الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنيس صايغ: رجل «المسار العلمى» الذى أقلق إسرائيل

نظيمة سعد الدين

2010 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


حتى إذا وصلتَ فى الموعد المحدد، يُشعركَ أنيس صايغ بأنكَ تأخرت. ذلك لأنّ حرصه على الدقّة يجعله مستعداً للموعد قبل حلوله.هذا هو انيس صايغ الذى قابلته فى حياتى مرة واحدة ،وسمعت حكايات ممن عملوا معه جعلتنى أتمنى أن اجلس بجواره عمرى كله لأنهل من علمه الذى لاينفذ..فكان اللقاء بفندق أمية بدمشق أكتوبر الماضى وكان صايغ كعادته ينتظر مجموعة من الباحثين الذين ينتظرون حضوره القليل مؤخراً،نتيجة لتقدمة فى السن ..وحركته التى أصبحت بطيئة،لكى يتناقشوا معه فى أفكار وقضايا يحملونها فى سبيل القضية..فهم لايملكون إلا الجهاد بالقلم.

**من أين تبدأ؟ وكيف تلخص حياة الرجل المليئة بالإنجازات؟ تنظر إلى حجمه الضئيل، وتقول لنفسك: لا بدّ من أنه شغَّل أكثر من شخصٍ فى داخله كى يفعل ما فعله. ثم إنك لا تنجح فى إبعاد فكرة أنه واحد من عائلة صايغ الشهيرة التى أصدر عشرة من أفرادها أكثر من مئة كتاب معظمها مشهور.

وترأس ثلاثة منهم رئاسة تحرير عشر صحف يومية ومجلات شهرية. وأنه رابع ثلاثة من الصيَّاغ الكبار: يوسف الذى ألَّف عشرات الكتب والدراسات الاقتصادية، وترأس اتحاد الاقتصاديين العرب سنوات عدة. وفايز المفكر والقيادى فى الحزب السورى القومى، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً. وتوفيق الشاعر، صاحب مجلة «حوار» التى طبعت فى الستينيات.

**البداية:ولد أنيس صايغ فى طبريا الفلسطينية لأب سورى كان قسيساً إنجيلياً، وأم لبنانية من البترون. كان الإخوة يدرسون بالجامعة الأمريكية فى بيروت ويعودون إلى طبريا. بعد النكبة، نزح صايغ مع العائلة إلى لبنان. استعاد جنسيته اللبنانية عام 1958 ثم جنسيته السورية عام 1973. الانتماءات الثلاثة جعلت الإخوة قوميين سوريين بالولادة. يوسف وفايز كانا عضوين فى الحزب. أما هو فكان واحداً منهم من دون عضوية رسمية. لم يكتفِ أنيس صايغ بهوياته الثلاث، فزادها بزواجه من أردنية. يضحك حين تقول له إنّه جمع مجد الحزب القومى السورى من أطرافه.

**نكبة فلسطين:أراد صايغ أن يدرس التاريخ، لكن الجو السياسى والحزبي المحموم في الجامعة الأميركية، وتزامن ذلك مع نكبة فلسطين، أوقعه فى فخّ السياسة. صايغ الذى رافقه شعور بالندم على ذلك، وجمع لاحقاً بين شغفه بالتاريخ وتخصّصه فى السياسة من خلال عمله مديراً لمركز الأبحاث الفلسطيني والموسوعة الفلسطينية. قبل ذلك، سينشر، طالباً، مقالاته التاريخية الأولى في جريدة «الحياة»،بعد التخرج (1953) حتى التحاقه بجامعة «كامبردج» (1959) كتب فى «النهار» و«الأسبوع العربى». خلال تلك الفترة، أصدر كتابه الأول: «لبنان الطائفى». ثم ابتعد عن القوميين وصار ناصرياً. نشر كتباً أخرى وعمل فى تحرير عدد من الموسوعات والقواميس، قبل أن يبدأ مشروع حياته.

**مشروع حياته:فى عام 1966، وصلته ــــ وهو فى لندن ــــ برقية من شقيقه فايز الذى كان قد أسس مركز الأبحاث بمنظمة التحرير الفلسطينية أوائل عام 1965، يطلب منه الاجتماع مع أحمد الشقيرى، رئيس المنظمة وقتها، للبحث فى مشروع سبق أن تحدث معه بشأنه وهو إصدار موسوعة فلسطينية.

قدم فايز استقالته، وكُلِّف هو برئاسة المركز والعمل على إنجاز الموسوعة معاً. طوال عشر سنوات، استأثر المركز بكل طاقته ووقته ووجدانه، فضلاً عن ترؤسه لتحرير مجلة «شؤون فلسطينية» التى أسّسها عام 1971. صار المركز أنيس صايغ، وصار هو مركز الأبحاث. يضحك وهو يستعيد مخاطبة الوزير السابق فاروق البربير له فى ندوة تكريمه بـ«عزيزي أنيس مركز الأبحاث».

كان مركز الأبحاث أهم إنجاز ثقافي فلسطيني. هناك عمل وتدرّب عشرات المثقفين والكتاب الذين يعتبرون مرورهم بالمركز لحظة تاريخية ومفصلية في مسيرتهم الإبداعية الشخصية. مع المركز ــــ و«مؤسسة الدراسات الفلسطينية» ــــ تحولت القضية الفلسطينية من مسار عاطفى خطابى، إلى مسار علمى موضوعى وموثَّق ..لقد عرف الإسرائيليون معنى مركز الأبحاث وخطورته، كانوا يعرفون إن المركز لم يكن غطاء معرفيا للعمل العسكرى، بل كان مركز بحث وتوثيق. لذا خافوا منه وتعاملوا معه باللغة الوحيدة التى يتقنونها، ارسلوا طردا مفخخا لأنيس صايغ، ثم قصفوه بالصواريخ.. وقد اعتدوا عليه ثلاث مرات فى النصف الأول من السبعينيات، ثم احتلاله عام 1982 وسرقة وثائقه ومعظم مكتبته، ثم تفجيره عام 1983..لعلّها من سخريات النضال الفلسطينى أنّ المركز تعرَّض لمضايقات وتدخلات من قائد هذا النضال، الرئيس ياسر عرفات. فى آخر تدخُّلٍ من أبو عمار، أقفل صايغ الهاتف فى وجهه، وقدّم استقالته.

**وراء تلك التجربة الكبرى: كان انيس. لقب الدكتور التصق به كأنه رتبة كهنوتية، إذ كان يشيع من حوله جوا ملتبسا تمتزج فيه قداسة القضية بقداسة المعرفة، وذلك الترجرج الذى وسم العلاقة بين قيادة ياسر عرفات وبين الثقافة والمثقفين. صرامة ابن القسيس وعقائديته التى بدأت مع المناخ القومى السورى ثم انتقلت إلى المناخ العروبى، اصطدمت ببراجماتية فتح، والمناخ شبه القبلى والعشائرى الذى حملته معها. لذا وجد أبناء القسيس عبد الله: فايز ويوسف وأنيس أنفسهم خارج معادلات التركيبة الفلسطينية الجديدة، وابتعدوا واحدا بعد الآخر عنها، وبأشكال مختلفة.

لكن انيس صايغ لم يبتعد عن فلسطين. فالرجل كالعديد من أبناء جيله، كان يريد للوطن الضائع أن يتجسد فى شخصه وكلماته ونمط حياته. مع انيس صايغ تتعلم إن فلسطين ليست قضية فحسب، بل نمط حياة.وانك تستطيع أن تكون فدائيا فى كل تصرفاتك. وان أصابع يده اليسرى المبتورة، وعينيه شبه المطفأتين، والصواريخ التى قصفت مركز الأبحاث، هى اوسمة على صدر الثقافة، لأنها تضعها فى دائرة الفعل، وتجعل من مؤرخى فلسطين صانعين لتاريخها.

فهو الذى علمنا أن فلسطين ليست قضية سياسية فقط، بل هى أولا فكرة، وقضية ثقافية. نقول للدكتور انيس وداعا، وننحنى لا كى نوسده الأرض فقط، بل كى نمسح حزن الأرض بأجفاننا، ونقول لفلسطين إننا باقون على العهد حتى الموت.لعلَّ علينا أن نخاطبه اليوم بـ«عزيزى أنيس مركز الأبحاث»

** إنتاجه :أصدر عشرين كتاباً، وأسس مجلة «شؤون فلسطينية» ثم «المستقبل العربي» و«شؤون عربية»، وترأس تحرير مجلة «قضايا عربية»، وأسّس «اللقاء الفلسطينى» الذى ظلت جلساته مستمرة حتى رحيله. ولكنّ المركز بقى يختصر تلك الحياة الخصبة، حتى بعد استقالته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف