مستعدٍ لذلك.
***
-هالو!.. قلت بصوت خفيض، حاولت أن أجعله هادئاً.
-عمي!.. انت صاحي؟
عرفت الصوت، رغم ارتجافه، ونبرة الفزع التي تخللته.
-أيوه.
-يعني ما صحتكش من النوم؟
خطر ببالي فوراً أن مكروهاً أصاب زوجها أو أحد أبنائها.
-لا!.. لا يُقلقكِ هذا الأمر.. تعلمين أنني أطيل السهر عادة.. ما الأمر؟
بصوت مرتعب، قالت:
-الدبابات الإسرائيلية تملأ الشارع.. أكثر من عشر دبابات قادمة من جهة المعسكر، وتتجه نحو البلد.. إحداها تقف الآن أمام البيت.
يقع منـزلهم على الشارع الرئيسي عند مدخل البلد من جهة الشرق.. تخيلت كيف ستكون عليه حالهم، والدبابات تزلزل البيت أثناء مرورها من أمامه. ولم أدر بماذا أرد.. فقد استحوذ علي شعور بالخوف والقلق والترقب.
-عمي!.. ما زلت تسمعني؟
-أيوه.. أسمعك..
-لا أدري ماذا أفعل!
قلت مصطنعاً البرود:
-ليس المفروض أن تفعلي شيئاً. الزموا البيت، وحافظوا على هدوئكم!
-رجلاي لا تحملانني من الخوف.. والأولاد يتصايحون حولي. أيقظهم هدير الدبابات.
خفت ألا يكون زوجها في البيت، لأن عمله في التمريض يتطلب النوم في المستشفى أحياناً. سألتها عنه. قالت:
-يحاول تهدئة الصغار.
وأضافت:-نحن نعيش في عتمة تامة!
-لماذا؟
-احدى الدبابات اقتلعت عمود الكهرباء، فأطفأت النور عن الشارع كله. هل تظن أنهم سيدخلون بيوتنا؟
-لا أحد يستطيع أن يعرف ماذا يخططون.. ولكن لو حدث، فليس هناك ما يستدعي الخوف.
استدركتْ:-الدبابات تتجه نحو البلد.. وأنا خائفة عليكم وعلى أهلي..
-أهلك نائمون الآن.. لا داعي لإخافتهم.. سأخبرهم في الصباح.
-لا تدع أحداً يخرج من البيت.. فقد بدأت أسمع صوت إطلاق رصاص.
-لا تقلقي من ناحيتنا.. سنعرف كيف نحافظ على أنفسنا. وسنظل على اتصال إذا جدّ جديد..
-مع السلامة يا عمي..
***
زوجتي تقف إلى جانبي مبهورة الأنفاس.. أصاخت السمع. بدا على وجهها أنها فهمت الوضع. قالت بصوت خافت:
-بدأ الاجتياح!؟
هززت رأسي موافقاً.
بعد لحظات:- افتح التلفزيون!.. قد يكون هناك أخبار عن الاجتياح.
على تلفزيون المهد قرأنا:"الدبابات الإسرائيلية تجتاح المحافظة من جميع الجهات." وظهر على الشاشة صورة مباشرة مأخوذة من موقع مرتفع في بيت لحم، تصور الدبابات وهي تتقدم من جهة الشرق. وما هي إلا دقائق حتى أصبح هدير الدبابات مسموعاً وهي تواصل طريقها في اتجاه بيت لحم. وكانت قافلة أخرى من الدبابات تتقدم نحو مركز البلد حيث أسكن.. وبدأنا نسمع دوي محركاتها وهي تقترب..
أُضيئت بعض البيوت المجاورة، وأطلّت رؤوس من النوافذ، تراقب وتستطلع.. وتُبودل حديث هامس بين الجيران، يخالطه إحساس بالخوف والترقب.
-بدأ الاجتياح..
-الجيش الإسرائيلي يطوق البلد!
-دوي الدبابات يقترب!
-كأنها آتية في اتجاهنا..
