الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


Persona non grata

مرح البقاعي

2010 / 1 / 30
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


ما هو دور المجتمع المدني المستقل في بناء أسس الحريات الفردية والتعددية الثقافية والمشاركة السياسية، والتأسيس لمجتمع ديمقراطي بدمغة "صُنع محلّيا"؟ وما هو سبب العجز "المدني" في المجتمعات الشرق أوسطية بعد أن كان فاعلا في القرنين الثامن والتاسع عشر؟ وكيف يتناقض استقلال الدول العربية مع حراكها المدني؟ وما مصلحة النظم الأحادية في احتكار الحركات المدنية، أو تهميشها حتى محوها من على خارطة الفعل الاجتماعي والسياسي؟

من نافل القول أنه في ظل الفراغ المؤسسي السياسي والمدني للدول ذات الصيغة السياسية الشمولية، تصبح البيئة مهيأة لتكاثر الفطريات الأمنية التي تشكل بؤرا ضامنة لاستمرار النظام السياسي الذي ولّدها وتحالف معها لتمكين استمراره النفعي. هذه البؤر "العسكرية بالمراس والممارسة" تقع، حُكما، على طرف النقيض من مؤسسات المجتمع المدني الذي يقوم على حالة من الائتلاف الشعبي غير النفعي، والذي يتراجع تلقائيا في ظل هيمنة سلطة النظم الأحادية التي عمادها العسكر والأمن.

أرى في هذا السياق أنه لا بد من إعادة قراءة التاريخ من أجل استيعابه والخلوص بنتائج معرفية تساعدنا، كمجتمع، على الخروج من كمّاشة الاستقطاب والتجاذب السياسيين العاليين.

كوني عاقرت التجربة السورية في التسعينات، فإنني سأتخذ من الحالة السورية نموذجا. فمنذ بداية عقد الستينات في سوريا، حدث ما كان أشبه بعملية "تغريب منظّم" ـ إن لم نقل "تهجيرا" ـ للأدمغة السورية، وقد زُجّت أسماء أصحابها في الملفات الأمنية لكونهم أشخاصا غير مرحّب بهم (Persona non grata)، وذلك لخروجهم على منظومة الرعيل "الأحادي" القابض على السلطة؛ وكذا حدث إجهاض دوري مبرمج لتيارات الفكر التنويري الحر؛ وسلخ موتور لمقدرات الاقتصادات البرجوازية؛ وكان قد نُفّذ ذلك، مُجْتمِعاً، بأدوات وتوجيهات رسمية، تفاوتت مفاعيلها بين إخماد حراك الرموز الفكرية، أو تركيعها، أو دفعها ـ قانطة ـ للهجرة خارج البلد. لقد كانت تلك الرموز/الصفوة، والتي تشكّلت من حوامل المجتمع السوري الثلاثة: الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، كانت عقل الحراك السوسيولوجي في سوريا ما قبل النظام الأحاديّ، في مناخ تمتّع في حينها بقدر من التنوير الثقافي، والحريات السياسية، والاقتصاد الحيوي في ظل نظام السوق شبه المفتوح، وتداول رؤوس الأموال بصورة معلنة ومقننة وبشفافية ومساءلة عاليتين. غادرت تلك القوى والفعاليات الفكرية والسياسية والاقتصادية، مكرهةً، سوريا، وانتشرت في العالم، مُخلِية الساحة لما تطور بصورة مطردة، وعبر عقدين من الزمن، إلى طبقة من الأليجاريكية القابضة، ماليا وأمنيا، على زمام العباد قبل البلاد، هذا في ظل صراع شرس على السلطة بين تيارين سياسيين متناطحين: "القومي" بتمظهراته العسكرية، و"الديني" بإسقاطاته الأصولية؛ التياران اللذان لم يتمكنا من بناء دعائم الدولة السورية المعاصرة والمرتجاة.

هنا يصبح دور المؤسسات المدنية غير الربحية وغير الحكومية صميما من أجل التأسيس لنهج مجتمعي سياسي تجديديّ يدعو إلى تحرير الفكر وتفعيل الحريات وتداول السلطة وإحياء مفهوم المواطنة في الحق والواجب في آن، نهج يحتفي بالحرية ـ جوهر الممارسة الديمقراطية، الحرية المسؤولة ذات العمق الأخلاقي القِيَميّ، الحرية التي لا تصطدم مع الهوية، بل تؤكدها في أولويات العمل السياسي من استعادة السيادة الوطنية كاملة على الكرامات الإنسانية والأرض والمقدّرات؛ حرية تنفي النهج العصابي الشوفيني في تقديس الدولة، وتنبذ دورها الضاغط على الحياة العامة بجلّ حمولاته الربوبية التي تتمظهر في علاقة العصا والجزرة بين العبد المستلب (الشعب)، والسيد المتسلّط (القبضة الأمنية)؛ حرية يساهم مريدوها في إعادة بناء دولة المؤسسات التي تشكّلُ الديمقراطية أُسَّها، والشفافية والمحاسبة نهجَها، وصندوق الاقتراع الشفيف الحَكَمَ الفيصلَ منها.

المشروع المدني هو أقرب إلى حركة تحديث سوسيوبوليتيكي شامل. فالشعوب التي تعيش في دائرة القهر والعسف والنهب المنظّم في ظل غياب أية قيمة للحريات الفردية والعامة، تحتاج إلى زمن ليس بالمقتضب، وإلى عمل كثيف وموصول، من أجل التأسيس لهذه الثقافة التغييرية مستندة إلى تجربة الفكر التنويري العالمي في سياقه التاريخي؛ الفكر الذي أسس لحضارة ترفع من شأن الإنسان/الفرد أولا، وتمنحه المساحة الحيوية لممارسة حقوقه وحرياته كافة، موازاةً لما تغرس فيه من مسؤولية أداء واجباته الوطنية غير منقوصة، ليكون، بالنتيجة، شريكا فاعلا في صياغة مستقبل مجتمعه، قياسا إلى كفاءاته، وبغض النظر عن انتمائه الديني أو القومي أو السياسي.

المشروع المدني ليس مشروعا لإعادة ترتيب البيت السوري وحسب، بل هو نموذج تنويري للعالم العربي بأسره من أجل المساهمة في نشر ثقافة مدنية تجديدية فاعلة، تشكل المسألة الديمقراطية جزء لا يتجزء منها، وعنصرا فاتحا للتغيير المنشود في ثقافة المجتمعات العربية. إن الثقافة المدنية، مضافةً إلى القراءة المعاصرة للحريات العامة والفردية، هي أبسط ما ترنو إليه شعوب المنطقة العربية، والتي تكاد تكون متجانسة في أجنداتها السياسية وفضائها الثقافي. وليست التجربة العراقية إلا دليلا مريرا ـ لا نريد له تكرارا ـ لحاجة شعوب هذه الساحة من العالم إلى رؤية معاصرة للتجديد المؤسسي السياسي، والترشيد الاجتماعي، والتحديث الثقافي، الأمر الذي لا يستوي إلا إذا كان حامله "كتلة وطنية" من جمع الضمائر الوطنية البيض الخُلّّص.

سلام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيسة حزب الخضر الأسترالي تتهم حزب العمال بدعم إسرائيل في ال


.. حمدين صباحي للميادين: الحرب في غزة أثبتت أن المصدر الحقيقي ل




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من المتظاهرين من جامعة كاليفورني


.. The First Intifada - To Your Left: Palestine | الانتفاضة الأ




.. لماذا تشكل جباليا منطقة صعبة في الحرب بين الفصائل الفلسطينية