الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة العربية إلى إصلاح حقيقي

عبدالله تركماني

2010 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


من المؤكد أنّ موجات الإصلاح في العالم العربي، التي ارتبطت باللافتات الكبيرة والشعارات الضخمة وتحدثت دائماً عن " اللحظة التاريخية " و " الإصلاح الشامل "، كلها لافتات لا تعبّر عن جوهر مستقر أو فكر واضح، كما أنّ عملية الإصلاح لم تتم أبداً بآلية تنفيذ مستمرة وفقاً لجدول زمني محدد، بل وجدت الحكومات العربية مبررات دائمة في التأجيل أحياناً والنكوص أحياناً أخرى بدعوى الوضع الإقليمي والمخاطر في المنطقة، فتأجلت كل البرامج الجادة لتطوير التعليم والارتقاء بالثقافة وتوطين التكنولوجيا ودمقرطة الحياة السياسية، وحلت بديلة عنها المواقف المظهرية والخطط العاجلة واسترضاء العامة، بالنفاق تارة وبتزييف الحقائق تارة أخرى.
وفي الواقع ترتكز عملية الإصلاح الجادة على المؤسسات والسياسات، ثم مناخ الثقة الذي تصنعه العلاقة بين المؤسسة والسياسة في إطار حكم ديموقراطي يعبّر عن إرادة الشعوب وتطلعات الأمم. والأمر الملاحظ في عالمنا العربي أنّ الحاكم الفرد أقوى من المؤسسة، بينما المطلوب هو العكس تماماً لأنّ المؤسسة باقية بينما الحاكم الفرد متغيّر، إلا أنّ التجربة العربية المعاصرة طبعت في الأذهان دائماً مفهوم التركيز على الحاكم الفرد وتضخيم دوره والإقلال من قيمة المؤسسة، وجعلها مطية له وأداة لتحقيق طموحاته وأطماعه بغض النظر عن المصلحة العامة. وإذا كنا نفكر في الإصلاح، فإننا يجب أن نعي هذه النقطة جيداً لأنها نقطة محورية وعلامة فارقة بين التأخر والتقدم، فالدولة تقوم على المؤسسات، لا على بضعة أفراد، والدولة القوية تتميز بوجود مؤسسات راسخة ذات تقاليد ثابتة لا تتأثر بتغيير الأفراد أو تناوب القيادات.
أما السياسات التي تصب - في النهاية - في خانة القرارات الأساسية التي تتخذها الدولة في المواقف الوطنية والتحولات المصيرية، فإنّ نجاحها مرتبط بكفاءة المؤسسات. وهنا تبرز أهمية مناخ الثقة الذي يوفق بين التقاليد المستقرة للمؤسسات والمرونة المطلوبة في السياسات، وغني عن البيان أنّ مناخ الثقة لا يتحقق بغير الحريات الواسعة والمشاركة السياسية القوية والطرح المستمر للأفكار والمبادرات التي تحيل الدول العربية إلى قوة فاعلة ولا تجعلها عالة على العصر.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى ملاحظات ثلاث: أولاها، أنّ الحديث عن الإصلاح تحول لدينا إلى ما يمكن تسميته بـ " موضة سياسية " فأصبح يتحدث عنه الجميع، ربما من دون مضمون حقيقي أو اقتناع كامل. كذلك فإنّ الإصلاح أصبح أمراً تنظر إليه الأطراف المختلفة كل من زاويته، وجرت عملية تحميل للمسؤولية من كل طرف على عاتق الطرف الآخر وكادت تتوه الحقيقة إلى حد كبير، كما تبنت الإصلاح ذاته قوى هي أبعد ما تكون عنه ولكنها تتاجر فقط به. وثانيتها، أنّ هناك توجساً من تعبير الإصلاح، فالنظم ترى فيه إشارة سلبية إليها بينما ترى فيه أوساط واسعة من العامة احتمالاً للمساس بهويتها، خصوصاً عندما جرى حديث متكرر حول الإصلاح الثقافي بل وتجديد الخطاب الديني أيضاً. وثالثتها، أنّ في ذاكرتنا العربية موجات إصلاح ونوبات تغيير، لذلك فإننا يمكن أن نتبنى تياراً إصلاحياً ذاتياً مصدره وجدان الأمة وتراثها على نحو لا يتعارض مع هويتها أو يعبث بشخصيتها، وفي الوقت نفسه منفتحاً على ثقافة العصر ومعطيات مجتمع المعرفة.
وكي لا يبقى هدف الإصلاح شعاراً غائماً كغيره من الشعارات، فلا بد أن تتوافر فيه الشروط الأربعة التالية:
1 ـ التأسيس لحياة ديموقراطية دستورية تتجاوز حكم التسلط وتكون قابلة للتطور حسب حاجة تقدم المجتمع وتطلعاته، وحسب المعايير العامة التي كرستها المواثيق العالمية.
2 ـ تطوير وتطهير الجهاز الحكومي وسائر الإدارات بما يتلاءم ومنطق دولة القانون والمؤسسات، فالديموقراطية وسيلة غايتها الحكومة الرشيدة.
3 ـ أن يكون في مقدمة واجبات هذه الحكومة الرشيدة السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، بما يتجاوز معسكري الغنى الفاحش والفقر المدقع، ويتفادى تفجير الصراعات الأهلية والنزعات المتطرفة وانقسام الوطن بين من يملكون ومن لا يملكون.
4 ـ التأسيس لمؤسسات مجتمع مدني حرة في ضميرها ورأيها ومسلكها القانوني، قادرة على الخروج من بوتقة العصبيات التقليدية من تكوينات قبلية وطائفية ما قبل وطنية، في إطار من الفكر المنفتح والحوار المسؤول.
إنّ تأجيل عمليات الإصلاح الداخلي للمجتمعات العربية، بحجة القضايا الكبرى والمعارك القومية وبدعاوى مثل " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " وغيرها، إن لم يكن سذاجة وتبسيطاً مخلاً، فهو موقف يصب – عملياً - في خانة المستفيدين والمنتفعين من تأجيل الإصلاح وتأخيره، وهم حراس الفساد المقيم الذين يتمنون مثل هذه الانشغالات الشعبية بالمعارك الكبرى بل وينفخون في نارها ليخلو لهم جو العبث بالمقدرات العامة، ملتقين في ذلك موضوعياً، ودون الحاجة إلى تفسير تآمري، مع مختلف القوى المعادية للأمة التي تريد لها أن تستنزف قواها في معارك بعيدة، خارجة عن إرادتها، ونائية عن متناول يدها، لئلا يتنامى أنموذج عربي فعّال وملموس، قادر على التعاطي المجدي معها في الأرض العربية.
وطبيعي أنّ أي مشروع للإصلاح، بعد عقود من الجمود، لا يملك عصا سحرية وحلولاً عاجلة لكل شيء، وإنما هو البداية الصحيحة، والخطوة التاريخية السليمة، لفتح الأبواب وتمهيد الطريق لمسيرة الإصلاح والتغيير بالتعاون بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني بما فيها جميع التيارات الفكرية والسياسية المؤثرة في الرأي العام. المهم أن يبدأ التوجه الصحيح والمخلص نحو هدف الإصلاح الشامل من دون تأخير وتسويف، وبعدها فهي مسؤولية الوطن كله ومختلف قواه في نقل المشروع الإصلاحي، في تطوره الطبيعي، إلى آفاقه المتوافق عليها.
ففي سورية، مثلاً، أثارت الإجراءات التي يتخذها العهد الجديد في اتجاه الإصلاح الاقتصادي والإداري انتعاشاً كبيراً للآمال في بلد ظل مغلقاً خلال ما يقارب الأربعين عاما، لكنّ هذه الإجراءات لا ينبغي أن تغطي على واقع أنّ خروج سورية من النظام السياسي الشمولي لا يزال إشكالياً بالمعنى العميق للكلمة، ولا تزال السلطة فيها، بالرغم من المظاهر السطحية، حكراً على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال مفهوم المواطن ضعيفاً لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية فما بالك بالدفاع عنها أو المطالبة بها. وقد دلت التجربة على أنّ السلسلة الأولى من الإجراءات الانفتاحية التي تساهم في إنعاش النظام لا تطرح مشاكل كبيرة على الممسكين بالسلطة، بل إنها تبدو لهم الطريق الوحيدة لإنقاذ الحكم من الركود الاقتصادي والجمود السياسي الذي يهدد بأعظم المخاطر. لكنّ الأمر يختلف بعد ذلك عندما تنفتح عملية التغيير على إجراءات تتضمن حداً أدنى من تداول السلطة أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بجدارته السياسية.
إنّ دوائر الحكم المغلقة خلقت من السلطة في العالم العربي مركز جاذبية لبعض عناصر الولاء وعنصر طرد لبعض عناصر الثقافة، ما أدى إلى هوة بين المنتمين إلى النظم والأغلبية الصامتة التي اختارت اللامبالاة طريقاً، وثرثرة النقد بديلاً من التحرك السياسي أو العمل العام. وقد يقول قائل إنه من الطبيعي أن تكون للحكم - أي حكم - دوائر مغلقة، فالمطبخ السياسي في النهاية يحتوي مجموعة صنع القرار، وهذا أمر متفق عليه ولا جدال فيه ولكنّ المشكلة الحقيقية هي ديمومة المسؤولين داخل الدائرة الواحدة بحيث يبقى بعضهم لما يقترب من العشرين عاماً أو يزيد في منصبه، وهذه ملاحظة تستحق التأمل لأنّ عطاء المسؤول في الموقع الواحد لا يمكن أن يكون متجدداً ومؤثراً في ظل ظروف الاستمرار الذي يجب أن يخضع لحدود العمر الافتراضي لدينامية البشر في المنصب الواحد، فإذا ما تجاوزوه فقدوا الصلاحية الذهنية وأصبح عملهم تكراراً رتيباً غير فعّال، فضلاً عن ما يمثله ذلك من جناية على الأجيال الجديدة وحرمانها من فرص عادلة.
إنّ حيوية النظم مستمدة – أساساً - من تدفق الدماء الجديدة وجذب العناصر المتميزة والحملات اليقظة ضد الفساد المالي والإداري، بل والسياسي أيضاً، لذلك فإنّ النظم التي تعتمد على الدوائر المغلقة لا تخرج منها العناصر المترهلة بسهولة ولا تدخل إليها العناصر القادرة إلا بصعوبة أيضاً، بحيث تبدو في النهاية مثل البحيرات الراكدة التي لا تتدفق إليها مياه من المنبع ولا تخرج منها مياه إلى المصب. ومن هنا الحاجة إلى إعادة الصياغة والبناء والتركيب للحياة والمجتمعات العربية على أسس جديدة باستثمار الطاقات المعطلة والانخراط في إعمال مفهوم الجدوى للمفاهيم والقيم والنظم، التي تثمر معرفة وثروة أو قدرة وقوة، بها نحسّن السمعة ونستعيد الكرامة المهدورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طارق متري: هذه هي قصة القرار 1701 بشأن لبنان • فرانس 24


.. حزب المحافظين في المملكة المتحدة يختار زعيما جديدا: هل يكون




.. الرئيس الفرنسي يدعو إلى وقف الأسلحة نحو إسرائيل ويأسف لخيارا


.. ماكرون يؤيد وقف توريد السلاح لإسرائيل.. ونتنياهو يرد -عار عل




.. باسكال مونان : نتنياهو يستفيد من الفترة الضبابية في الولايات