-بعضها يتجه إلى شارعنا.. هذا أكيد!
-ماذا يريدون منا؟
-هل سيداهمون بيوتنا؟
-كيف لنا أن نعرف؟
-هذا شيء متوقع.. سيبحثون في كل بيت عن مطلوبين.
-من الخطر أن تطلوا برؤوسكم!
-اختبئ واسكت!
-أطفئوا الأنوار!
وانطلقت في الجو أصوات رشاشات ثقيلة ودوي انفجارات.
-اختبئوا!
لم يبق رأس خارج نافذة. لم تعد تسمع أي كلمة. البنادق هي التي تتكلم. أسدلت الستائر. أُطفئت الأنوار. شرعت بارتداء ثيابي.
-ماذا تفعل؟
وهي تنظر إلي في استغراب، ولم أرد فأضافت:
-أين تذهب؟
-ليس إلى أي مكان!
-لماذا تلبس إذن؟
بعد صمت:-لأكون مستعداً.
-لأي شيء؟
ترددت في الإجابة. خجلت من الإجابة. أخيراً قلت:
-إذا بدأوا بتجميع الرجال، فلن يكون لدي الوقت الكافي لارتداء ثيابي.. هذا إذا توقف الأمر عند هذا الحد..
***
مع وصول الدبابات إلى بيت لحم، اندلعت اشتباكات عنيفة في محيط كنيسة المهد. كان دوي الانفجارات والرشاشات الثقيلة لا يكاد ينقطع لحظة واحدة.
في تلك الليلة لم يغمض لنا جفن.
مع بزوغ النهار، ابتدأت حملة المداهمات وتفتيش البيوت عن مطلوبين.. ومع لجوء المسلحين إلى كنيسة المهد شدّدت القوات المهاجمة من حصارها للكنيسة. وخلال النهار كان يتناهى إلى أسماعنا صوت اطلاق نار ودوي إنفجارات بين حين وآخر.. لم نكن نعرف حقيقة ما يجري حولنا، وأخذنا نستمع إلى أخبارنا من خلال شاشات التلفزيون.
استمر الوضع على هذه الحالة لعدة أيام.. اشتباكات متقطعة.. دوي انفجارات.. قنابل صوتية لإثارة الفزع، وإضعاف معنويات المحاصرين داخل الكنيسة.
في النهار كان الوضع يشوبه بعض الهدوء.. وفي الليل كنا نستيقظ على صوت انفجارات قوية، تكاد تزلزل البيوت من أساساتها، ونشعر كأنها ستهدم فوق رؤوسنا. وكاد الخوف أن يشل قدرتنا على التحرك.
ورغم كل الخوف الذي نحسه،فإن حظر التجول لم يمنع الناس من زيارة بعضهم، فقد تعودنا منذ الأيام الأولى للاجتياح –بعد مراقبة الطرق، والمنافذ المختلفة للحارة- على الالتقاء في أحد البيوت لشدّ أزر بعضنا أو تبادل الأخبار والتعليقات حول الأحداث الجارية، وأحياناً للعب الورق بقصد التسلية وتزجية الوقت. وعندما تظهر في أحد الشوارع القريبة مجنـزرة أو ناقلة جنود.. نفزع إلى بيوتنا مسرعين، وبعد ابتعادها نعود للتجمع من جديد.
كانت معظم التعليقات تدور حول حصار كنيسة المهد. قال أحدنا:
-إن الإسرائيليين يستعدون لاقتحام الكنيسة!
أجابه آخر:-لا أعتقد أنهم سيفعلون ذلك خوفاً من ردة الفعل لدى الرأي العالمي.
ردّ ثالث:-ومتى كانت إسرائيل تقيم وزناً للرأي العالمي أو القرارات الدولية؟
عاد الأول يقول:-لولا الخسائر المحتملة التي سيتكبدونها.. لاقتحموا الكنيسة منذ اليوم الأول.
قلت:-ألا يمكن.. أنهم يراهنون على عامل الزمن، أن تضعف المعنويات مع استمرار الحصار، بحيث يؤدي ذلك إلى الاستسلام.. دون أن يتعرضوا لخسائر بشرية.
وأضاف آخر:-أو على نفاد المؤن الموجودة داخل الكنيسة، كم يستطيعون احتمال الجوع في هذه الحالة؟
-ولكن هناك أخبار تقول أنه يتم يومياً تهريب المؤن إلى المحاصرين.. ولا أحد يعرف كيف يمكنهم ذلك!
قال صاحب البيت الذي نجلس عنده:
-هذا صحيح.. وأنا أخشى أن نجوع قبل أن يجوعوا هم.
***
مع استمرار حصار كنيسة المهد، وغياب أفق حل للأزمة.. استمرت المداهمات اليومية.. ولم يفارقنا الخوف من قدومهم إلى منازلنا.. فقد كان التفتيش يتم من بيت إلى بيت.. ولا بدّ أن يصلونا في النهاية..
واستحوذ علينا الخوف مما يحمله لنا المستقبل.
كنا نجلس منتظرين لحظة وصولهم.. وعندما يبتعدون نحس بشيء من الراحة.. يحدث ذلك عند المساء. ينسحبون ويتخذون لهم مراكز مراقبة في أطراف البلدة.. فننام متوقعين مجيئهم في اليوم التالي..
وابتدأ الخوف يصبح عادة يومية نعيشها أو سلوكاً يومياً نمارسه تلقائياً، وكأننا لا نحس به.. فقد التصق بنا حتى أصبح جزءاً منا.
وعندما سقط أول شهيد في البلدة لأنه تصدى للجنود وهم يحاولون هدم منـزله بحجة ايواء مطلوبين، وبقوة العادة، وبإحساس من الخوف والتحدي.. خرج الناس بالمئات في جنازة الشهيد، وهم يحملون الأعلام والشعارات، منددين بالاحتلال ومطالبين برحيل القوات الغازية. ورغم أن الجيش لم يتدخل خلال الجنازة، إلا أن الناس تفرقوا بسرعة بعد الدفن، متوجهين إلى بيوتهم، قبل أن تتدخل القوات الإسرائيلية لتفريقهم بالقوة.
***
تواصل الحصار، واشتدّ التضييق على الناس. واستمرت الاشتباكات والانفجارات تتوالى.. وعشش الخوف في قلوب الناس. ولكن كان هناك ما هو أقوى من الخوف ومن دوي المدافع والرشاشات.. انه رغيف الخبز وحليب الأطفال الذي كان يجبر الناس على المخاطرة بحياتهم والخروج من منازلهم بحثاً عن الطعام.
لم تكن ساعات رفع منع التجول كل بضعة أيام كافية للتزوّد بالمواد الغذائية.. إن وجد هناك من يملك نقوداً لذلك.. عدا عن المساعدات التي كانت تصل بين حين وآخر..
قال لي أحد الجيران:
-هناك خوف من نوع آخر غير الخوف الذي نحسه من قوات الاحتلال!
-ما هو؟.. سألت باهتمام.. فأضاف قائلاً:
-أنا أخاف أن أصبح فلا أجد طعاماً لأبنائي.. أنا لا يهمني الخوف من وجودهم.. أو من القتل الذي يمارسونه يومياً، فهذا شيء تعودنا عليه.. ولكنني لم أتعود على رؤية أطفالي يطلبون الطعام فلا يجدونه.. الخوف من عدم القدرة على توفير لقمة العيش هو الذي يُقلقني.. وليس المداهمات والاعتقالات. هل سنصبح شعباً يعيش على المساعدات.. وما تجود به نفوس المتخمين..؟ وحتى هذه المساعدات لا تصل دائماً إلى مُستحقيها.. وإذا وصل بعضها، فإن أغلبها يتحول إلى نقود في جيوب المتاجرين بقوت الشعب..
قلت بلهجة استنكار:
-لا أعتقد أن الأمور ستصل إلى هذه الدرجة!!
-بل هي وصلت فعلاً.. وأظنك تعرف ذلك.. ولكن من عادة الناس أن تضع رؤوسها في الرمل حتى لا ترى الحقيقة!
قلت في محاولة لتطمينه:
-الدنيا لا تزال بخير.. لا أعتقد أن أحداً يرضى أن يجوع جاره، مادام في بيته طعام.. وبالنسبة لك فأنا على استعداد..(ومددت يدي إلى جيبي).. لا تعتبر ذلك مساعدة.. بل هو واجب يمليه علي ضميري تجاه جار عزيز..
قال بشيء من الحدّة:
-ابعد يدك عن جيبك!.. لا زال لدي ما أملكه.. كما انها مشكلة عامة، وليست مشكلتي فقط.. ماذا تستطيع أن تفعل لشعب يعيش معظمه تحت مستوى خط الفقر؟..
-أعرف.. ولكن إذا ساهم كل بنصيب، أمكن التخفيف من المشكلة..
-إلى متى؟؟
-لا أحد يستطيع أن يعرف!.. فذلك يتوقف على وجود الاحتلال!..
-نحن نعرف ما اقترف الاحتلال بحقنا.. ولكن، لماذا نترفع عن لوم أنفسنا، وكأننا منـزهون عن اقتراف الأخطاء؟ هل تستطيع أن تقول لي أين تذهب الأموال التي تأتي لدعم صمودنا؟
والتزمت الصمت.. فلم أجد ما أستطيع الرد به..
***
مع انتهاء أزمة كنيسة المهد، من خلال صفقة الإبعاد مقابل فك الحصار، أعاد الجيش الإسرائيلي انتشاره في مواقع جديدة على مداخل المدن والقرى، مطوقاً المحافظة من جميع الجهات.
ولم يمنعهم ذلك من الدخول والخروج متى شاءوا.. ولم نستطع التخلص من الشعور بالخوف بسبب إحساسنا بقربهم منا.. فلسنا بمنأى عن متناولهم، ويمكنهم الوصول إلينا في أي وقت يشاؤون.. دون أن يتمكن أحد من اعتراضهم..
علق أحد الجيران على ذلك قائلاً:
-لم يختلف الوضع عما كان عليه.. فهم يدخلون ويخرجون متى شاءوا، دون أن يردعهم شيء عن ذلك..
قال آخر:-كنا نحس بالخوف عندما نراهم قادمين، أما الآن فإننا نحس بالخوف طول الوقت.. لأننا لا نعرف متى يأتون، ولذلك علينا أن نكون مستعدين دائماً لمجيئهم..
أكد جارنا العزيز قائلاً:
-لم يعد لحياتنا قيمة، لكي نخاف عليها.. ولم نعد نخاف الجوع، لأننا تعودنا عليه.. الخوف الذي نحسه الآن هو على مستقبل وجودنا على هذه الأرض.. الناس تحاول الهروب من الوضع بالهجرة، وإسرائيل تضع يدها، في كل يوم، على أراضٍ جديدة.. إن أراضينا تتلاشى تدريجياً أمام أعيننا نتيجة المصادرة وشق الطرق الالتفافية وبناء المستوطنات دون أن نستطيع عمل شيء لمنع ذلك.. فهل سيقتلعوننا نحن أيضاً من هذه الأرض كما يقتلعون أشجار الزيتون؟؟
أجبته قائلاً:-ليس لنا ضمانة تحول دون ذلك، سوى صمودنا على هذه الأرض!..
قال في تهكم:-هل تعتقد ذلك؟.. ولكن الصمود يحتاج إلى مقومات.. هل تتوفر لدينا مقومات الصمود؟؟.. وإلى أي مدى؟؟
قلت متسائلاً:-ماذا تعني؟؟
قال أخيراً بلهجة من ينهي حديثاً:
-لا أعتقد أنك تحتاج إلى إعمال الفكر طويلاً لكي تفهم ما أعني!!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال